بغداد - حمزة مصطفى:
على مدى عقدين من الزمن ظل صدام حسين يحتفل بمناسبة هي الأعز عليه من بين كل المناسبات الأخرى تلك هي ما ظل يطلق عليه الأعلام الرسمي الحكومي آنذاك مناسبة ' البيعة' أو 'يوم الزحف الكبير' ويقصد بهما الاستفتاء على رئاسته للعراق كل سبع سنين ، مدى الحياة ·
وكان الخامس عشر من أكتوبر من كل عام ، يوما مميزا منذ عام 1983 حتى عام 2002 وهو العام الأخير قبل السقوط الذي تم فيه تجديد البيعة ـ طبقاً للمصطلح الذي نعته الأعلام الرسمي ـ لمدة سبع سنوات لم يقض منها في الحكم هذه المرة سوى اقل من ستة شهور حيث قامت الولايات المتحدة الأميركية ومعها حليفتها بريطانيا بشن الحرب على العراق يوم 18/ 3/ 2003 وأكملت احتلاله بسقوط بغداد يوم 9/ 4/ 2003 ·
لكن صدام حسين الذي أطلق في التاسع عشر من أكتوبر من العام ذاته ، أي بعد أربعة أيام من فوزه بالاستفتاء بنسبة مئوية بدت غريبة هذه المرة سراح آلاف السجناء من بينهم عتاة المجرمين باستثناء ثلاثة قيل إنهم من الجواسيس لم يطلق سراحهم ، وفي المقدمة منها سجن 'أبو غريب '-الذي أصبح مشهوراً فيما بعد- كان قد راقت له كثيراً عملية الاستفتاء هذه والنسبة الشهيرة التي لم يفز بها أحد من قبل ، ومن غير المتوقع أن يحوزها أحد من بعد · لذلك فأن مجمل القرارات المهمة كان يتخذها أما بالتزامن مع هذه المناسبة التي تحصل كل سبع سنوات ، أو بالتزامن مع ذكراها السنوية التي تحولت هي الأخرى إلى مناسبة لتجديد البيعة من خلال جملة من الممارسات التي تقوم بها مختلف الوزارات والمؤسسات في الدولة ·
هذا العام يبدو شهر أكتوبر مختلفاً تماماً بالنسبة لكل الشهور التي مرت على صدام حسين طوال سنوات حكمه التي استمرت نحو 35 عاماً ·· ففي هذا العام 2005 قدر لشهر أكتوبر أن يحمل مناسبتين تبدوان الأقسى على الرئيس العراقي السابق، والأجمل والأعز على خصومه السياسيين الذين قضوا سنوات طويلة يقارعون حكمه من اجل الظفر بمثل هذا اليوم الذي احتكره صدام حسين طويلاً حتى انه في العام الأخير ، قبل السقوط ، لم يعد يتخيل أن خصومه في المعارضة السياسية سيحظون بأية فرصة لمنافسته طالما انه اقفل نهائياً باب المعارضة له بعد أن منحته صناديق الاستفتاء موالاة بنسبة 100% · مع ذلك كانت الأجراس تقرع على مقربة منه تؤذن بحرب قادمة، وفيما كانت مخططات هذه الحرب تذهب بعيداً وتحديداً نحو إسقاط النظام طبقاً لما أعلنه الرئيس الأميركي بوش فان رهان صدام حسين تخطى هذه المرة الحسابات القائمة على التعبئة العسكرية والشعبية والجماهيرية لمواجهة الحرب المحتملة من خلال تجييش الناس شيباً وشباناً ، إلى السجناء أنفسهم ومن ضمنهم المئات من المجرمين الذين قادوا بعد نحو خمسة شهور من إطلاق سراحهم ما سمي فيما بعد ' الحواسم 'وهي التسمية التي شاعت لعمليات السلب والنهب التي امتدت من العاصمة بغداد إلى المدن الأخرى بعد سقوط النظام ·
استفتاء·· لكن على الدستور
أكتوبر العراقي إذن قدر له أن يظل الشهر المناسب للاستفتاءات ، وبالتحديد منتصفه تماماً ·· ففي الخامس عشر من هذا الشهر سيتوجه العراقيون إلى صناديق الاستفتاء ليصوتوا بكلمتين لمسودة الدستور الدائم ·· نعم ، أو لا · لا أحد يعلم إذا كان هناك من بين سياسي العراق الجدد ، وخصوم صدام حسين الألداء قد فعل ذلك متعمداً ، أي أن يكون الخامس عشر من أكتوبر هذا العام هو يوم الاستفتاء على مشروعية الدستور ، بعد أن ظل لعقدين من الزمن للاستفتاء على أحقية صدام حسين بالرئاسة بوصفه المرشح الوحيد الذي لا ينافسه أحد حيث لا يسمح الدستور المؤقت بذلك ، لكنه حتى إذا كان على طريقة وقوع الحافر على الحافر كما يقول الجاحظ فإن اختيار يوم التاسع عشر من أكتوبر بعد أربعة أيام على الاستفتاء بوصفه موعداً لمحاكمة صدام حسين بتهم عديدة قد تقوده أي واحدة منها إلى الإعدام ، في وقت كان قد أطلق في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات العشرات إن لم نقل المئات من العصابات والمجرمين الذين تحولوا اليوم إلى مصدر قلق حقيقي لعموم المواطنين مستفيدين من حالة الفوضى والشلل التام التي أصيبت بها الدولة العراقية بعد الاحتلال الأميركي · وبصرف النظر عن أي تأويل سياسي أو نفسي لطبيعة هذا الاختيار ودوافعه فأنه يصعب التعامل مع هاتين المناسبتين ، الاستفتاء على الدستور في الموعد نفسه الذي كان فيه صدام حسين يطلق على عملية الاستفتاء البيعة أو الزحف ، والمحاكمة في اليوم نفسه الذي حرر فيه صدام حسين سجناء وقعّ هو قرارات إعدام العشرات منهم وكانت تنتظر التنفيذ وهي قرارات ينظر خصومه أنها كان ينبغي أن تنفذ فيهم في وقت تم فيه اكتشاف العشرات من المقابر الجماعية التي يرى خصومه أنها تضم رفات أناس لم تجر لهم محاكمات حتى صورية وأن كل جريرتهم أنهم كانوا يخالفونه في الرأي ·
لذلك أراد خصومه الذين يتهمهم الآن خصومهم الجدد في العراق أيضاً بأنهم جاءوا على ظهور الدبابات الأميركية بأن تكون هاتين المناسبتين الاستفتاء والمحاكمة بمثابة نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة تكون فيها الذهنية العراقية قد تحررت من دوافع وأسباب وثوابت العلاقة القديمة باتجاه ترسيخ دعائم ديمقراطية جديدة لم يعد فيها المواطن ملزماً بتقديس المناسبة بحيث تتحول إلى طقس سنوي منضم إلى ثقافة الطقوس التي يختلط فيها حابل الحاضر المفعم بالتوتر والقلق بنابل الموروث بطابعيه الفولكلوري والتراثي معاً وما يتطلبه ذلك من خضوع أبدي لا فكاك منه ·
أسئلة مشروعة
إذا كان الاستفتاء على الدستور سيحصل في موعده المقرر ، الخامس عشر من أكتوبر 2005 فأن السؤال الهام الذي بات يلوح في الأفق : هل يبدو موعد التاسع عشر من أكتوبر نهائياً لمحاكمة صدام حسين ؟ حتى الآن لا يزال الموعد الذي أعلنه الناطق بأسم الحكومة العراقية قائماً، غير أن اللافت للنظر أن المحكمة الخاصة التي ستتولى هذه المهمة الثقيلة بالنسبة لأعضائها لم تعلن موقفاً من هذا الموضوع الحساس ، فهي لم تؤكد الموعد ولم تنف أيضاً خصوصاً وأن هناك العديد من الخلافات سواء داخل هرم السلطة الهش في العراق أو بين الحكومة العراقية و بين الإدارة الأميركية بشأن طبيعة المحاكمة وآليتها وإجراءاتها ، وما إذا كانت علنية أم سرية ·
وفي هذا السياق تبرز أسئلة أخرى من مثل : لماذا تبدو الحكومة العراقية أو لنقل جهات داخل الائتلاف الحكومي راغبة باتجاه إجراء محاكمة جنائية سريعة لصدام حسين وعدد من أبرز معاونيه وعددهم سبعة بشأن قضية الدجيل وإنزال عقوبة الإعدام به ، أو بهم جميعاً ؟ أن هناك تفسيرين لذلك ،الأول يذهب إلى القول: أن إجراء محاكمة جنائية غير سياسية لصدام حسين يعني قصر مدة المحاكمة طالما أن الهدف هو التخلص من صدام حسين دون التطرق إلى قضايا وملفات سياسية قد تجعل من قاعة المحكمة منبراً للرئيس السابق لتصفية حسابات سياسية مؤجلة مع الكثير من أصدقاء الأمس أعداء اليوم وهم أصدقاء وخصوم دوليون وشخصيون ومن مختلف الدول والقارات والاتجاهات ، وعليه فإن قضايا مثل الحرب مع إيران عام 1980 أو غزو الكويت عام 1990 أو حتى قضايا داخلة ذات صبغة سياسية مثل ضرب حلبجة بالأسلحة الكيماوية ، عام 1988 أو تصفية انتفاضة الجنوب الشيعية عام 1991 سوف تستبعد بوصفها تهماً سياسية طالما أن قضية الدجيل التي حصلت عام 1982 وراح ضحيتها المئات من المواطنين العراقيين ممن تم إعدامهم بتهمة اغتيال صدام حسين كفيلة بأن تؤدي به إلى حبل المشنقة مثلما يريد خصومه السياسيون ·
أما التفسير الثاني - وهو متداخل مع الأول إلى حد كبير- حيث يرى الكثيرون : أن الإسراع بمحاكمة صدام حسين وإنزال عقوبة الإعدام به وتنفيذ هذه العقوبة من شأنه القضاء على واحد من أبرز العوامل التي باتت مؤثرة في أعمال العنف والمقاومة المسلحة ·· ففي غضون الفترة القليلة الماضية رفعت صور صدام حسين في أكثر من محافظة من محافظات العراق ·
وبافتراض أن عملية الاستفتاء على الدستور ستمر بسلام في الخامس عشر من أكتوبر فإن إجراء محاكة لصدام حسين في التاسع عشر منه أو حتى في يوم آخر سيكون بلا شك موعداً قريباً، ذلك أن الحكومة الحالية التي كتبت الدستور ستمتلك بقوة زمام الأمور طالما أنها ستكتسب شرعية دستورية تجعلها قادرة على خوض انتخابات نهاية العام بثقل أكبر ، إلا أنه في حال تم إسقاط الدستور في حال عدم التصويت عليه من قبل ثلثي سكان ثلاث محافظات فأن العملية السياسية في العراق ستواجه مأزقاً حاداً يصعب الخروج منه في ظل تزايد أعمال العنف · فالجمعية الوطنية ستحل طبقاً للقانون وتتحول الحكومة الحالية إلى حكومة تصريف أعمال وتبقى السلطة بيد مجلس الرئاسة ويظل كل شيء معلقاً حتى إجراء انتخابات جديدة بعد عام لجمعية وطنية أخرى تكتب دستوراً جديداً، وهذا يعني أن كل شيء سينهار ويظل معلقاً لسنة كاملة ، ولذلك فأن الجهات الحكومية تعمل بلا هوادة من أجل التصويت بنعم على الدستور ، وتبدو مطمئنة إلى حد كبير ، وهو أمر بات يثير أسئلة أخرى مثل هل سيتم اعتماد أعداد الناخبين كأساس للتصويت على الدستور ، أم المصوتين ؟ وهل ستعمد الحكومة إلى القيام بأعمال مسلحة في المناطق الساخنة كذريعة للقول بأنها رهينة بيد الإرهابيين؟ وبالتالي يصعب إجراء الاستفتاء الكامل بها ، أواعتبار أصوات من يصوت في تلك المناطق هو الأساس لمنح الدستور الشرعية بصرف النظر عن العدد الكلي ؟ إن هذه الأسئلة وسواها ستظل مطروحة حتى موعد الخامس عشر من أكتوبر ، وفي ضوء هذا الموعد سيتحدد الموعد اللاحق في التاسع عشر منه ، وفي كل الأحوال فأن أكتوبر سيكون شهر المفاجآت والمفاجآت المضادة بالنسبة للعراق ·