لا يشكل الخط العربي فقط أداة تجسيد اللغة الحاملة للخصائص الحضارية والتاريخية والنفسية والمخيال الجماعي، بل يحمل هذا الخط أقدس رسالة خص بها العرب إلى جميع بني البشر في الزمان والمكان، وهي القرآن، وبهذا المعنى أضحى الخط العربي يتمتع بميزة مقدسة لم تتوفر لغيره من الخطوط لكل اللغات المتعارف عليها في العالم·
وبهذا المعنى أيضا اجتهد العرب وجهدوا ليعطوا الأحرف العربية المكانة الأعلى والمنزلة الأرفع التي منحها القرآن الكريم على إيقاع آيات الوحي،يتردد صدى إيقاع الكلمات المكتوبة ليحتل الخط العربي في جو من الصمت مكانة الكلام الشفي ويصل بالنص النهائي إلى ذروة الكمال والجمال الفني·
الكتابة العربية
ونجد أن عربية القرآن تعود في منشئها إلى لهجة عرب الشمال (شمال الجزيرة العربية) التي اشتقت بدورها من اللغة النبطية التي كانت مشتقة بدورها من اللغةالآرامية· وأقدم أصل معروف للكتابة في الجزيرة العربية هو ذلك المدعو بالجزم وقد انتشرت كتابة الجزم شيئاً فشيئاً حتى أصبحت لغة كل العرب عندما نزل القرآن بها وخلدها·
ويتميز فن الخط العربي بالأشكال الانسيابية، والرسومات الهندسية الصعبة،فتدفق هذا الفن العربي الذي أطلق عليه'الفن الروحي' من أقلام العرب على مر الثلاثة عشر قرنا الماضية·
وقد شكل التراث الكتابي والتصويري والتشكيلي بعمومه جزءا من التراث الفكري العربي، ولهذا فما ينطبق على مفردات التراث المختلفة، ينطبق على الجانب المتعلق بالكتابة والخط،تطويرا وتجويدا وتحسينا،فالضرورة ملحة لاحيائه والتعريف به والمحافظة عليه وتحويله من شكل جامد الى طاقة ابداعية تسري في كيان المجتمع وتتقدم بوسائله·
'الاحرف الذهبية' هو عنوان المعرض الذي افتتحه قنصل عام تركيا بدبي السيد احسان يوجيل قبل أيام بقرية الغوص والتراث في الشندغة،ويضم احدى وأربعين قطعة ومخطوطة تصل قيمتها الى المليون وربع المليون درهم·
ويشارك في المعرض الذي يستمر طيلة شهر رمضان الكريم ثلاثة من كبار الخطاطين والمذهبين للخط العربي الاسلامي الكلاسيكي من تركيا هم معموري أوز ،معمر سميح أرتيس ورجب سينجيز الذين ينتمون الى مدرسة فن الخط والتذهيب في متحف قصر توبكاي في اسطنبول أو ما يطلق عليه اسم 'نقشانيسي' الذي يعد موطنا لفن الخط العربي الاسلامي الكلاسيكي ومقرا للخطاطين المحترفين،ويقوم الفنانون الثلاثة بتدريس فنون الخط العربي الاسلامي في نفس المدرسة بقصر توبكاي·
فضل الاتراك
وإذا كانت اللغة التركية قد تحولت عن الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني في عام 1926م، إلا أن عباقرة الخطاطين ظلوا يؤدون رسالتهم المقدسة: ألا وهي رسالة المحافظة على الحرف العربي بجماله وقمة إبداعه·
الخطاطون الاتراك الذين تجمعهم سمة واحدة أساسية هي التقليدية، ينسجون على منوال سابقيهم بشكل مجود لا ينزع الى التجديد، وربما كان ذلك بسبب تحول الخط عندهم الى فن تقليدي بعد غياب حروفه عن التداول اليومي، وبالتالي عدم تعاملهم معه خارج اللوحة مما يشكل قصورا في العلاقة بينهم وبينه، وهم يركزون أو يبرعون في الأداء التقليدي للخطين اللذين وضعهما أجدادهما في اطار القدسية أو في قفص القدسية الذهبي وهما الثلث والنسخ، بينما لا نجد البراعة نفسها حتى في الخطوط التي ابتكرت لاستخدامات غير دينية في العصر العثماني، أو في الخطوط التي وصلت الى العثمانيين ولم تتفق مع ذائقتهم، أو حتى خط التعليق الذي ارى أنه تشوه في الأداء التركي، وينطبق ذلك على الخط الديواني الذي ابتكر في العصر العثماني والذي نقله العرب نقلة نوعية جمالية في كل من مصر وبلاد الشام والعراق، في حين أغفلوا كل أنواع الخطوط الكوفية التي تجاوزت السبعين وكذلك الخطوط المغربية، ولم يضف الاتراك جديدا في عصرنا الراهن·