حماية الأقليات والأجانب فرض واجب
عماد محجوب:
يحفظ الإسلام بكل تقدير حقوق غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي ـ وهم من نطلق عليهم في عصرنا اسم الأقليات ـ، سواء أكان هؤلاء من أهل الكتاب أم من المشركين· ويزخر التاريخ الإسلامي بسجل ناصع البياض في هذا المجال
ومن أهم الحقوق التي حفظها الإسلام للأقليات وأعظمها قاطبة، الحرية في الاعتقاد· ذلك أن الإسلام ما كان ليجبر أحداً على الدخول فيه، ولا يقبل من إنسان إيماناً إلا بعد اقتناع· فالقرآن الكريم يعلنها صريحة لا لبس فيها: (لا إكراه في الدين)· وكيف يتسنى لأتباعه ذلك والله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قائلا: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) · وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)·
ولذلك لم يكن غريباً عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب أن يوقع وثيقة لتحديد علاقة المسلمين باليهود من أهل المدينة، فكان مما جاء في تلك الوثيقة: ' لليهود دينهم وللمسلمين دينهم'، و' أن بينهم النصح والنصيحة والبر من دون الإثم '، ولمَ لا! والإسلام حريص على أن يعطي الإنسان الحرية في سماع ما يريد ليحكم بعد ذلك عقله ويختار الأفضل ويتبعه·
وذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك، فأعطى العهد لتلك الأقليات بضمان سلامة منشآتها، وحقها في ممارسة شعائرها الدينية من دون خوف أو وجل· وليس أروع ولا أعظم ولا أجل في هذا الشأن من الاستشهاد بما جاء في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى الجزيرة العربية: ' إن احتمى راهب أو سائح في جبل أو وادٍ أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم، أذب عنهم من كل غيرة لهم بنفسي وأعواني وأهلي وملتي وأتباعي، لأنهم رعيتي وأهل ذمتي'·
ويضيف الرسول الكريم في نفس الموضوع: ' ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا حبيس من صومعته، ولا سائح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من أموال كنائسهم في بناء مساجد المسلمين ولا في بناء دورهم، فمن فعل شيئا من ذلك فقد نكث عهد الله وعهد رسوله'·
ولم يكتف الرسول الكريم بذلك بل أسقط في نفس الكتاب أيضا عن الرهبان والأساقفة الكثير من التكاليف التي يطلبها من غيرهم، ومنها أنه قد أعفاهم من الخراج في زروعهم، ومن الخروج لصد أعداء المسلمين في الحروب: ' ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة ··· وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المباركة لا يلزمهم مما يزرعونه لا خراج ولا عشر··· ولا يلزمون بخروج في حرب'·
ومن ذلك ما روي أيضا عن الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه عندما شاهد شيخاً ضريراً يستجدي، فسأل الناس متعجباً: ما هذا؟! فقالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني، فقال: ' استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت الله'·
ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط ، وإنما أباح الإسلام للمسلمين أيضا حق إجارة المشركين ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم صراحة (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) ، بل وامتد حق الإجارة هذا ليشمل حتى أولئك الذين ارتدوا عن الإسلام نفسه ، فها هو عبد الله بن أبي سرح يرتد عن الإسلام ويؤلب قريشا علي المسلمين فيهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ، فلما جاء فتح مكة لاذ بعثمان بن عفان رضي الله عنه ـ وكان أخاه في الرضاعة ـ فغيبه حتى اطمأن ، ثم أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب له الأمان ، فصمت الرسول الكريم ثم آمنه إكراما لشفاعة عثمان وجواره فأسلم الرجل على الفور·
ويمضي ديننا الحنيف إلى ما هو أبعد كثيرا من ذلك في حفظ حقوق الأقليات فيحمي كرامتهم ويصون حريتهم ، ويجعل لهم الحرية في الجدل والنقاش في حدود العقل والمنطق ، مع التزام الأدب والبعد عن الخشونة والعنف ، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل إيذاءهم قرينا باختصامه: ' من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة ' ·
وتتوالى حقوق الأقليات ، فيحل الإسلام للمسلم الزواج من الذميات من أهل الكتاب لإزالة الحواجز بين الإسلام وأهل الكتاب عن طريق المعاشرة والمخالطة وتقارب الأسر مع بعضها، وواجب الزوج ان يحترم عقيدة زوجته وطقوس دينها· ومن هنا تتاح الفرصة لدراسة الإسلام ومعرفة حقائقه ومبادئه ومثله· وهو يقر أيضا بأحقية تلك الزوجة في أن تذهب إلى المعبد أو الكنيسة ، وبأنه لا حق لزوجها في منعها ، مثلما لا يحق له كذلك أن يمنعها من زيارة أهلها·
كما أباح الإسلام كذلك زيارتهم وعيادة مرضاهم وتقديم الهدايا لهم ومبادلتهم البيع والشراء وغيرها من المعاملات، فمن الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وكان بعض الصحابة إذا ذبح شاة يقول لخادمه: ابدأ بجارنا اليهودي·