الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الخليج العربي.. حاضن الحضارات الشرقية القديمة

الخليج العربي.. حاضن الحضارات الشرقية القديمة
2 مايو 2019 02:55

د. خزعل الماجدي

تنتقل الحضارات من خلال جسور مختلفة، منها هجرة الشعوب، لأسباب مختلفة، من مكان لآخر حاملة إرثها وتقاليدها الحضارية، ومنها الحروب والغزوات التي تحمل معها ثقافات وحضارات المجموعات والدول الغازية، ومنها التبادلات التجارية التي تحمل معها عناصر حضارية كثيرة، وهناك النقل المبرمج والمدروس عبر ترجمات النصوص والكتب والبعثات العلمية بين الشعوب وغير ذلك. كلّ تلك الجسور الحضارية شكّلت معابر للتبادل الحضاري في الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة وبصورة متواصلة.
كان الخليج العربي بضفتيه الشرقية والغربية مكاناً نوعياً في العالم كجسرٍ للحضارات والثقافات الشرقية فيما بينها، ومع الحضارات والثقافات الغربية، وقد شكّل هذا الجسر الحضاري واحداً من أعظم الطرق الذي كانت تسري في مصول ودماء الحضارات والثقافات بقوةٍ.
سنركز في مقالنا هذا على الجسر الحضاري المثلث للخليج العربي الذي ربط بين حضارات وادي الرافدين والسند واليمن، والذي ترك أثراً نوعياً كبيراً في نشوء ست محطات كبرى على ضفتيه كانت بمثابة علامات مضيئة في حركة الحضارات القديمة بشكل خاص.
ففي الساحل الغربي للخليج العربي ظهرت جسور ثقافات (دلمون، أم النار، مجان) أما في الساحل الشرقي فقد ظهرت جسور ثقافات (أنشان، أرتّا، ملوخا).

أولاً: ثقافات الساحل الغربي:
1ـ ثقافة دلمون: مركزها في جزيرة البحرين ومحيط انتشارها سواحل شرق الجزيرة العربية العليا، عرفها السومريون بأرض الفردوس وأرض الخلود والحياة. أما مواقع آثارها فهي: فيلكا، البحرين، القطيف. وهي حلقة الوصل بين بلدان الشرق الأوسط والأدنى حيث كانت في الشمال حضارة بلاد ما بين النهرين (العراق) وفي الشرق وادي السند (الهند) وفي الغرب حضارة مصر القديمة، وفي الجنوب حضارة اليمن.
شغلت ثقافة دلمون مناطق واسعة من منطقة الخليج العربي تتصل به حضارياً، حتى أن حدود دلمون (الكبيرة)، تضم الجزء الشمالي الغربي من منطقة الخليج العربي، وتمتد من فم شط العرب وجزيرة فيلكا، وباتجاه جزيرة البحرين جنوباً، وقطر، مع الجزء الوسطي من منطقة الأحساء في شرق المملكة العربية السعودية هناك من يرى أن امتداد دولة دلمون الشمالي إلى أهوار العراق الجنوبية والبر الرئيسي للكويت وجزيرة أم النمل. ويمكننا التعرف على مراحلها التاريخية كما يلي:
المرحلة الأولى (المبكرة 2200 ـ 2000 ق.م): وقد كانت التأثيرات الوافدة من بلاد وادي السند واضحة وكثيرة.
المرحلة الثانية (الوسيطة 2000 ـ 1800ق.م): وتظهر في هذه المرحلة التأثيرات الرافدينية. حيث يرى بعض الباحثين أن التأثير الآموري الذي سيطر على القوى السياسية في ديلمون، كان واضحاً، كما حدث في مدن جنوب بلاد وادي الرافدين. كانت جزيرة البحرين في هاتين هي المركز الرئيس في دولة دلمون.
المرحلة الثالثة (المتأخرة 1800 ـ 1600ق.م): وهي الفترة التي بدأت فيها جزيرة فيلكا الواقعة في دولة الكويت، باحتلال مواقع متقدمة في حضارة دلمون ودولتها.
حظيت ثقافة دلمون بمكانة رفيعة، دينياً وتجارياً، كان سببها تواصلها مع بلاد وادي الرافدين وبلاد السند واستطاعت هذه الثقافة أن تربط ساحل الخليج العربي الغربي بثقافات أم النار ومجان وبحضارة اليمن.

2. ثقافة أم النار: تقع جزيرة أم النار، الواقعة قبالة ساحل إمارة أبوظبي، على موقع أثري أسفر عن اكتشافات هامة ساعدت على إلقاء الضوء على ثقافة ونمط الحياة لسكان الإمارات العربية المتحدة في العصر البرونزي، فمنذ حوالي 2600 إلى 2000 سنة قبل الميلاد، عمل سكان الجزيرة في الصيد وصهر النحاس، ومارسوا التجارة خارج حدود الجزيرة ليصلوا إلى بلاد الرافدين ووادي السند، وتمّكن سكان الجزيرة الأوائل من إقامة مستوطنات ثقافية خارج مركزها.
بدأت ثقافة أم النار بالظهور في العصر البرونزي في الإمارات العربية المتحدة وشمال سلطنة عمان من 2600 ق.م. إلى 2000 ق.م وتسبق وجود هذه الثقافة ثقافة أخرى تسمى حضارة حفيت، وتليها ثقافة وادي سوق في منطقة مليحة بإمارة الشارقة.

3. ثقافة مجان: ثقافة عُمان والساحل الشرقي لجزيرة العرب تميزت ببناء السفن، وجاب أهلها البحار وتاجروا، وتوسعوا في نقل التجارة من مختلف السواحل، ولا تزال صناعة بناء السفن الشراعية معروفة حتى اليوم مع قلة ربحها وعدم تمكنها من منافسة البواخر إلا أنها على كل حال مورد رزق لأصحابها لاقتناعهم بالقوت القليل.. وقد دعيت (مجان) في نصوص أخرى (ماتو مجان) أي (أرض مجان) التي كانت مركز الاستخراج الرئيسي للنحاس، والذي كان يتم تصديره إلى بلاد ما بين النهرين إلى الشمال الغربي، وإلى وادي السند في الشرق.

ثانياً: ثقافات الساحل الشرقي:
1. أنشان: عاصمة عيلام، وهي أقدم حضارة (تسمى حضارة بسبب وجود كتابة خاصة بها) تقع في أقصى غرب وجنوب غرب إيران المعاصرة، وتمتد من الأراضي المنخفضة لما يعرف الآن بخوزستان (الأحواز) وإقليم عيلام بالإضافة إلى جزء صغير من جنوب العراق. عُرفت عيلام، عند الإغريق والرومان، أيضًا باسم سوسيانا، وهو اسم مشتق من عاصمتها سوسا. وتقع أنشان جنوب عيلام. وكانت عيلام بمثابة الثقافة المبكرة خلال فترة العصر الحجري النحاسي (كالكوليت). ومع بداية العصر التاريخي حوالي 3000 ق.م ظهرت بدايات الحضارة العيلامية بعد ظهور الحضارة السومرية بقليل، وتأثرت كثيرا بثقافة سومر ونشرتها إلى شرقاً وجنوباً على ساحل الخليج العربي الشرقي، وكذلك فعلت مع عناصر حضارات أكد وبابل وآشور.
أما أنشان (بالسومرية: أنزان)، (بالفارسية: تل مليان)، فكانت مدينة قديمة. تقع جنوب غرب إيران. كانت واحدة من العواصم المبكرة لعيلام منذ أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد. في وقت لاحق، في القرن السابع قبل الميلاد، أصبحت واحدة من العواصم الأولى لبلاد فارس.

2. أرتّا: ثقافة نوعية لمنطقة بهذا الاسم، وصفت، في الأدب السومري كمكان أثري مليء بالذهب والفضة واللازورد وغيرها من المواد الثمينة، وكذلك الحرفيون لصناعتها. وهو مكان بعيد ويصعب الوصول إليه. فهي موطن للإلهة إنانا ولذلك كان ولاؤها لأوروك معروفاً.
غزا أرتا ملك أوروك إنمركار (جد جلجامش) ووصل لها ولده لوكال بندا. وسرعان ما نشأت أشعار أسطورية تتغنى بأفعالهم البطولية، وتذكر إحدى العبارات في هذه الملاحم أن فم رسول الملك كان كبيرا، فلم يستطع أن يكرر الرسالة، فقام سيد كولاب (أنمركار) بتسوية بعض الطين، ووضع عليه الكلمات كما ترسم على قرص، وقبل ذلك الوقت لم تكن توجد كلمات منقوشة على الطين أبداً. وهي حادثة طريفة قد تشير إلى بداية اختراع الكتابة.
ورثت ثقافة أرتا ثقافة قبلها هي (يروفت) وجاءت بعدها ثقافة (مرهاشي)، وكانت كل هذه الثقافات ممرات مهمة على الساحل الشرقي للخليج العربي بين حضارتي السند والهند ووادي الرافدين.

3. ملوخا: ملوحا أو ملوخا هو الاسم السومري لشريك تجاري بارز لسومر خلال العصر البرونزي الأوسط. وثق حرفيو ملوخا وتجار البحارة أعمالهم المعدنية التي تم إنشاؤها، وهي واحدة من الثقافات السندية، والتي يعتقد أنها الامتداد الساحلي لثقافة موهنجو دارو السندية، بشكل خاص، وربما تضمنت ثقافة هرّابا السندية لاحقاً. كما يتضح مثل هذه النصوص في تيبي يحيى ويروفت (مارهاشي) من منطقة كرمان في إيران القديمة. أي أنها كانت متصلة بقوة بثقافات مرهاشي وأرتا ويفروت وعيلام.
هناك من يرى أن بداية الحضارة في وادي السند كانت بحافز حضاري من وادي الرافدين وبشكل خاص في مجال الكتابة والعمران والتجارة، وهذا مرجّح بسبب السبق الحضاري لحضارة وادي الرافدين زمنياً، ويؤيد هذا تواصل الرحلات التجارية بينهما، من خلال الخليج العربي بشكل خاص، على مدى التاريخ القديم.
اتخذ المؤرخون الهنود من ظهور بعض الكلمات المتبقية في اللغات المنحدرة من الدرافيدية مثل التيلجو والتاميل وغيرها دليلاً على تواصل بين الدرافيديين والسومريين مثل كلمة (أور) التي تعني في هذه اللغات (مدينة) وهو معناها بالسومرية، بل إن هناك مدناً في جنوب الهند تنتهي بلاحقة (أور) مثل (بنغالور، تشيتور، تانجور، بانجالور، سنغافور.. الخ) وهناك المئات بل الآلاف من هذه الأسماء.
وهناك سكان سنديون هاجروا إلى سومر وأسسوا فيها قرى سميت لاحقاً بـ(قرى ملوخا) ويرجّح أن يكون هذا الاسم هو الاسم الحقيقي لحضارة وادي السند القديمة (ملوخا). ويعتقد، اليوم أن موهنجو – دارو ربما كانت هي مدينة ملوخا Muliuha التي ذكرتها النصوص المسمارية وهي تتحدث عن التجارة الواسعة معها، فقد كانت سفن ملوخا ترسو في الموانئ السومرية والأكدية بشكل دائم وتجلب لها الفضة والذهب والعاج والعقيق والأخشاب.

ثقافات ومدن حضارة السند
أثرت حضارة السند مباشرة أو من خلال سكان قرى ملوخا في وادي الرافدين وفي حضارات وثقافات الخليج العربي، وكانت مع التأثيرات المباشرة لحضارات وادي الرافدين مساهمة في حفز الحضارات في الخليج، ولعل أهم تلك الإسهامات وأولها هي الأختام الدلمونية المبكرة التي كان بعضها ذات طراز سندي واضح، والتي ظهرت في حدود 2100 ـ 2050 ق.م.
هناك ما يشبه الإجماع، اليوم، على أن حضارات الخليج العربي القديمة تأثرت بحضارة وأدوات وادي السند من خلال طريقين هما:
أولاً، سكان قرى ملوخا في وادي الرافدين أو الذين هاجروا إلى مدن وحواضر الخليج العربي منذ 2100 ق.م،
وثانياً، أدوات وأختام وآثار ثقافة (بكريا ـ مارجينا) التي هي امتداد للحضارة السندية في إيران فقد أثرت في حضارات الخليج عموماً وفي حضارة دلمون بشكل خاص للفترة من 2200- 1800 ق.م.
يقول جواهر لال نهرو في كتابه («اكتشاف الهند» ج1 بترجمته العربية ص 91): «حضارة وادي السند هذه كانت متواصلة مع الحضارات الشقيقة في كل من بلاد فارس وما بين النهرين ومصر وتتاجر معها، كما كانت متفوقة عليها من بعض النواحي. كانت حضارة مدينية حيث كانت طبقة التجار غنية وتلعب كما هو واضح دوراً بارزاً ومهماً. فالأكشاك والدكاكين المصطفة على امتداد جانبي الشوارع تذكِّرنا بالبازار الهندي في الأيام الحالية.
يقول البروفسور تشايلد: «يبدو أن الاستنتاج هو أن الحرفيين في المدن السندية كانوا، إلى حد كبير ينتجون للسوق. أما عن وجود أي نوع من النقد أو معيار للقيمة مقبول لدى المجتمع لتسهيل عملية تبادل السلع فلا نعرف عنه شيئاً على أن المخازن المتصلة بالبيوت الفسيحة والمريحة الخاصة تشير إلى أن أصحابها هم التجار. وعدد مثل هذه المخازن وحجمها يؤكدان وجود فئة قوية ومزدهرة من التجار وأن كنوزاً مذهلة من الحلي والزينات الذهبية والفضية والأحجار الكريمة والزخارف، إضافة إلى الأواني النحاسية المنقوشة والأدوات ويضيف تشايلد قائلا إن الأدوات المعدنية والأسلحة، تم العثور عليها بين الأنقاض الشوارع ذات التنظيم الجيد وشبكات الصرف الصحي الرائعة، التي كانت تُعزل بانتظام، تعكس اليقظة التي كانت الإدارة البلدية النظامية تتحلى بها. وكانت سلطة هذه الإدارة قوية إلى درجة تكفي لضمان التقيد بخطة المدينة بقوة القانون والحفاظ على الخطوط المرسومة للشوارع والأزقة عبر العديد من عمليات إعادة البناء التي كانت الطوفانات تفرضها».

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©