إعداد ـ حميد قاسم:
من أخبار البخلاء رغيف ورغيف
قال الجاحظ: حدثني مويس بن عمران، قال رجل منهم لصاحبه، وكانا إما متزاملين، وإما مترافقين: لم لا نتطاعم، فإن يد الله مع الجماعة؟ وفي الاجتماع البركة· وما زالوا يقولون: طعام الاثنين يكفي ثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة· فقال له صاحبه: لولا أني أعلم أنك آكل مني لأدخلت لك هذا الكلام في باب النصيحة· فلما كان الغد وأعاد عليه القول، قال له: يا عبدالله، معك رغيف ومعي رغيف· ولولا أنك تريد أكثر، ما كان حرصك على مؤاكلتي! تريد الحديث والمؤانسة؟ اجعل الطبق واحداً، ويكون رغيف كل منا قدام صاحبه· وما أشك أنك إذا أكلت رغيفك ونصف رغيفي ستجده مباركاً! غنما كان ينبغي أن أكون أجده أنا لا أنت·
وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل من أهل خراسان ليلاً، وإذا هو قد أتانا بمسرجة فيها فتيلة في غاية الدقة، وإذا هو قد ألقى في دهن المسرجة شيئاً من ملح، وقد علق على عمود المنارة عوداً بخيط، وقد حز فيه، حتى صار فيه مكان للرباط· فكان المصباح إذا كاد ينطفئ أشخص رأس الفتيلة بذلك· قال: فقلت له: ما بال العود مربوطاً؟ قال: هذا عود قد تشرب الدهن· فإن ضاع ولم يحفظ، احتجنا إلى واحد عطشان· فإذا كان هذا دأبنا ودأبه، ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفاية ليلة·
قال: فبينا أنا أتعجب في نفسي، وأسأل الله ـ جل ذكره ـ العافية والستر، إذ دخل شيخ من أهل مرو، فنظر إلى العود، فقال: يا أبا فلان، فررت من شيء ووقعت في شبيه به· أما تعلم أن الريح والشمس تأخذان من سائر الأشياء؟ أو ليس قد كان البارحة عند إطفاء السراج أروى، وهو عند إسراجك الليلة أعطش؟ قد كنت أنا جاهلاً مثلك، حتى وفقني الله إلى ما هو أرشد ـ عافاك الله! ـ بدل العود إبرة أو مسلة صغيرة· وعلى أن العود والخلال والقصبة ربما تعلقت بها الشعرة من قطن الفتيلة، إذا سويناها بها، فتشخص معها· وربما كان ذلك سبباً لانطفاء السراج· والحديد أملس· وهو مع ذلك غير نشاف·
قال خاقان: ففي تلك الليلة عرفت فضل أهل خراسان على سائر الناس، وفضل أهل مرو على أهل خراسان!
أخبار الطعام والطاعمين
قصة الحارثي
قيل للحارثي: والله إنك لتضع الطعام فتجيده، وتعظم عليك النفقة، وتكثر منه· وإنك لتغالي بالخباز والطباخ والشواء والخباص، ثم أنت مع هذا كله لا تشهده عدوا لتغمه، ولا ولياً فتسره، ولا جاهلاً لتعرفه، ولا زائرا لتعظمه، ولا شاكراً لتثبته· وأنت تعلم أنه حين يتنحى من بين يديك، ويغيب عن عينيك، فقد صار نهباً مقسماً، ومتوزعاً مستهلكاً· فلو أحضرته من ينفع شكره، ويبقي على الأيام ذكره، ومن يمتعك بالحديث الحسن والاستماع، ومن يمتد به الأكل، ويقصر به الدهر - لكان ذلك أولى بك، وأشبه بالذي قدمته يدك·
وبعد فلم تبح مصون الطعام لمن لا يحمدك؟ ومن إن حمدك لم يحسن أن يحمدك؟ ومن لا يفضل بين الشهي الغذى، وبين الغليظ الزهم؟ قال: يمنعني من ذلك ما قال أبو الفاتك· قالوا: ومن أبو الفاتك؟ قال: قاضي الفتيان· وإني لم آكل مع أحد قط إلا رأيت منه بعض ماذمه، وبعض ما شنعه وقبحه·
فشيء يقبح بالشطار، فما ظنك به إذا كان في أصحابه المروءات وأهل البيوتات؟ قالوا: فما قال أبو الفاتك؟ قال: قال أبو فاتك: الفتى لا يكون نشافاً، ولا نشالاً، ولا مرسالاً، ولا لكاماً، ولا مصاصاً، ولا نفاضاً، ولا دلاكاً، ولا مقوراً، ولا مغربلاً، ولا محلقما، ولا مسوغاً، ولا مبلعماً، ولا مخضراً·
فكيف لو رأى أبو الفاتك اللطاع، والقطاع، والنهاش، والمداد، والدفاع، والمحول! والله إني لأفضل الدهاقين حين عابوا الحسو، وتقززوا من التعرق، وبهرجوا صاحب التمشيش، وحين أكلوا بالبارجين، وقطعوا بالسكين، ولزموا عند الطعام السكتة، وتركوا الخوض، واختاروا الزمزمة·
أنا والله أحتمل الضيف والضيفين، ولا أحتمل اللعموظ ولا الجردبيل· والواغل أهون على من الراشن·
ومن يشك أن الوحدة خير من جليس السوء؟ وأن جليس السوء خير من أكيل السوء؟ لأن كل أكيل جليس، وليس كل جليس أكيلاً·
فإن كان لابد من المؤاكلة، ولابد من المشاركة، فمع من لا يستأثر علي بالمخ، ولا ينتهز بيضة البقيلة، ولا يلتهم كبد الدجاجة، ولا يبادر إلى دماغ رأس السلاءة، ولا يختطف كلية الجدي، ولا يزدرد قانصة الكركي، ولا ينتزع شاكلة الحمل، ولا يقتطع سرة الشصر، ولا بعرض لعيون الرؤوس، ولا يستولي على صدور الدجاج، ولا يسابق إلى أسقاط الفراخ، ولا يتناول إلا ما بين يديه، ولا يلاحظ ما بين يدي غيره، ولا يتشهى الغرائب، ولا يمتحن الإخوان بالأمور الثمينة، ولا يهتك أستار الناس: بأن يتشهى ما عسى ألا يكون موجوداً·
وكيف تصلح الدنيا، وكيف يطيب العيش، مع من إذا رأى جزورية التقط الأكباد والأسنمة؟ وإذا عاين بقرية استولى على العرق والقطنة؟ وإن أتوا بجنب شواء اكتسح كل شيء عليه؟ لا يرحم ذا سن لضعفه، ولا يرق على حدث لحدة شهوته، ولا ينظر للعيال، ولا يبالي كيف دارت بهم الحال - وإن كان لابد من ذلك، فمع من لا يجعل نصيبه في مالي أكثر من نصيبي·