ما زلت الى هذه اللحظة أحاول جاداً أن أعصر الفكرة تلو الفكرة لأجسد أمامكم هذا الصراع الأزلي الدائر بين الحق والباطل، ومع هذه المحاولات الساذجة أعود فأسأل: من أنا·· وما أكون حتى أجسد الصراع؟ أتراني استطيع ذلك؟
ما أنا إلا ذرة في محيط هذا الكون أحاول أن ألملم أطراف الحقيقة، ولكن الحقيقة أكبر من قدراتي وتصوراتي، ولا تحسبوا ان صراع الحق مع الباطل سيطرق يوماً باب النهاية ولن تغرب شمسه، انما هو صراع مستمر منذ بدء الخليقة·· منذ خلق آدم والى لحظتنا هذه··
إذن فالصراع محتدم بل هو على مرجل يغلي، وكما ان للحق منطقاً، فإن للباطل منطقاً كذلك، ولكن يبقى منطق الحق هو المنطق الحق، ومنطق الباطل هو المنطق الباطل، ولكل شيء ثوبه، وكل إناء بما فيه ينضح، فما هو المنطق؟ إن المنطق بمعناه البسيط هو اخضاع الفكرة لقبول العقل، وان شئت فقل: انه تقبل العقل لذات الفكرة فتعالوا معي نعش هذه اللحظات مع منطق الباطل لنرى جانباً من جوانب خداعه وزيفه ومخاتلاته، وتعالوا نرجع سوياً الى الوراء·· الى الوراء البعيد حيث حديث النفس الذي كان يوجهه إبليس إلى آدم·· تعالوا نر لعبة الإغراء التي كان وما زال يتقنها إبليس، واذا كان إبليس تلميذاً بارعاً في علم الإغواء، فإن من البشر من صار أستاذاً في هذا العلم وصار أحدنا يقول بكل جرأة، لقد كنت من جند إبليس، فارتقى بي الحال حتى صار ابليس من جندي·
ما الفرق بين آدم وبين إبليس؟ ان الفرق بينهما كالفرق بين الماء والنار·· الماء يروي ويحيي الأرض الموات، والنار تأكل الأخضر واليابس·· آدم يستقي الفكرة من ماء الغمام وابليس يستقي الفكرة من الماء الراكد وهل هناك انتن من الماء الراكد؟
اسمعوا ماذا قال منطق الباطل، وتأملوا كيف أراد إبليس ان يخادع ويغالط·· اسمعوا الى معسول الكلام·· ولكن كم من كلام طاب في السمع وقعه·· كلام كالقبر حفته الزهور وتحته رميم دفين·· فماذا قال إبليس بمنطوق القرآن لآدم؟ قال له: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى'·
خلد·· وملك·· ما هذا؟
إن لك رنيناً في الكلام يا إبليس، وإن لك لوقعاً، وانظروا كيف بدأ إبليس خطابه وإغراءه بحرف 'هل' وهو حرف لا يفيد السؤال هنا في حقيقته ولا يفيد الاستفسار، انما هو حرف يفيد التلطف والتأدب، وهل لإبليس أدب؟ لا·· لكنه الإغراء وأساليبه الملتوية·· وهذا تأدب وتلطف زائف، أما اذا أردت ان تقرأ التأدب الحق والتلطف الصادق فاقرأ معي قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام وهو يقول للخضر: 'هل اتبعك على ان تعلمني مما علمت رشدا'·
وهنا يظهر الفرق بين 'هل الموسوية' وهل 'الابليسية' فإن الاخيرة فيها السم كله وفيها المغالطة كلها·
هل أدلك على شجرة الخلد·· أي خلد؟·· اي خلد هذا يا ابليس؟ أتريد ان تدل آدم على أسباب خلوده الجسماني في الحياة؟ وهل للخلود اسباب؟ هل للخلود سبل ومسالك؟ ان الأسباب كلها لا تؤدي الى الخلود، فكل ذي غيبة يؤوب، وغائب الموت لا يؤوب·· أي خلود هذا والكل يسير الى مجراه، والكل يدور في فلكه الى ساعته المحددة·· الكل سينتهي عند نقطته المحتومة·· أي خلود هذا والله يقول لحبيبه ومصطفاه 'إنك ميت وانهم ميتون'·
ثم تأمل معي كيف استطاع إبليس ان يقرأ فطرة البشر وحقيقة رغباتهم، فالإنسان قد فطر على حب الخلود حقاً، وفطر على حب التملك، والا خبروني: أهناك من يعشق الرحيل ويهوى الفناء؟ الكل يريد ان يعيش·· الكل يهتف ويقول: نج سعد فقد هلك سعيد·· الكل يقول: أنا والطوفان من بعدي··
انه الصراع على البقاء·· الكل يحب التملك·· فصاحب البيت يتمنى لو كان بيته قصرا، وصاحب القصر يتمنى لو كان قصره أعجوبة من عجائب الدنيا وصاحب الأعجوبة يتمنى لو كانت أعجوبته هي الأعجوبة الأوحد في عالم الدنيا··
وإذا كانت تلكم الشجرة هي شجرة الخلد صدقاً وحقاً فلماذا لم يأكل إبليس منها؟ ألا يجب أن يكون من المخلدين في الأرض؟ وان كانت تلك الشجرة من مسببات الملك الذي لا يبلى، فلماذا تنازل عنها إبليس؟ ولماذا آثر آدم على نفسه؟ ولكن من جهله فقد عرفه، ومن عرفه فقد جهله·
إبليس أراد ان يزين الصحارى ولكن الصحارى هي الصحارى·· وأراد ان يطيب طعم السموم ولكن السموم هي السموم·· أراد ان يسمي الأشياء بغير أسمائها ويضع النقاط على غير حروفها، ولكن حقائق الأشياء ثابتة·
ويظل الصراع محتدما، تارة تحت الشمس، وتارة أخرى خلف الكواليس·· وان للجميع موعدا تنكشف فيه الحقائق، وتعدو الوقائع عارية إلا من ثوب الحقيقة·· وهناك الملتقى·
عيسى عبد الله العزري / العين
؟ رأي الناس: 'مرحباً بعودتك الى الصفحة وسعداء بمشاركتك معنا'·