القاهرة ـ أحمد مراد:
في رمضان يمتنع ملايين المسلمين عن الطعام والشراب وسائر المحرمات في وقت واحد، ويتناولون طعام الإفطار في وقت واحد ويشعرون بمشاعر واحدة، ويلتفون حول عبادة واحدة، ويتحلون بصفات واحدة، ويجتمعون بالملايين لصلاة التراويح في وقت واحد·
وهذا ما جعل المفكر الإسلامي المعروف د·عبدالصبور شاهين أستاذ علم اللغة بجامعة القاهرة يرى في رمضان فرصة ذهبية لتشكيل قاعدة ونواة ثابتة تلتف حولها شعوب الأمة الإسلامية وتوحد مصائرها وأهدافها ومشروعاتها·· فهل يمكن أن يكون رمضان سبيلا لوحدة الأمة؟· هذا السؤال وغيره يجيب عليه د· عبدالصبور شاهين في حواره الرمضاني مع 'الاتحاد':
؟ في البداية·· سألت د· عبدالصبور شاهين: كيف تنظر إلى رمضان؟
؟؟ رمضان شهر كريم يفيض رحمة وسماحة ومغفرة بدون حساب، فلا حد لفضائله ونفحاته الطيبة، بعد أن اختص الله تعالى بثواب الصيام وجعله لنفسه فقط يجزي به تصديقا للحديث القدسي 'إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به' ولنا أن نتخيل مدى عظم عطاء الله ومدى سعة رحمته ومدى حدود كرمه، ومن هنا أنظر إلى رمضان باعتباره مغسلة للذنوب والآثام التي يرتكبها العبد طوال العام، ومطهرا لأدران الدنيا وخبائث النفس الإنسانية وشرور الشهوة والغريزة، فرمضان هو بحق 'عيادة' إلهية فيها دواء لكل داء، وفيها تتطهر وتصفو نفوسنا وتسمو حياتنا وترتقي أخلاقنا وتصح أجسادنا، وكل ذلك 'مجانا' دون فاتورة حساب، فالحساب يوم الحساب حيث نعيم ربك في جنات الخلد·
ثمار رمضان
؟ وهل هذا يثقل مسؤوليتنا تجاه رمضان؟ بمعنى آخر يزيد واجباتنا نحو هذا الشهر الكريم حتى تتحقق فينا ثمرته؟
؟؟ هذا يقوي عزيمتنا وينمي إرادتنا من أجل العمل على تحقيق غاية رمضان، ومن أجل أن نجني ثماره الطيبة، ومن ثم لابد أن نشعر بعظم مسؤوليتنا وواجباتنا نحو هذا الشهر الذي كتب له الخلود بخلود القرآن الكريم، والذي فرض الله تعالى فيه الصيام تكريما وتشريفا له، بعد أن شهدت إحدى لياليه نزول أول آية في القرآن الكريم 'اقرأ باسم ربك الذي خلق'، وهذا يتطلب منا أن نكون على مستوى قدر هذا الشهر بأن لا نرفث ولا نفسق ولا نكذب ولا نجهل، فهو جائزة سنوية لمن يجتهد ويجد في عمله للدنيا وللآخرة، وتعسا لمن أدرك رمضان ولم يغفر له بحسب قوله 'صلى الله عليه وسلم'، فعلينا إذن أن نزيد من اجتهادنا وإخلاصنا وعباداتنا في رمضان، حتى يصدق علينا قول الله عز وجل: 'يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون'·· والتقوى بأن ندرك ما في رمضان من خير وبركة ونسعى لتحصيلها والفوز بها كي تكون لنا عادة فيما بعد رمضان
رمضان وواقعنا
؟ ولكن·· كيف ترى رمضان في واقعنا الراهن؟
؟؟ للأسف، رمضان في واقعنا الراهن هو شيء مغاير تماما لم أراده الله تعالى لهذا الشهر العظيم، فقد انحرف الناس في زماننا هذا عن مقاصد رمضان الحقيقية، وألحقوا به عادات وسلوكيات لا تليق بروحانياته وقدسيته، وجلاله كشهر تشرف بشرف نزول خير كتاب وأعظم دستور لحياة البشرية في ليلة من لياليه هي خير من ألف شهر، مصداقا لقوله تعالى: 'إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر' فهل يعقل ما نراه في رمضان في بيوتنا وشوارعنا واسواقنا وإعلامنا؟ هل يعقل إننا في شهر الصوم والعبادة والذكر والقرآن أن نعلن حالة الطوارئ في حياتنا لمدة ثلاثين يوما، حيث تمتلئ بطوننا بشتى أصناف الطعام والشراب وترتفع فيه فاتورة النفقات، فضلا عن ازدحام الملاهي والمقاهي بالزبائن بدلا من ازدحام المساجد بالمصلين؟ إننا لا شك نضيع رمضان بهذه العادات وتلك السلوكيات، والتي من أهم أحكام الصيام الامتناع عنها أو على الأقل الحد منها، حتى نتفرغ للعبادة كي نكتسب صفة التقوى والتي هي غاية الصيام
أما ما يشهده إعلامنا في رمضان فهو المصيبة الكبرى فكيف يتسنى لي العبادة مع متابعة 20 مسلسلا فضلا عن عشرات ومئات البرامج والمنوعات التي تذخر بها التليفزيونات والمحطات العربية والإسلامية، فلا شك أن الصائمين سينقسمون إلى أقسام عدة، فالثلث منهم يتابعون المسلسلات والأفلام والثلث الآخر على المقاهي والثلث الثالث إلا قليلا يصابون بالتخمة من كثرة المأكولات والمشروبات·· فأين من يصلي ومن يقيم، ومن يتلو القرآن، ومن يذكرالله؟·· فلا تجد لهؤلاء أثرا إلا في حدود ضيقة تكاد لا تذكر!
هذا هو رمضان عندنا، لم أعد أرى فيه تصفيدا للشياطين وإغلاقا لابواب النار وفتحا لابواب الجنة ولم أعد أرى فيه روحانياته العطرة ونسماته الطيبة·
عادات مرفوضة
؟ وكيف نعيد لرمضان هيبته ليعود إلى سابق عهده، كما كان أيام النبي 'صلى الله عليه وسلم' وصحابته وتابعيهم؟
؟؟ الأمل معقود على أبنائنا وشبابنا، فعلينا أن نغرس فيهم قيمة رمضان وجوهر رسالته السامية وجلال مكانته العظيمة، حتى يعوا أن رمضان بالعبادة والعمل والاخلاص والتسامي والارتقاء بالحياة البشرية، وليس بالأكل أو الشرب أو المسلسلات والمنوعات، فإذا ما أدرك صغارنا هذا عادت هيبة رمضان وعادت له مكانته وقدسيته
؟ بصرف النظر عما لحق بشهر رمضان حاليا من سلوكيات وعادات مرفوضة ندرك أن لرمضان مكانة عظمية بين شهور السنة والكل يتأهب لاستقباله بسرور وفرحة تغمر القلب والنفس فمن أين تأتي هذه المشاعر الجميلة؟
؟؟ هذه المشاعر والأحاسيس مرتبطة بما يحمله رمضان من جو نفسي وديني يسوده الترقب من أجل الفوز بالثواب الذي يغدقه الله تعالى على عباده في رمضان، فالكل يتأهب للحصول على ذلك وكل واحد مطمئن وواثق من أنه سوف يحصل على شييء من هذا الثواب الغزير والذي لا حساب ولا حدود له، لأن الله هو الذي يجزي به وكرم الله لا حدود له، ومن هنا يثق الإنسان برمضان وتأتي الفرحة تغمر قلبه
؟ من أين اكتسب رمضان مكانته العظيمة هذه؟
؟؟ هذه المكانة موروثة عن السلف والقدماء الذين عاصروا نزول القرآن الكريم في رمضان، ولأنهم يعظمون القرآن فقد عظموا رمضان ثم فرض الله تعالى فيه الصيام فازدادوا هيبة وعظمة وجلالا ومن هنا اكتسب رمضان هذه المكانة والتي توارثتها الأجيال المتعاقبة جيلا تلو الآخر
؟ وهل هذه المكانة اهتزت بما يشهده رمضان حاليا من طقوس وعادات كثيرها ضار لا يفيد وقليلها نافع؟
؟؟ مكانة رمضان لم -ولن- تهتز أبدا، وسيظل لرمضان مكانته العظيمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لأنها مرتبطة بالقرآن والصيام، ولكن ما يشهده رمضان حاليا من انقلاب في الموازين وانفلات في الاحتفاء به، إنما يقلل من المستفيدين من ثواب الصيام وجزائه العظيم والذي لا يعادله جزاء، وهذا ما أخبرنا عنه رسول الله 'صلى الله عليه وسلم'، فمن أدى في رمضان نافلة كمن أدى فريضة ومن أدى فريضة، كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، ولهذا ينبغي علينا أن نعيد ترتيب أوراقنا من جديد، بغرض أن نبث في نفوس الناس هذه المباديء وتلك الأحكام، حتى لا ينصرف رمضان ونخرج منه كما دخلنا دون أن ندرك من ثوابه وجزائه الوفير شيئا
تقوية الإرادة
؟ شرع الله الصيام في رمضان لأجل تقوية إرادة وعزيمة المسلم، وتقوية سلوكه·· فكيف يحقق الصوم فينا ذلك؟
؟؟ الصبر على الجوع والعطش والعزيمة على الطاعة والعبادة، يولدان في الإنسان قوة روحية وبدنية تقوى بها إرادته وترتقي بها أخلاقياته وسلوكياته، على خلاف الشبع والخمول والتكاسل عن الطاعة والعبادة، فبهما تنام العزيمة وتضعف الإرادة فيستسلم الإنسان لنوازع شهوته، ويستجيب جسده للراحة المفرطة، ومن ثم تنعدم إرادته وتضعف عزيمته ولأجل هذا كان الصوم علاجا نفسيا وصحيا يصح به الجسم وتقوى به الإرادة والعزيمة، وهذه مقويات إلهية سريعة المفعول تسري في أجسام الصائمين، ولعل هذا ما جعل رمضان يرتبط بالقوة والجهاد والكفاح وبذلك تحقق للمسلمين في رمضان ما لم يتحقق في غيره
؟ وهل المسلمون الآن مؤهلين لما يغرسه رمضان فيهم من قوة الإرادة والعزيمة؟
؟؟ 'لا' فقد فشل المسلمون على مدى السنوات والعقود الماضية في أن يتخذوا من رمضان فرصة لتقوية إرادتهم وعزيمتهم في وجه كل ما يعترض طريقهم من تحديات ومتغيرات، وهذا الحال هو ما عليه المسلمون الآن فهم مؤهلون لمتابعة الدراما والفوازير والمنوعات والتسابق في شراء المأكولات والمشروبات والسهر على المقاهي والملاهي، فمن أين اذن تأتي قوة الإرادة والعزيمة؟!
؟ وماذا ينقصنا حتى نجني ثمرة رمضان وثواب الصيام؟
؟؟ ثورة فكرية وإعلامية تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح كشهر للعبادة وليس للتسلية والترفيه، وبهذا يمكن أن نوظف رمضان في كل ما يمكن أن يحقق مصلحتنا بداية من تقويم سلوك المسلم وحتى استعادة وحدة الأمة
نواة حقيقية
؟ بمناسبة وحدة الأمة كيف يمكن تحويل رمضان إلى نواة حقيقية لجمع شتات الأمة وتقوية أواصر التعاون بين شعوب الأمة ووحدة صفوفها؟
؟؟ في الواقع لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا فتحت كل النوافذ في العالم الإسلامي بعضها على بعض، وشعر الجميع أنهم يعيشون موسما واحدا ومناسبة واحدة تجمعهم وتوحدهم، وهذا ما لا نجده في الواقع الذي نعيشه، فالمسلمون يتعاملون مع رمضان على أنه موسم للطعام والشراب والحلوى، وليس موسما للدعوة والوحدة الإسلامية ولا شك أن رمضان هو أعظم فرصة لتشكيل نواة ثابتة تلتف حولها شعوب الأمة كي توحد مصائرها وأهدافها ومشروعاتها، ففي رمضان يمتنع ملايين المسلمين عن الطعام في وقت واحد -أو على الأقل في أوقات متقاربة- ويتناولون طعام الإفطار في وقت واحد ويجتمعون في صلاة التراويح ويشعرون بأحاسيس ومشاعر مشتركة، وهذا كله يمكن أن يكون 'بروفة' لوحدة الأمة
؟ وأخيرا ما الكلمة التي توجهها للأمة الإسلامية في رمضان
؟؟ رمضان فرصة عظيمة لاسترداد قوتنا واستعادة مكانتنا وهيبتنا، وليتنا نستغلها حتى نوقف نزيف الدم العربي والإسلامي الذي يسال على أرض العراق وفلسطين وغيرهما ليتنا نعود إلى رمضان حتى يعود هو إلينا موسما عاما شاملا لكل ما يصلح دنيانا وآخرتنا، ومائدة واحدة تجلس إليها الأمة بأكملها·