روما ـ منار محمد:
بانتهاء الصيف وحلول الخريف بدأ الإيطاليون فترة من المراجعة والمحاسبة السياسية، فقد مر الصيف وللمرة الأولى بتراجع كبير في حجم السياحة الإيطالية إلى الخارج، وهو ما اعتبر مؤشراً على عمق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، الإيطاليون العائدون من إجازاتهم الصيفية إلى أعمالهم غير راضين عن الكيفية التي مر بها الصيف، وهم بذلك تواقون لمراجعة ما تم، والبحث عمن يمكن أن يحملوه المسؤولية، اليسار بزعامة رومانو برودي يشير بأصابع الاتهام إلى اليمين القابض على الحكم منذ سنوات، محملاً إياه المسؤولية كاملة، ومعتبراً أن قرارات الحكومة اليمينية ومنها المشاركة في الحرب على العراق هي وحدها التي أثقلت موازنات الدولة، وهي بذلك المسؤولة عن الانكماش الاقتصادي·
أما اليمين الذي يتزعمه سيلفيو بيرلوسكوني فيؤكد أن مشكلات خارجية لا حيلة له فيها هي التي كانت وراء حالة الانكماش الحالي، فالحرب العالمية على الإرهاب، والاتفاق الغربي على الحد من الهجرة غير القانونية، وتزايد الفاتورة الأمنية، ثم تضاعفت قوة الصين التجارية في الأسواق العالمية على حساب الغرب عامة، فضلاً عن تدفق رؤوس الأموال إلى خارج الاتحاد الأوروبي بسبب ارتفاع قيمة اليورو مقابل العملات الأخرى، كل ذلك قد أضر بشدة بالأوضاع الاقتصادية·
لكن هل يتفهم الجمهور كل هذه المعطيات؟ وكيف سيتحمل المواطن الإيطالي مزيداً من الاختناق الاقتصادي جراء الارتفاع المتواصل في أسعار الطاقة، بدءاً من البنزين وانتهاءً بالكهرباء؟ وهل يمكن أن يلعب ارتفاع سعر النفط دور القشة التي قسمت ظهر البعير إزاء سيطرة اليمين على الحكم في إيطاليا؟ وما هي التبعات المتوقعة لذلك، خاصة على العلاقات مع الشرق الأوسط، والمنطقة العربية؟
إيطاليا الفقيرة من حيث إنتاج الطاقة تعتمد بنسبة ستين بالمائة على النفط، وبنسبة ثلاثين بالمائة على الغاز، وهي تنتج أغلب الكهرباء من هاتين المادتين، وقد تضاعف اعتمادها في السنوات الأخيرة على النفط والغاز بسبب تخليها الطوعي عن الطاقة النووية، يقول سالفاتوري فيدريجوتي من وزارة الطاقة: كانت المفاعلات النووية تنتج حوالي أربعة بالمائة من الكهرباء التي تستخدمها إيطاليا، لكنه وتحت تأثير ما وقع في تشرنوبيل تم التخلي نهائياً عن تلك المفاعلات عن طريق الدستور، وربما ساهم في اتخاذ ذلك القرار أيضاً صغر مساحة الأراضي الإيطالية النسبي، فهي أكثر قليلاً من ثلاثمائة ألف كيلومتر مربع، ينتشر على ثلاثين بالمائة من هذه الأرض السكان البالغ عددهم حوالي خمسة وستين مليوناً، وهذا يجعلنا في وضع لا يسمح بتحمل كارثة من نوع تشرنوبيل، أو حتى أصغر بكثير، ومنذ العام 1987 والدولة تحاول التوسع في استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة، لكن لابد من الاعتراف بأن النفط سيبقى مصدر الطاقة الرئيس لعدة عقود على أقل تقدير·
وتقول رافايللا مارياني من الإدارة المحلية: إيطاليا تمتلك مخزوناً معقولاً من الغاز الطبيعي في البحر الأدرياتيكي، لكن خطر التهديد بالغرق الذي تتعرض له البندقية قد ضغط على الحكومة كي توقف استخراج الغاز من تلك المنطقة، وهكذا عدنا مرة أخرى لأسر الحاجة إلى النفط والغاز القادمين من الخارج، إن حالتنا هذه تجعلنا بشكل ما عبيداً للنفط·
النفط والسياسة
ورغم أن إيطاليا دولة غير منتجة للنفط إلا أنها دولة ذات مصالح نفطية، فالإيطاليون يملكون عددأً من الشركات الكبرى التي تسيطر على سوق النفط العالمي، سواء في مجال الاستكشاف والتنقيب أو في مجال الإنتاج والتكرير، منها شركتا أجيب، وإسو، ويكفي أن نعلم أن شركة أجيب كانت أول شركة عالمية تعرض على الدول المنتجة للبترول أن تدخل شريكاً بالنصف في عمليات الانتاج بعد العثور على البترول بكميات تجارية، وكانت تتحمل وحدها مخاطر البحث والتنقيب إلا في حال العثور على البترول بكميات تجارية عندئذ كانت تتحمل الدول المنتجة خمسين بالمئة من تكاليف البحث، وكانت الاتفاقيات التي عقدتها مع إيران عام ،1957 ثم مع المغرب عام 1958ومع كل من مصر وتونس عام 1961قد كرست ذلك الاتجاه، إذن هناك مصالح نفطية فرضتها الحاجة إلى النفط من جانب، وحضور الشركات الإيطالية في السوق العالمي من جانب آخر·
الحاجة إلى تأمين إمدادات النفط، والرغبة في حماية مصالح الشركات الإيطالية فرضا نفسيهما على السياسة الإيطالية، فكان تنويع مصادر تلك المادة الحيوية خطوة ضرورية لكنها غير كافية، ثلاثون بالمائة من النفط يأتي من ليبيا، وأربعون بالمائة من الشرق الأوسط، وأحد عشر بالمائة من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وسبعة عشر بالمائة من بلدان أخرى، وإزاء هذا الوضع الذي يجعل أكثر من نصف الطاقة التي تستخدمها إيطاليا في يد دول الجنوب - حسب التعبير الثقافي - فقد بدأت إيطاليا سلسلة من الاتفاقات والإجراءات التي تربط تلك الدول بإيطاليا، فيما يسمى بالتعاون التقني·
ويقول رانييري دي ماريا الأستاذ بجامعة روما: الضغط السياسي قد أثر باستمرار على سياسات الطاقة في إيطاليا، وهو ما خلق وضعاً معقداً للغاية، فلدينا أكثر من ثلاثمائة قانون يتعلق بالطاقة، بعضها جيد وكثير منها يناقض بعضه بعضاً، وليست هناك تفرقة بين التشريعات، والقوانين المتعلقة بالمسائل التقنية، ومنذ عام 1998بدأت الخطة القومية للطاقة، دعماً لاستخدام الطاقة الآمنة، وحماية البيئة، لكن تبقى للمصالح النفطية اليد الطولى في ساحة السياسات المرتبطة بالطاقة·
الأسعار تحت السيطرة
على مدى ربع قرن، قبل حرب 1973لم يتجاوز نصيب الدول المصدرة للنفط خمسة وثمانين سنتاً من كل برميل في ظل سيطرة الشركات العالمية على الموارد النفطية في العالم، وحتى حين استردت الدول المصدرة للنفط حريتها في تحديد الإنتاج والأسعار، ارتفع السعر وواصل ارتفاعه حتى بلغ اثنين وثلاثين دولاراً في أوائل الثمانينات، لكن القيمة الحقيقية للسعر لم تتجاوز نصف ذلك السعر بسبب موجة التضخم العارمة وتدهور قيمة الدولار الذي يستخدم في تسعير النفط، وبفعل جهود الشركات والقوى الغربية عادت تلك الأسعار إلى التآكل حتى انهارت إلى ثلاثة عشر دولاراً خلال خمس سنوات ولتستقر حول سعر يوازي فقط خمسة دولارات من قيمة الدولار عام ·1973
الدول الأوروبية المستوردة للنفط لم تسمح بانتقال الانخفاض إلى المستهلك النهائي، مما كان سينعكس أثره في زيادة الطلب على النفط، بل سارعت إلى زيادة ضرائبها النفطية إلى ما يعادل سبعين بالمائة من السعر النهائي للمستهلك، تقول المصرفية فابيانا مانيو: لدينا في إيطاليا ضرائب مرتفعة جداً على الطاقة، مرتفعة حتى بالمعايير الأوروبية، وهي كانت قد فرضت بغرض الحد من استهلاك الطاقة، وتحت تأثير أزمة عام 1973 والرغبة في حماية البيئة، ولكن المشكلة تكمن في استقرار هذه الضرائب كمورد من موارد خزينة الدولة، وهو ما يجعل التراجع عن هذه الضرائب في حال ارتفاع الأسعار عسيراً جداً·
تعاون أوبك
وفي خط موازٍ لتلك التطورات قامت أوبك بوضع ما عرف بآلية ضبط الأسعار بما يحفظ أسعار النفط بين حد أدنى وحد أعلى، لكن أحداث عام 2004قد كشفت عن الأعطاب الجوهرية التي أصابت صناعة النفط نتيجة لسياسة الدول الغربية الضاغطة على الأسعار بقصد تخفيضها، فقد تدهور حجم الاستثمارات الموجهة لتوسيع الطاقة الإنتاجية وخاصة في دول أوبك التي تتمتع باحتياطيات غزيرة ونفقات منخفضة، وذلك بسبب انخفاض العائدات المتوقعة من تلك الاستثمارات، وبذلك انخفضت حجم الاكتشافات الجديدة في التسعينات إلى أقل من ثلث اكتشافات السبعينات، كماعجزت القدرة الإنتاجية للنفط عن مواجهة الزيادة غير المسبوقة التي طرأت على الطلب العالمي على النفط، نتيجة لنمو اقتصادي عالمي غير مسبوق، لعبت كل من الصين والهند دوراً كبيراً فيه، كذلك لم تستطع القدرة الإنتاجية الاحتياطية المحدودة أن تخفف من حدة ارتفاع السعر نتيجة للعواصف السياسية والأمنية التي أصابت الشرق الأوسط وبخاصة منطقة الخليج·
توقعت الدوائر الغربية أن يظل سعر النفط سوف متدنياً اعتماداً على العديد من العوامل، ومنها أن كلفة التنقيب والإنتاج سوف تتجه إلى الانخفاض نتيجة للتحسينات التقنية، ومن ثم فإن أصحاب الحقول الحدية سوف يكون في مقدورهم ضخ كميات متزايدة من النفط في أسواقه مما يشعل المنافسة بين المنتجين ومن ثم تنخفض الأسعار، فضلاً عن دور الوجود الأميركي في المنطقة في استبعاد أي إمكانية لوقف الإمدادات النفطية، فأخذت تلك الدول تستخدم جانباً من مخزونها النفطي تخلصاً من أعبائه، بحيث انخفض عدد الأيام التي يغطيها ذلك المخزون انخفاضا كبيراً·
تراجع الاستثمار وارتفاع الأسعار
تراجع أسعار النفط ما بين عامي 1986و2000 في الأسواق العالمية أدى بدوره إلى تراجع الاستثمار في صناعة النفط، وانتهى الأمر بما يواجهه العالم منذ منتصف عام 2003من عجز القدرة الإنتاجية الاحتياطية عن مواجهة الزيادة غير المسبوقة في الطلب العالمي على النفط، فعلى الرغم من توافر احتياطيات كافية في باطن الأرض فإن القدرة الإنتاجية أي إمكانات استخلاص النفط وتصنيعه ونقله إلى المستهلك النهائي صار يمثل عنق زجاجة ضيقاً، ومن ثم قفزت الأسعار فيما يشبه الصدمة، المخزون النفطي التجاري الذي تحتفظ به الشركات لمواجهة الطوارئ، وكذلك المخزون الإستراتيجي الذي لجأت إليه الدول الكبرى للتخفيف من تبعات إعصار كاترينا الذي عطل إنتاج أكثر من مليون برميل يومياً في خليج المكسيك لم ينجحا في كبح جماح الأسعار· ويقول الكاتب أليساندرو أليساندريللي: إن الاضطرابات الجيوسياسية والأمنية التي تسود الشرق الأوسط وبخاصة منطقة الخليج العربي، ثم المضاربات التي يتربح منها خبراء البورصات العالمية بأسلوب المراهنة على أسعار النفط، بيعاً وشراءً، فيما يعرف بالبراميل الورقية، والتي يزيد عدد صفقاتها على خمسة أمثال صفقات التعامل في النفط الحقيقي، وكذلك الإضرابات العمالية في الدول المنتجة للنفط والأعاصير والشائعات، كل ذلك إلى جانب عجز مصافي النفط، وخاصة في الولايات المتحدة قد انعكس في ارتفاع أسعار المنتجات المكرورة التي لا توفرها المصافي بالقدر الذي يحتاجه المستهلك النهائي، وأخيراً جاء كاترينا ليصب الزيت على النار·
إعصار كاترينا
وبسبب إعصار كاترينا ارتفع سعر النفط إلى ما فوق سبعين دولار للبرميل، كما لحقت بالمنطقة المنكوبة خسائر مباشرة فاقت خمسة وعشرين مليار دولار، فضلاً عن الأضرار غير المباشرة والتي تجاوزت حسب بعض التوقعات مئتي مليار دولار، في حين يسود القلق أسواق النفط من أن يكون الاعصار كاترينا قد ألحق أضرارا بعيدة المدى بمنشآت صناعة النفط وتكريره، مما سيكون له أثر على امدادات النفط العالمية، بينما حذر المحللون من انه في حال انقطاع الامدادات بشكل جدي فإن سعر برميل النفط الخام قد يتجاوز المئة دولار، مما سيترك أثراً سلبياً على كل من الانفاق الاستهلاكي والنمو العالمي·
كبح الأسعار
منظمة أوبك تحدثت عن زيادة سقف إنتاجها إلا أن ذلك لم يكن أكثر من خطوة رمزية، لأن دول المنظمة التي تضم السعودية وفنزويلا والعراق ونيجيريا كانت قد زادات إنتاجها بالفعل، وليس لديها طاقة احتياطية كبيرة، في حين أقدمت الولايات المتحدة بالفعل على استخدام جزء من مخزونها الاستراتيجي وسط مخاوف من حدوث ارتفاع حاد في أسعار البنزين محلياً، بينما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة التي تتخذ من باريس مقرا لها أن أعضاءها الستة والعشرون يعتزمون ضخ مليوني برميل يوميا لفترة مبدئية مدتها ثلاثون يوماً، وهو ما أدى لتخفيض محدود للأسعار، ومن بين الدول الأعضاء في الوكالة الدولية للطاقة، المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان التي تملك معاً مخزوناً حجمه أربع مليارات برميل، منها مليار وأربعمائة مليون برميل تتصرف فيها الحكومات في حالة الطورائ، هذه الإجراءات احتاجت بعض الوقت كي تنعكس على الأسواق المحلية في أوروبا، عندما أعلنت شركة شل عن أول تخفيض في أسعار البنزين بعد شهور من التصاعد المستمر، لكن التفاؤل الذي نتج عن هذا التخفيض لم يدم طويلاً، إذ عادت الأسعار إلى الارتفاع، وسط مخاوف من ارتفاع أكبر بحلول الشتاء، وبدء الاعتماد على التدفئة في المنازل، وأماكن العمل·
المواطن الإيطالي
ويقول الناشط اليساري فاليريو بوفارديتشي: كما تدخلت الحكومة ورفعت الضريبة على استخدام مشتقات النفط من أجل الحد من الاستهلاك، عليها اليوم أن تتدخل وتخفض تلك الضرائب كي تساعد الناس على الحياة، لكن مشكلة هذه الحكومة اليمينية أنها أثقلت الميزانية، ورفعت ديونها إلى ما فوق مئة وعشرين بالمائة من الدخل القومي، لذا فهي عاجزة عن اتخاذ مثل تلك الخطوة، وحديث اليمين عن الحد من استهلاك الطاقة هو نوع من الهزل، لأن إيطاليا كانت قد التزمت بتخفيض استخدامها للكربون بنسبة ستة ونصف بالمائة عن استخدام عام 1990كما التزمت بزيادة استخدام الطاقة المتجددة، والغاز الطبيعي، وتحسين فعالية الطاقة لتوافق معايير كيوتو، وقد كان ذلك تحدياً كبيراً نظراً لأننا نستخدم بالفعل طاقة محدودة بالنسبة لقدرتنا الانتاجية، وبالتالي ليست هناك إمكانية لمزيد من تخفيض الاستهلاك·
ويقول ساندرو بوندي من حزب إلى الأمام ياإيطاليا الذي أنشأه ويتزعمه بيرلوسكوني: لقد وعد اليسار بتغيير السياسات الحالية حال وصوله إلى السلطة، وعد بالحد من الإنفاق الحكومي، والخروج من العراق، وتخفيض الضرائب، لكنني أعتقد أن تحقيق ذلك كله مستحيل، يمكنهم الانسحاب من العراق، لكن عند تخفيض الضرائب من سيعوضهم عن تلك الموارد؟ أعتقد أنها مجرد دعاية انتخابية، المشكلة برأيي تتعلق بموعد الانتخابات، فكونها في الربيع معناه أن اليمين سيتحمل من شعبيته فاتورة الألم الذي سيعيشه المواطن الإيطالي خلال الشتاء مع ارتفاع أسعار الطاقة، وعندما تمر الانتخابات، وإذا ما نجح اليسار في الوصول إلى السلطة سيكون الشتاء قد مر، وستكون لديهم الفرصة لتدارك الموقف، أعتقد أنهم يدركون ذلك، ولهذا فهم يبالغون في المزايدة، وللأسف أعتقد أنهم سينجحون، فرص بقاء اليمين في ظل أسعر نفط مرتفعة هي فرص متدنية جداً، والمخرج الوحيد برأيي هو أن يستخدم الغرب كل ثقله في استعادة الأسعار حول خمسين دولار للبرميل، لأن بقاء الأسعار الحالية أو استمرار ارتفاعها سيقود حتماً إلى حالة كساد وانكماش اقتصادي دولي، وهذا ما لن يتحمله الجميع·