السعد عمر المنهالي
في مثل هذا اليوم منذ 466 عاما وقف السلطان العثماني 'سليمان الثاني' وللمرة الثانية أمام العاصمة النمساوية فيينا محاصرا أسوارها العتيدة في العاشر من أكتوبر عام ،1539 غير أن نفاذ العتاد وبرد الشتاء صده عن اختراق هذه الأسوار وحجبه عن إعلان نصره للمرة الأولى في تاريخه الحربي· ورغم الهدنة التي وقعت بين الإمبراطورية العثمانية والنمسا عام 1547 ودفعت بموجبها الأخيرة الجزية للأتراك، ظلت أسوار فيينا عتيدة شامخة على عكس حصون أخرى مجاورة كبودابيست بالمجر التي ظلت تحت الحكم التركي لمدة 145 عاماً!!
وعلى عكس قوة أسوار فيينا في تلك الفترة أذعن، النمساويون في الثالث من أكتوبر الجاري عام 2005 أمام الأتراك وإصرارهم على دخول منظومة الاتحاد الأوروبي بالطريقة التي يرغبون بها، على غير ما حاولت الحكومة في فيينا فرضه على الأتراك بعضوية في الاتحاد الأوروبي لا ترقى لمستوى العضوية الكاملة بل شراكة متميزة· وهو الإذعان الذي حسب على وزيرة الخارجية النمساوية 'أورسولا بلاسنيك' والتي أصرت حتى قبل موافقتها لرغبة أربع وعشرين دولة أوروبية أخرى بالقول: 'أن بلادها تصغي لصوت الشعب' كحجة لرفضها دخول تركيا الاتحاد الأوروبي· بيد أن الصوت الذي تقصده الوزيرة يعود بتاريخه لقرون مضت، صوت أوغل في الذاكرة النمساوية لدرجة 'استحالة التوصل لحل وسط·· كونه يمس أمور جوهرية'!
في صيف عام 1956 ولدت 'أرسولا بلاسنيك' لإحدى أسر الطبقة الوسطى في الثالث والعشرين من مايو، في 'كلاجينفورت' بمحافظة 'كارينثيا' بجمهورية النمسا، وفي 'كلاجينفورت' تلقت تعليمها العالي، غير أنها تخرجت -بعد انضمامها لبرنامج مبادلة طلابي- من ثانوية 'فوكسكروفت' بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأميركية عام ·1972 درست 'أرسولا' القانون في جامعة 'فيينا' وحصلت على درجتها العلمية فيه وهي في الحادية والعشرين من عمرها في الثالث من يوليو عام ،1977 وبعدها حصلت على دبلوم عالي من كلية أوروبا في 'بروجيس' ببلجيكا·
مارست 'اورسولا' دراستها عندما عينت كباحث مساعد في معهد القانون الروماني والتأريخ القديم في جامعة فيينا، ثم في إحدى الإدارات القانونية في بعض المؤسسات الخاصة، غير أنها لم تلبث أن انتقلت في فبراير عام 1981 للعمل في وزارة الخارجية في حكومة النمسا الفيدرالية وذلك في مكتب القانون الدولي للوزارة· لم تمكث 'اورسولا بلاسنيك' طويلا قبل أن تبدأ في المشاركة في بعثات الوزارة الدبلوماسية، فخلال الفترة ما بين عام 1981 وعام 1983 كانت ضمن وفد وزارتها في اجتماعات مدريد بلجنة الأمن والتعاون الأوروبي، وفي العامين 1984 و1986 كانت ضمن البعثة الدبلوماسية لبلادها في العاصمة السويسرية 'بيرن'، وخلال الفترة منذ عام 1987 وحتى عام 1990 مثلت النمسا داخل مجلس أوروبا، ثم عملت في الرابطة الأوروبية للتبادل الحر حتى عام 1994 في مكتب الأمين العام للرابطة بجنيف·
صقلت تلك المهام التي مارستها 'أورسولا' في إدارات وزارة الخارجية النمساوية من خبرتها القانونية بجانب السياسية عن طريق العمل التفاوضي والتعاوني على الصعيد الإقليمي والدولي· وفي عام 1994 التحقت للعمل في إدارة مؤسسة 'ست غالين' للدراسات الدولية، وفي نوفمبر من العام نفسه أصبحت رئيسة لمديرية التنسيق الأوروبي للشؤون السياسية والاقتصادية في وزارة الخارجية· ورغم السبعة عشر عاما التي قضتها 'أورسولا' في وزارة الخارجية وعملها المباشر في الشأن السياسي، لم تبرز على الساحة السياسية الداخلية رغم انظماها المبكر للحزب الجماهيري الذي يعد لاعبا رئيسيا في السياسة النمساوية·
عندما وصل 'ولفانج شوسيل' إلى منصب رئيس حكومة النمسا في يوليو عام 1997 عين 'أورسولا' كمستشارة في حكومته الفيدرالية· ظلت في خدمة حكومته ورفضت عرضا عام 2000 بأن تصبح ممثلة لبلادها في المجلس الأوروبي لكي لا تترك النمسا· وعندما استطاع 'ولفانج شوسيل' أن يصبح مستشارا بعد نجاح حزبه 'الحرية النمساوي' في تكوين حكومة ائتلافية، عين 'أورسولا' في منصب وزيرة دولة لتبقى مستشارة مقربة منه حتى الخامس عشر من يناير عام 2004 عندما عينت سفيرة بلادها في سويسرا·
لم تكمل 'أورسولا' عاما في منصبها كسفيرة لبلادها في سويسرا، إذ استطاعت أن تلفت انتباه 'ولفانج شوسيل' أثناء عملها مع الفريق المكلف بتأهيل النمسا لرئاسة الاتحاد الأوروبي منتصف عام ·2004 ولذا كانت أول المرشحين لتسلم رئاسة وزارة الخارجية بعد أن تركت 'الوزيرة 'بنيتا فيريرو' منصبها لتتقلد مهام أخرى في بروكسل كمفوضة للعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي· وفي العشرين من أكتوبر عام 2004 أدت اليمين الدستوري أمام رئيس الحكومة 'هاينز فيتشر'، لتصبح الوزيرة الخامسة عشرة لبلادها وثاني امرأة تتقلد هذا المنصب· وفي خطاب تنصيبها أمام أعضاء المجلس الوطني في الحادي والعشرين من أكتوبر العام ،2004 قالت 'إن عملها سيتركز على ضمان صوت قوي للاتحاد الأوروبي وتقوية دور النمسا فيه، وذلك كأولوية في سياسة بلادها الخارجية'، ويبدو هاجس إيصال الصوت ظل ملازما للوزيرة حتى بعد مرور عام على تقلدها مهام هذا المنصب·
صوت من الماضي
تعود محاولات دخول تركيا إلى المنظومة الأوروبية منذ عام ،1963 وفي ديسمبر عام 2004 وافق قادة الاتحاد الأوروبي على البدء بمفاوضات انضمام تركيا إلى المنظومة شريطة اتخاذ أنقرة عدد من التعديلات التشريعية، في حين وافق البرلمان الأوروبي في الحادي والعشرين من ابريل 2005 بأغلبية 407 أصوات ضد 262 لصالح بدء المحادثات -امتنع 29-، بل ودعا الزعماء الأوروبيون بالإسراع بها 'دون أي تأخير مبرر'·
وعلى عكس النغمة الشعبية السائدة بين شعوب الاتحاد الأوروبي الرافضة لانضمام تركيا، كانت المؤسسات السياسية لمنظومة الاتحاد أكثر تعقلا وفهما لأبعاد تجاوبها مع النغمة الشعبية السائدة، فقد كان أي رفض مباشر لبدء مفاوضات تركيا يعني بالضرورة ضرب مصداقية الاتحاد وتأكيد لما كان قد صرح به 'رجب طيب أردوغان' رئيس الوزراء التركي أنه أمام أوروبا خياران، إما أن تقبل بتركيا عضوا فيها وأن تصبح لاعبا عالميا، وإما أن تظل ناديا مسيحيا· غير أن النمسا ظلت ولسنوات تبحث عن خيار ثالث لتحافظ على مصداقية الاتحاد، خيار يقدم امتيازات العضوية لتركيا دون أن يدمجها في بوتقة الاتحاد الأوروبي، ولذا كان من أول ما صرحت به الوزيرة 'أورسولا' بخصوص انضمام تركيا للاتحاد ' أتفهم موقف بعض الدول القلقة من عضوية تركيا الكاملة للاتحاد الأوروبي·· لكني لا أتفهم أبدا لماذا لا تبدأ المفاوضات مع أنقرة حول هذا الشأن'· وهو التصريح الذي أرادت 'أورسولا' من خلاله أن تجد خيار ثالث رأته من وجهة نظرها كاف للانصياع لرغبة الأتراك بدخول المنظومة دون أن يثير قلق المتخوفين كون الانضمام سيضل لا يرقى لمستوى العضوية الكاملة· وهذا الخيار يقبل بالمفاوضات غير أنه يتيح للأوروبيين القدرة على الاكتفاء بقبول تركيا داخل المنظومة ولكن بشراكة أقل من شراكة العضو الكامل·
تركيا الهاجس
بيد أن ذلك الخيار لم يكن ليرضي الأتراك أبدا، رغم ما مورس عليهم من ضغط لقبول صيغة ترضي كافة الأطراف· فقد رفض الأتراك وبشدة أي عرض يؤل في نهايته إلى غير العضوية الكاملة، وفيما قاله وزير الخارجية التركي في هذا الشأن: 'أن بلادي لن تقبل بوضع مواطن من الدرجة الثانية في النادي الأوروبي'· ويبدو التزمت التركي حول الأمر مبررا كون أنقرة التزمت بكافة الإصلاحات التي ظل الاتحاد الأوروبي يفرضها عليها طوال السنوات الماضية، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، لدرجة أن الكثيرين من المهتمين بالشأن الأوروبي أصبحوا يراهنون على حقيقة الاستعداد الأوروبي بضم تركيا إليها· ويبدو ان المراهنة منطقية عند النظر إلى سجل تركيا الدسم أمام دول الاتحاد الأوروبي سواء في شقه التاريخي أو الاقتصادي أو حتى السياسي· فبالرغم من أن تركيا عضو في منظمة التعاون والأمن الأوروبية، وحلف شمال الأطلسي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلا أن الدولة العلمانية -ذات التعداد السكاني الكبير والبالغ 70 مليون نسمة، ذات الغالبية المسلمة والتاريخ الاستعماري الطويل الضارب في عمق أوروبا، إضافة إلى الوضع الاقتصادي المتواضع المنبأ بتهديد إنساني غير مبشر لدول الجوار الجغرافي الأوروبي بعمالة مهاجرة رخيصة تحمل ثقافة مغايرة تماما لثقافتها- تعد في نظر أغلب الأوروبيين لقمة لا يمكن استساغتها في الجسد الأوروبي!
فحسب آخر استطلاع للرأي حول ماجرى في مايو العام الجاري 2005 أكد أن النمسا أكثر دول الاتحاد الأوروبي رفضا لانضمام تركيا إذ يرفض 80 بالمائة من النمساويين الذين شملهم الاستطلاع يعارضون الفكرة أصلا، ويخشى 78 منهم من زيادة الهجرة بينما يعتقد 73 بالمائة أن التوفيق بين الاختلافات الثقافية بين تركيا وأوروبا الغربية من المستحيل· ولذا كان تصريح الوزيرة 'أورسولا': 'بأن هناك لحظات يتعين القول فيها إن الأمر يمس أمورا جوهرية لا يمكن التوصل إلى حل وسط فيها'·
وهو كذلك الحل الوسط الذي رفضه أحفاد أتاتورك، وسيظلون يرفضونه رغم عدم وضوح الجدول الزمني المقرر لمفاوضات الانضمام، ويبدو أن الاحتفال ببدء المفاوضات الذي بدأ في وقت متأخر في 'بروكسل' بسبب تعنت وزيرة الخارجية 'أورسولا بلاسنيك' حتى اللحظات الأخيرة، والذي وصفه وزير الخارجية البريطاني 'جاك سترو' بأنه بمثابة صنع التاريخ، لا يعني إن العشر سنوات -فترة افتراضية لمدة المفاوضات- تكون نهايتها دخول تركيا للمنظومة، فالأصوات القادمة من المستقبل لن تكون أقل قوة من الأصوات القادمة من الماضي!
Als_almenhaly@emi.ae