عماد ملاح
بيروت - الاتحاد
بعد غياب طويل، تعود الليالي الرمضانية الى لبنان بزخم وحيوية· تطغى مظاهرها على التفاصيل اليومية التي تشغل عادة بال اللبنانيين· وابرز مظاهر هذه الليالي، الأنوار التي تتلألأ في معظم شوارع المدن والقرى، تضفي على الليل مذاق السهر مع 'غصة' بين فينة واخرى، سببها انقطاع التيار الكهربائي حسب برنامج التقنين الساري المفعول منذ سنوات طويلة·
الايقاع الحياتي لشهر رمضان في التسعينات فقد الكثير من مضامينه وروحيته، وغلب عليه المنحى الاستهلاكي البحت· سهرات رمضان في السابق كانت تتميز بالتقارب الاجتماعي والزيارات بين الاهل والجيران لتوطيد اواصر المحبة والروابط الانسانية· والمسافة شاسعة بين سلوكيات الشهر الفضيل في لبنان الخمسينات والستينات والسبعينات ولبنان الالفين· فالواقع الحالي يعكس طغيان المظاهر الاجتماعية، واستغلال المناسبة الفضيلة لغير مفهومها الديني·
لقد استبدلت بعض العائلات -الغنية منها- حميمية سهراتها المنزلية، بسهرات في الخيم حيث الكل في احلى حالاته، استعداداً للظهور امام 'الكاميرا' الحاضرة على الدوام لنقل وقائع السهرات على شاشات التلفزيون، اثناء وصلة لمطرب الخيمة، تتراوح بين الموشحات وآخر صرعات الاغنيات الشبابية· يتبادل الساهرون احاديث ليلية عبر 'هاتف خليوي'، ويدخنون 'نفس معسّل' عبر نرجيلة طهمازية، فيما اطباق الفول المدمس والمناقيش والحلويات على انواعها وشراب الجلاب والسوس، يطوف بها النادلون بأزيائهم الفولكلورية بين الطاولات والخيم التي ترافق الشهر الفضيل وتطغى على غيرها من المظاهر·
طبعاً، هذه العادات الغريبة عن الشهر الفضيل، اثارت ردود فعل شاجبة لدى المراجع الدينية التي حملت عليها وعلى وتسميتها بالرمضانية، لأن لها منحى تجارياً يعتمد الترفيه البعيد عن مفاهيم رمضان وتقواه·
خيم للطبقة الميسورة
الخيمة الاولى التي نصبت في وسط بيروت التجاري عام ،1995 نقلت عادات شعبية مصرية استقطبت معظم العائلات البيروتية لبساطتها وعفوية النادلين المصريين فيها· الا ان النجاح الذي حصدته شجع الكثيرين على اقتباس الفكرة، وانتشرت ظاهرة الخيم عاماً بعد عام حتى اكتسحت تقريباً معظم الاحياء، فبات لكل فندق خيمته، ولكل خيمة طابعها الذي يتراوح بين الشعبي او التجاري او 'البرجوازي' المفرط في مظاهره الانيقة وتعليقاته العصرية، وبالطبع لكل خيمة مطرب ومطربة وحكواتي و'منولوجست' ايضاً·
احياء الليالي الرمضانية لم يكن يستوجب رسم دخول كما هي الحال مع سهرات بعض الخيم، او حجزاً مسبقاً مع الزام الساهرين بتناول الفطور او السحور وبأسعار غير تشجيعية لا يقدر عليها سوى الميسورين، لأن كلفة السهرة للشخص الواحد تتراوح بين الـ25 الى 50 الف ليرة لبنانية وأكثر·
ففي الماضي، كان وجهاء بيروت يستقدمون بعض المنشدين والمقرئين المشهورين ومنهم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ مصطفى اسماعيل، وخصوصاً للاحتفال بذكرى غزوة بدر الكبرى، وذكرى فتح مكة، ثم الاحتفال الكبير بليلة القدر من الشهر الفضيل، وهو يقام في جميع مساجد بيروت ويشارك فيه اللبنانيون في مختلف المناطق، يتقدمهم رجال الدين والشخصيات الفكرية والسياسية، اضافة الى الحشود الشعبية·
الظاهرة الدخيلة
وتعبير الخيم الرمضانية غريب عن وجه البلد عامة، فعهد اللبنانيين بالخيم مقطوع، وخلو الساحة الترفيهية من أماكن للقاء لا تستنفذ ما في جيوب المواطن، وتخفف الضغط عن كورنيش البحر، كانت ولا شك وراء نجاح هذه (الموضة - الظاهرة) المرشحة للاستمرار والتكاثر في ظل الوضع المعيشي المتفاقم، الذي يحول أكثر فأكثر بين المواطنين وبين الصفوة منهم، رواد المطاعم وملاهي الليل المستديمين·
اما حرب الشائعات التي تعم البلاد فلا تقتصر على الاجواء السياسية فقط، بل ان هذه الحرب امتدت الى الخيم الرمضانية، وكلها تتعلق حول من بدأ بالفكرة اولاً، اي فكرة موضة الخيمة الرمضانية·
في فندق 'الفينرهاوس' كانت توضع قطعة قماش للسرادق داخل مبنى الفندق، فيتحول الى خيمة ترمز الى ايام زمان أطلق عليها تسمية قهوة 'الماوردي'·
مدير الخيمة حسان فخري قال: الفكرة كانت اننا نبحث عن رمز لايام زمان، لذلك وضعنا خيمة داخلية، ثم اقفلنا الشرفة بعد سنتين وحولناها الى خيمة للسحور والأفطار، وزدنا عليها بعض الافكار مثل الطاولة والمغنى ولعب الورق والنراجيل· اما من ناحية الصبغة المصرية فهو القماش المستعمل في الخيم المصرية عادة، وهو غير موجود في لبنان· فالخيم عندنا لونها كاكي، ومصر مميزة بالقماش المسمى 'الصيوان'، والمستعمل في مصر عندما يتوقع حضور الكثير من الناس· والفكرة جاءتنا من سرادق الحسين في رمضان·
إسعاد الناس
اما خيمة 'كنتاكي تشيكن' التي كانت موجودة على الروشة، فيقول المسؤولون عنها، انها كانت تنقل التراث المصري في رمضان الى لبنان، وبالرغم من ان الخيمة لا علاقة لها 'بالكنتاكي'، الاّ انها وجدت من اجل اسعاد الناس، والاطباق التي كانت تقدم كانت لبنانية، وان رغب بعضهم بالوجبات السريعة فلا مانع، اضافة الى بصارة وحكواتي من طرابلس·
الخيمة البلاستيكية التي اكتسبت شهرة كبيرة وازدانت بشعاري الجمل والهلال (شعار الحزب الوطني الحاكم بمصر في الانتخابات) كانت مقهى الحلمية في السمرلند قبل قفله، والتي يقال انها اول خيمة رمضانية انشأت خلال الاسبوع المصري في لبنان الذي اقيم في الفندق المذكور، وهي ان حملت الأسم المصري الا ان الأطباق والعروض كانت مزيجاً لبنانياً - سورياً·
خيمة ابو العبد
'ابو العبد' الرمز البيروتي العريق افتتح تحت لافتته مطعماً وخيمة ومقهى رصيف يحمل اسم 'ابو العبد' ويرفع شعاره· والداخل الى المقهى يشعر بالإنتقال الفوري الى بيروت مطلع القرن العشرين، بكل الاجواء الشعبية وكراسي الخيزران والخوابي الفخارية واحجار الرحى·
المقهى كان يستعرض لوحات فنية تراثية، وامسيات شعرية في محاولة لاسترجاع عز بيروت العاصمة الثقافية العربية، ولجذب الزبائن والأشقاء العرب· ارض المقهى خارطة تحمل اسماء الشوارع البيروتية، والجدران يغطيها السجاد العجمي والى جانبي المسرح رسمان لأبو العبد مع أمثلة مستوحاة من التراث البيروتي·
اما برنامج السهرة فهو مسل وطريف· العود هو النجم واغنيات سيد درويش وعبده الحامولي وزكريا احمد وام كلثوم وعبد الوهاب 'يدندنها' مطرب المقهى· اما 'المونولوجيست' نعيم فكان يقدم النكات والفوازير والأغنيات الانتقادية التي كان يشتهر بها الفنان الراحل عمر الزعني في الاربعينات· والمقهى كان يختص بتقديم الأطباق البيروتية التقليدية كحلوى المفتقة، ومختلف انواع الفتة والشاي بالنعناع والبيض بالقاورمة والكشك· ويخدم الزبائن نادلون يرتدون السروال والطربوش الأحمر·
اما هذه السنة، فإن اجتياح الخيم للأمسيات الرمضانية يبدو خجولاً نوعاً ما، ويقتصر على أماكن معينة مثل خيم 'الموفنبيك' و'الفينيسيا' و'الماريوت' 'وحبتور غراند اوتيل' و'مونرو' الخ·· حيث يقال ان عددها حوالي خمس عشرة خيمة، فيما تحظى صيدا وطرابلس بخيمة واحدة·