الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أَنْسَنة «شجرة الغاف»

أَنْسَنة «شجرة الغاف»
16 يناير 2020 00:10

شكّلت شجرة الغاف في الإمارات، وما زالت حالة ثقافية خاصة، ففضلاً عن اختيارها مكوّناً رئيساً من شعار عام التّسامح 2019، فقد انفردت في أن تكون المفردة الوطنية الأصيلة في الدّولة، ورمزاً للصمود والتعايش في الصحراء، كما أنّها تمثل قيمة ثقافية كبيرة لاقترانها بهوية الإمارات وتراثها وموروثها الشعبي، وعلاقتها الوثيقة بإنسان أهل الإمارات الذي وضعها في مكانة عالية ومرموقة.
من هذه النافذة عبر الشاعر والباحث سلطان العميمي بلغة شاعرية بليغة، ليفتح أمامنا فضاءات جديدة رحبة حول شجرة الغاف في كتابه الذي يعدّ أوّل معجم من نوعه يصدر في المنطقة والموسوم بـ«معجم الغاف في دولة الإمارات» الصادر حديثاً عن أكاديمية الشعر التابعة للجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بأبوظبي، وبالتعاون مع جائزة الشيخ زايد للكتاب، ومن ذلك ما ورد في المقدّمة، ما يؤكد تقدير هذه الشجرة واحترامها، وما يستوجب حمايتها والمحافظة على شخصيتها وهويتها: (إن شجرة الغاف كانت حلقة من حلقات الوصل في حياة أهل الإمارات على امتداد القرون الماضية، لخلق حالة من التوازن بين مختلف عناصر الحياة، إن قطع الغافة يشكّل جناية مجتمعية وبيئية، يجرّم من يقدم عليها، وكان هناك قانون «الرفجة» الذي كان يطلقه الحكّام وشيوخ القبائل في الماضي، وهو قانون يمثل جزءاً من نظام حماية أشجار الغاف وغيرها من الأشجار الصحراوية النادرة، ويمنع «التّحيب» الجائر، كما أنّه يحوّل مناطق البادية إلى محميات يحافظ فيها الجميع على الغطاء النباتي فيها).
الاستهلال الذي وضعه العميمي، يلفت انتباهنا لأهمية شجرة الغاف، وحضورها في اللغة واللهجة والثقافة المحلّية والبيئة والشعر النبطي، وفي صور فنّية عديدة، ومن ذلك على سبيل المثال، التّعريف بشجر الغاف الصغير المعروف باسم «كيل» وكيف ارتبط عند الشاعر سالم بن علي العويس بجسد المرأة اللدن الرشيق، فالكيلة تسمية في بعض المناطق على شجرة الغاف الصغيرة ذات الأغصان اللدنة النازلة الملامسة للأرض، كقوله:
يا عويد الكيل يا المايش في العرب، لك يا الغضي بيّه شوفني، كي م الهجر بايس، سامح الله في الحشر «ميه»

ناقة ابن ظاهر
يؤكد المؤلف في السياق أن تاريخ ورود شجرة الغافة في الشعر النبطي في الإمارات قديم، ويعود بحسب الرواة إلى أكثر من 300 سنة، إذ يرتبط بأقدم شاعر نبطي وصلنا إنتاجه الشعري في الإمارات، وهو الماجدي بن ظاهر «توفي في مطلع القرن الثامن عشر»، ويروي الرواة الشفاهيون تغرودة له عن شجرة الغاف التي لجأ إليها، كي تنقذ ناقته «إختيلة - ناقة ابن ظاهر» من الموت قائلاً:
الغاف لو ينفع نفع إختيله ماتت وهوه لها يخرط الكيلة.
أفرد العميمي مادة في ذات الاستهلال، خصصها للحديث عن أهمية شجرة الغاف عند المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حيث كانت تشكّل في فكره جزءاً من اهتمامه الشخصي بالغطاء النباتي في الدولة بشكل عام، وبالأشجار المحلّية بشكل خاص، كما أنها أخذت عنده حالة خاصة من الرعاية لجمالها وقوّتها في تحدّي قسوة الصحراء، ويورد المؤلف العديد من القصص والحكايات التي تعكس مدى اهتمام القائد المؤسس بهذه الشجرة، إلى الحد الذي جعله يوجه بسن التعليمات والقوانين وعدم قطع شجر الغاف لأي سبب كان: «إن هذا الوعي الذي حمله خطاب الشيخ زايد، طيب الله ثراه، حول الأشجار وأهمية المحافظة عليها، يحمل إيماناً حقيقياً ومبكراً لديه بدور الشجرة في حياة الإنسان مهما بلغت درجة تحضّره، أهميتها للبيئة أيضاً ولمستقبل الأجيال القادمة».

مسميات الغاف
تحت عنوان «مسميات الغاف» تحدث العميمي بإسهاب عن فلسفة تسمية أشجار الغاف ومناطقها، وتصنيف هذه المسميات بدلالاتها المعجمية والسيمائية: «كما تبرز لنا ضمن فلسفة تسميات الغاف، ظاهرة إطلاق أكثر من اسم على الغافة نفسها، أو على غافات معينة، أو منطقة غافات معينة، مثال ذلك غافات الرقاب في إمارة دبي، حيث تعرف أيضا باسم غافات اللقحات، وجزعة الركض التي تعرف أيضاً باسم جزعة الزمول، ويمكن تفسير ذلك بوجود أكثر من سبب أو ظاهرة يؤديان إلى تعدد التّسمية – ص 26».
لقد تجاوز العميمي في الحقيقة وبوعي نحو منظومة الحياة والطبيعة في الإمارات حدود التقليدية في فهم وقراءة شجرة الغاف، إلى حد اعتبارها إنساناً في المضمون الاعتباري، ووردت التفاصيل تحت عنوان فرعي «الغافة إنساناً»، فأشار إلى أنّ ابن الإمارات ارتبط بهذه الشجرة ارتباطاً وثيقاً طوال حياته، سواء في تنقلاته أو استقراره، وهكذا ارتفعت مرتبتها وأهميتها عنده إلى درجة إطلاقه صفات وتسميات ذات طبيعة إنسانية عليها وعلى أجزائها، كما استل من قاموسها اللغوي مفردات استخدمها في لهجته اليومية، لتوليد معانٍ جديدة ترتبط بجوانب معينة في حياته.
في السياق أورد العميمي العديد من الصفات الإنسانية للغافة، وينبثق عنها الصفات الإنسانية العضوية، بما يوحي بـ «أنسنة الغافة»، وهو ما ينفرد به المؤلف في تجديد النظرة والرؤية نحو هذه الشجرة التي اكتسبت شأناً خاصاً في ثقافة الحياة اليومية، وفي جوانبها المتصلة بالجغرافيا والبيئة والأطعمة والإبل والطيور وحياة الصحراء وثقافة أهلها.
لقد نجح العميمي في كتابه الذي يشكل موسوعة شاملة حول شجرة الغاف، في أن يرسم لنا صورة إنسانية كاملة لعلاقتها كمفردة تراثية بما يحيط بها من مناخات وتمثلات تؤكد هوية المكان، وأثر ذلك في تشكيل الحالة الثقافية والفضاء الإنساني الجميل الذي يجمع عادة ثلاثية الزمان والمكان والإنسان: (إن هذا التعايش بين الإنسان والحيوان والنبات في المنطقة، يظهر لها جوانب حضارية مجتمعية مهمة، نابعة من رؤية بعيدة المدى لحاضر ومستقبل مختلف الأجيال، وإدراك عميق بأهمية المحافظة على التوازن البيئي في المنطقة، ولا شك أنّ في هذا التعايش جزءاً من منظومة التسامح الذي لا يقتصر حضوره على عالم الإنسان فقط، بل ويتصل أيضاً بالإنسان والحيوان، وهو المنطلق الذي يمكن من خلاله الوقوف على حضور التسامح والتعايش بين أهل المنطقة وبقية عناصر الحياة، حيث تنتفي أنانية العيش الفردي، ويحضر الحرص على حياة الجميع وحصولهم على موارد كافية ومتساوية للحياة والعيش تحت مظلة منظومة العدالة، حتى في هذه الحالة).

شاهدة على التاريخ
لم يغفل العميمي أن يتمثل موقع وأهمية شجرة الغاف، فيخرجها بمهارة عالية من حالتها البيئية، وكمفردة تراثية، إلى وضعها في مكانة الشاهد على أحداث ووقائع تاريخية تكشف الكثير من الأحداث المهمة، مثل عود التوبة في مدينة العين الذي ارتبطت تسميته بفترة حكم الشيخ زايد الأول، وغافات زايد في إمارة دبي التي ارتبط اسمها بالشيخ زايد الأول، وغافات زاخر التي شهدت حفل زواج المغفور له الشيخ زايد، طيب الله ثراه، بسمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، وغافة الحصان في مدينة العين التي كان الشيخ زايد يربط حصانه أسفلها عند تفقده أحوال المنطقة، عندما كان فيها ممثلاً لحاكم أبوظبي.
ومن الأبواب المهمة التي ينفرد بها هذا المعجم، باب بعنوان «الغافة الحضور والتمثلات»، حيث خصص العميمي حديثاً شائقاً عن الغافة في الثقافة الشعبية، ونقتطف منه: (تحضر الغافة في الثقافة الشعبية المحلية لأهل الإمارات بشكل واضح في جوانب عديدة، إذ تتجلى في جانب منها ظاهرة المسميات التي أطلقت على عدد غير قليل من أشجار الغاف وأماكن وجودها ونموها، والتي ساعدت في تخليد عدد غير قليل من الأحداث التاريخية والأسماء والظواهر البيئية في المنطقة مثل: غافات زايد وعود ميثا ودمية بخيتة وشرف الركبان وقط الصفارد، كما حملت بعض المناطق والآبار والمرتفعات الرملية أسماء كان لوجود شجرة الغاف فيها أو قربها دور في اشتقاق التسمية، مثل: أم غافة والغويفات والغافية، وتحمل هذه المسميات الدلالات الخاصة بفلسفة تسميتها). في الواقع لا نستطيع أن نفصل حضور الغافة في الثقافة الشعبية عن حضورها في اللهجة والشعر النبطي والعادات والتقاليد والأعراف المرتبطة في المجتمع الإماراتي.

توثيق المسميات
في تبويبه لمادة المعجم الذي يعتبر أول عمل أكاديمي بصفة أدبية من حيث طريقة السرد والوصف، يعنى الشاعر والباحث سلطان العميمي بتوثيق مسميات أشجار الغاف في مختلف إمارات الدولة، وأسباب تسمياتها، ومواقعها، ومصطلحاتها المتصلة بأماكن نموها، وأنواعها، وأعدادها، وأجزائها، ومراحلها العمرية، وثمارها وكيفية الاعتناء بها.
واعتمد المؤلف الترتيب الألف بائي لمواده التي بلغ عددها في المعجم أكثر من تسعمائة مادة عن هذه الشجرة التي احتلت مكانة استثنائية في حياة أهل الإمارات.
وكان لافتاً جهد العميمي الكبير في صياغته لهذا المنجز النوعي الذي يقع في مئتين وثمانين صفحة في قطع من حجم الكبير، وجمع مادته على عدد كبير من المصادر والمراجع، منها الروايات الشفهية التي سجلها عن عدد غير قليل من الرواة في عدد من إمارات الدولة، إضافة إلى توثيقه ما ورد عن الشجرة نفسها من مسميات ومعلومات في عدد من المصادر المرئية والسمعية والمراجع المكتوبة المتخصصة في التراث والثقافة والجغرافيا والتاريخ بدولة الإمارات، والمعاجم العربية القديمة التي أشارت إلى أماكن نموها وثمرها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©