الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجل يكتب سيرته بحكمته وصلابته

رجل يكتب سيرته بحكمته وصلابته
5 ابريل 2012
صدر مؤخرا عن جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم كتاب “لمحات من حياة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله” للأديب الشاعر إبراهيم محمد بو ملحة مستشار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي. وصدور الكتاب عن الجائزة مناسب تماما فالفقيد الكبير كان قد اختارته الجائزة شخصية العام الإسلامية لعام 1999م ومنحته الجائزة في حفل أقيم خصيصا في أبوظبي، وقام بتكريمه راعي الجائزة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لدوره الكبير في خدمة الإسلام والمسلمين في شتى أنحاء العالم. والكتاب في 272 صفحة في حجم كبير وإخراج أنيق مع صور منتقاة مناسبة لفصول الكتاب المتعددة، وقد أهدى المؤلف الكتاب لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، وكتب تقديم الكتاب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حفظه الله فقال: “.. لم يشهد تاريخنا المعاصر شخصية قيادية مثل زايد رحمه الله في كثير من ميزاته وصفاته التي أهلته لقيادة بلاده وأمته، تلك القيادة الحكيمة التي أثمرت تنمية ونهضة وحضارة حتى غدت دولة الإمارات في عهده دولة حديثة بكل ما في الكلمة من معنى إذ استطاعت في زمن قصير جدا أن تجتاز مراحل من البناء والتنمية لتصل إلى أعلى درجات التطور والمدنية التي يشهد بها العالم..”. كما قال إنه سعد بقراءة هذا الكتاب الجميل الممتع. ويتذكر المؤلف بوملحة في مقدمة الكتاب كيف أنه عندما تخرج عام 1972 من الثانوية كانت هناك في دبي مدرستان ثانويتان فقط وكان يذاكر دروسه على مصابيح دوارات الشوارع قبل التطور الكبير الذي أتى به زايد ودولة الاتحاد. مرحلة التكوين وفي الفصل الأول المخصص لمولد القائد التاريخي يذكر المؤلف أن الشيخ زايد تعلم في بداية عمره في الكتاتيب، وأن مدرسته كانت مجالس والده اليومية الذي تولى الحكم في إمارة أبوظبي ما بين 1922 و1926، وكان حاكما حازما يحبه الشعب وتعلم منه زايد أصول التعامل مع الناس على اختلاف شرائحهم وكيفية استقبال الضيوف، كما كانت تشده مجالس الشعر فصاغ الشعر حتى أصبح شاعرا نبطيا مرموقا، ودائما ما حظي لديه الشعراء بمنزلة عالية. وعندما توفي والده كان الشيخ زايد في الثامنة وأثرت في شخصيته والدته الشيخة سلامة بشكل واضح كما يذكر المؤلف. وكانت الشيخة قد أخذت عهدا على أولادها أن يتعاونوا على مصلحة البلاد. واهتم الشيخ زايد بكتب الدين والسيرة وتاريخ أجداده من بني ياس كما تعلق بشعر المتنبي. ولعل أهم المراحل الخصبة الأولى في حياته تلك التي قضاها في مدينة العين التي عين حاكما رسميا لها عام 1946، وهناك مارس الشورى كما أتقن ركوب الخيل والصيد والقنص. وقد أصلح الأفلاج القديمة وشق أفلاجا جديدة وكان ينزل فيها ويشارك الناس العمل بيديه. وساوى بين الفقراء والأغنياء في السقاية واستصلح الأراضي وقدم مساعدات مادية وعينية وإرشادية للمزارعين فاتسعت رقعة الأرض المزروعة في العين. وأمر ببناء المدارس وأدخل في المنهج تدريس الإنجليزية إلى جانب العربية، وفتح مدارس للبنات في العين كما بنى أول مستشفى هناك في وقت لم يكن في العاصمة أبوظبي مستشفى علاجي آخر. ويقول ولفرد ثليسجر عنه في كتابه “الرمال العربية”: “استطاع أن يكسب قلوب وعقول مواطنيه وأن ينال شهرة بين البدو”. التعمير والبناء وفي الفصل بعنوان “مرحلة التعمير والبناء” يذكر المؤلف أن جزءا كبيرا من أبناء الإمارات كان متغربا للعمل في دول الخليج لمحدودية العمل في الإمارات وعندما بدأت عجلة التنمية في أبوظبي في بداية حكم زايد عاد الكثيرون والتحقوا بالعمل في أبوظبي. ودفع الشيخ زايد أبناء البلاد نحو التعليم من خلال مجانيته، بل وتقديم المواصلات ووجبات غذائية كل يوم وملابس مدرسة ومنح مبالغ مالية لكل الطلبة تشجيعاً. وفتح أبوظبي أمام أبناء الإمارات الأخرى وظهرت أبوظبي كورشة عمل لا تهدأ نهاراً وليلاً وتحولت من قرية صغيرة إلى مدينة حديثة جميلة خلال سنوات قليلة. وقد سخّر الشيخ زايد دخل البترول لبناء الوطن وتطوير أبناء الإمارات وفي البداية ساهم في صندوق تنمية الإمارات الذي أنشأته بريطانيا. ثم شمل أبناء العالمين العربي والإسلامي بذات التوجه. فأينما ذهبت في أقطار العرب والمسلمين تجد مآثر الشيخ زايد في شكل المدن والمستشفيات والسدود (ومنها سد مأرب في اليمن) والطرق والمدارس وغيرها من المشاريع الخيرية. وعندما توفي الشيخ زايد لم يبكه أبناء شعبه فحسب، بل بكته الشعوب العربية والإسلامية أيضا، وأشادت بذكراه الشعوب الأخرى فهو فائق الكرم وأيضا رجل سلام عالمي. حكاية الاتحاد وفي الفصل عن قيام الاتحاد يقول المؤلف المستشار بوملحة إن زايد كان يقتفي خطى سلفه الشيخ زايد بن خليفة (1855 ـ 1909) الذي سعى لتوحيد الإمارات، ولكن بريطانيا أجهضت جهوده. وبعد أن أعلنت بريطانيا عام 1968 عن عزمها الوشيك للانسحاب من منطقة شرق السويس خطط الشيخ زايد مع أخيه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي لقيام اتحاد ثنائي بين أبوظبي ودبي ويقول المؤلف: “وأجمل ما قرأت في شأن التمهيد للاتحاد الثنائي بين إمارتي أبوظبي ودبي أن الشيخ زايد بعث إلى الشيخ راشد بن سعيد بخريطة أبوظبي وطلب منه أن يضع بنفسه على الخريطة حدود دبي كما يريد”. وجميع من روى حدث الاتحاد الثنائي روى أن مكان الاجتماع كان في منطقة (السميح) ولكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي حضر الاجتماع التاريخي في 18 فبراير 1968 صحح هذه المعلومة للناس موضحا أن الاجتماع كان في (عرقوب السديرة). وقد تطورت الفكرة ليكون الاتحاد تساعيا يشمل الإمارات السبع والبحرين وقطر، ولكن المشاورات ظلت تراوح في مكانها ثم أعلنت كل من البحرين وقطر استقلالهما وتم بعد ذلك إعلان اتحاد الإمارات في دبي في 2 ديسمبر 1971 وارتفع علم الاتحاد في مبنى مضيف جميرا، وتخلفت رأس الخيمة عن التوقيع ريثما يتسنى ترتيب بعض الأمور ثم وقعت على الوثيقة في فبراير 1972 فاكتمل الاتحاد السباعي القائم اليوم. وانتخب الشيخ زايد رئيسا للدولة والشيخ راشد نائبا للرئيس. وكما يلاحظ المؤلف لم يكن الاتحاد وليد رغبة الحكام فحسب بل أيضا وليد رغبات الناس الذين عضدوا الفكرة والمثقفين منهم بشكل خاص. وكان زايد العروبي والوحدوي ينظر إلى الاتحاد كنواة لوحدة عربية شاملة وقد صرح يومها قائلا: “إن الاتحاد ما قام إلا تجسيدا عمليا لرغبات وأماني وتطلعات شعب الإمارات الواحد في بناء مجتمع حر كريم يتمتع بالمنعة والعزة وبناء مستقبل مشرق وضاح ترفرف فوقه راية العدالة والحق وليكون رائدا ونواة لوحدة عربية شاملة”. ويلاحظ بوملحة أن زايد ديموقراطي بفطرته وبحكم ماتربى عليه من عادات أهله وقبيلته. يقول الشيخ زايد: “إننا خضنا التجربة الديمقراطية التي نعيشها في الواقع منذ مئات السنين في ظل مبدأ الشورى..”. ويذكر المؤلف أن زايد فتح المجال لحرية الرأي المباشر معه بحيث يمكن لأحد أفراد شعبه أن يقول له في حضرته أنت مخطئ ويستمر النقاش بينهما بحرية وأريحية دون ما أية حواجز. ويقول إن زايد كان يعد الشعب للحياة النيابية بصورة تدريجية تؤدي في النهاية إلى اختيار المواطنين لممثليهم وان مسألة الانتخاب كانت واضحة في ذهنه منذ بداية إنشاء المجلس الوطني. ويذكّر الكتاب باستقالة الشيخ زايد عندما اصطدم ببعض المعوقات فهب الشعب من أقصاه إلى اقصاه في مسيرات حاشدة تهتف له وتجدد البيعة، وقد وثق هذه الحادثة بشيء من التفصيل صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة في كتابه “حديث الذاكرة”. واستجاب زايد للحشود الضخمة التي خرجت في مناظر مؤثرة ونشر الشعراء يومها القصائد ومن ضمنهم صاحب هذا المقال في قصيدة بعنوان “المسيرة” موجودة في ديوانه. أقوال ومواقف وللشيخ زايد مقولات مشهورة تدل على عمق حكمته منها: “إن الإنسان هو العنصر الأساسي لكل تقدم، وإن أثمن ثروة لهذا البلد هو الإنسان الذي يجب أن نعتني به كل العناية ونوفر له كل الرعاية فلا فائدة للمال بدون الرجال”. ولذلك اهتم بالتعليم فبنى المدارس والجامعات، فتخرج الآلاف من حملة الشهادات الجامعية والدراسات العليا. واهتم بمشاريع الإسكان وكان يتعجب إذا سمع ان مواطناً في دولة الرفاه التي عمل على بنائها يسكن بالإيجار، وقد أنشأ برنامج زايد للإسكان لذلك. واهتم الشيخ زايد بالزراعة حتى غدت الصحراء ملونة باللون الأخضر ويذكر الكتاب أنه زرع فيها أكثر من 40 مليون نخلة على الرغم من قلة الماء، حتى أن الأمم المتحدة كرمته كرجل البيئة عام 2000. كما اهتم كثيرا بالمحميات الطبيعية في مناطق مختلفة من الدولة. ودعم المزارعين المواطنين بتوزيع الأراضي وحفر الآبار وتوفير السماد وشراء المنتجات منهم بأسعار تشجيعية. واهتم هذا القائد بالتراث وكان يقول: “من لا ماض له لا حاضر له ولا مستقبل”، وكثيرا ما كان يذكر الجيل الحاضر بكفاح الجيل السابق للنفط ويسمي المعاناة التي قاساها ذلك الجيل جهادا. ولكن زايد كان قائدا واقعيا وعقلانيا وعمليا فقد كان أيضا يؤمن بالحداثة ويقول: “أنا لا أقول يجب أن نبتعد عن المدنية الحديثة فنحن نريد منها أشياء ونريد أن نبتعد عن أشياء أخرى..”، فقد كان يريد الأشياء الإيجابية من تراثنا ومن حداثة الغرب كالعلم والبحث والإدارة والابتعاد عن سلبيات الغرب. وقد أدرك زعماء العالم وضوح الرؤية لدي الشيخ زايد فعلى سبيل المثال يقول فرانسوا متران: “إننا نعرف يا صاحب السمو أنكم تريدون أن يسود الحق فوق القوة وأن تعلو الشرعية فوق الأمر الواقع”، وهو لا شك يتحدث هنا عن القضية الفلسطينية. ويقول جيمي كارتر: “زايد قائد استثنائي، ورجل حوار وداعية سلام”. والشيخ زايد بعيد عن التكتلات والانحياز لمعسكر دون آخر أما في القضية الفلسطينية فقد وقف مدافعا عنها طيلة حياته وبعد النكسة سارع لدعم الرئيس عبدالناصر لإعادة بناء القوات المسلحة. وكما يذكر المؤلف فقد كان لموقفه الشجاع في حرب 1973 أثر بالغ في حسم الحرب لصالح العرب بقطعه البترول عن أمريكا والدول الداعمة لإسرائيل وهو يقول قولته الشهيرة: “ليس البترول العربي بأغلى من الدم العربي”. حكيم العرب ولقد كان زايد دائما يعمل بجد لإصلاح ذات البين بين المتخاصمين من العرب حتى لقب “بحكيم العرب”. وقد أزعجه غزو العراق للكويت وحاول التوسط ولكن عندما وجد أن الحل السلمي غير ممكن ساهم في العمل العسكري لتخليص الكويت. وقد حصل على أوسمة وجوائز عالمية كثيرة من أهمها شخصية العام الإسلامية من جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم التي قدمها له الشيخ محمد. وعندما انتقل إلى جوار ربه في يوم الثلاثاء 19 من شهر رمضان في عام 1425هـ الموافق 2 نوفمبر 2004م رأينا سكان الإمارات، مواطنين ومقيمين من مختلف الجنسيات في حزن عميق، بل كل العالم كان قد أجمع على أنه خسر قائدا فذاً تحبه كل الشعوب وجاءت قيادات العالم لتعزية صاحب السمو الشيخ خليفة وأبناء الراحل الكبير وحكام وشعب الإمارات. وكان مثواه الأخير بجانب المسجد الكبير الرائع الذي بناه عبر سنوات في أبوظبي. رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته. الكتاب: لمحات من حياة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله المؤلف: إبراهيم محمد بو ملحة الناشر: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©