الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ابن الخمس سنوات في مدينة المتاهة الهائلة

ابن الخمس سنوات في مدينة المتاهة الهائلة
29 ابريل 2019 03:18

إبراهيم الملا (أبوظبي)

وكأنها الأتوبيوغرافيا الملحمية، المبعوثة من جراحات عميقة وطفولة بائسة، قبل أن تتحول إلى سيرة ذاتية ملهمة للأدب والسينما ولملايين الشغوفين بقصص الكفاح الروحي من أجل تخطي الحاجز الصلب والعالي للذاكرة والزمن.
هي تلك القصة الذاتية المليئة بالمرارات والآمال أيضا، والتي سردها مساء أمس الأول الكاتب الهندي سارو بريرلي بعنوان: «طريق طويل من الصفحة إلى الشاشة» ضمن البرنامج الثقافي لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته التاسعة والعشرين، وجاء سرده مفعما بالالتقاطات الحميمية رغم انكشافها على مشاهد داكنة في البداية، وقال بريرلي إن الأمر مرتبط بذاكرته الفوتوغرافية، التي يمكن أن تتحول إلى لعنة عند البعض، ولكنها بالنسبة له كانت هبة ونعمة، خصوصا بعد خروجه من تجربته المريرة منتصراً على اليأس الذي لازمه 25 عاما.
بدأت مأساة بريرلي عندما كان طفلا في الخامسة من عمره، حيث استقل القطار الخطأ في مدينته (باران بور) كي يتفاجأ بوصوله لمقاطعة (كاليكوتا) وبعيدا جدا عن شقيقه الذي ظل ينتظره ويبحث عنه طويلا في محطة القطار الأولى، وجد الطفل نفسه في مدينة المتاهة الهائلة التي يصل عدد سكانها إلى 14 مليون إنسان، ممتلئا بالحزن والفقدان، ومطاردا بالجوع والعطش والنظرات الشرسة من قبل غرباء لا يعرفهم ولا يعرفونه، حتى وصل به الأمر لدخول السجن، ثم إلى ملجأ الأيتام، قبل أن ينتهي به المطاف إلى قارة بعيدة، بعد أن تبنته عائلة أسترالية، وأصبح يمتلك أما بديلة، عوضا عن أمه البيولوجية التي بات يفصله عنها محيط كبير غرقت فيه هويته المتشكّلة للتوّ، وذابت فيه كل آماله وأحلامه الطازجة.
وذكر بريرلي إن موافقته على فكرة التبني وضعته أمام خيار صعب جدا، وهو التخلي عن فكرة العودة لأمه الحقيقية، والارتباط النهائي بوضعه الجديد في أستراليا، وتنازله كذلك عن أي حق قانوني في بلده الهند.
وأرجع بريرلي سبب موافقته على هذا القرار إلى الوضع المزري الذي عاشه لشهور طويلة في كاليكوتا، حيث المافيات والعصابات التي ظلت تطارده للعمل كمتسول، وللقيام بأمور غير شرعية يستفيد منها المجرمون، وقال: «لقد حصل كل شيء بشكل سريع، حيث وجدت نفسي في عالم مختلف تماما، الطبيعة، والأرض، والناس، والقوانين، كل شيء في أستراليا مختلف».
وبررّ إصراره في البحث عن عائلته رغم السنوات الطويلة التي قضاها في أستراليا إلى ارتباطه الميتافيزيقي بعائلته، مشيرا إلى أن سبب هذا الارتباط لا يمكن تفسيره، فهو لم يستطع التخلي تماما عن فكرة عودته لعائلته الأصلية، وقال إن أمه البديلة في أستراليا، تفهمت هذا الهاجس الكبير المسيطر عليه، ولم تتدخل في خياراته، بل ساعدته في أوقات كثيرة لتحقيق حلمه، رغم أن الأمر لم يكن سهلا عليها، بعد أن أصبح جزءا من العائلة، وركنا أساسيا فيها.
وعن الخطة التي اتبعها للعثور على مكان عائلته في الهند، أوضح بريرلي إنه يتمتع بالموهبة التحليلية عند مواجهته لأي تحد في حياتية، وكان موضوع البحث عن عائلته هو التحدي الأكبر الذي واجهه، مضيفا أن طريقته في البحث لم تكن ذات مسار خطي واحد ومتسلسل، بل كان مسارا متذبذبا ويعتمد على الحدس، وجرّب فيه كل الوسائل المتاحة، سواء كانت هذه الوسائل ذهنية أو عاطفية أو عملية وتطبيقية من خلال التكنولوجيا، وكان اعتماده كبيرا، كما أشار، على خارطة «غوغل»، وعلى ذاكرته البصرية التي استعاد خلالها تفاصيل قريته الصغيرة، وقارنها بما وجده في خارطة «غوغل»، مؤكدا أن تصور الربط بين هذه التفاصيل الشبحية، وبين الموقع الحقيقي لقريته، كان تصورا مستحيلا في البداية، لأن بلده الهند هي شبه قارة، ووصف الأمر بأنه أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش.
وأردف بريرلي: «كانت الرابعة صباحا عندما عثرت على موقع قريتي على جهازي الإلكتروني، كانت لحظة انتصار مدوية بالنسبة لي، وشعر الجميع في منزلي بتلك اللحظة الفائضة بالسعادة».
مضيفا: «في رحلة عودتي إلى الهند، قالت لي والدتي الأسترالية: عندما تلتقي بعائلتك الأصلية، لا تضع آمالا كبيرة، ولا تجعل توقعاتك أكبر من حجمها، فمع مرور تلك السنوات الطويلة، فإن لحظة اللقاء قد تكون صادمة لك ولهم». واستطرد بريرلي قائلا: «كانت لحظة غرائبية بالفعل، حيث رأيت والدتي وقد شاخت وكبرت في العمر، ولكن صورتها وملامحها التي احتفظت بها وأنا في الخامسة، ما زالت مرسومة على وجهها، ومع كل اللمسات والأحضان والدموع التي استقبلتني بها، شعرت إنني عدت طفلا من جديد، كانت لحظة نشوة بالغة، وكأنني تخطيّت الزمن».
وعن انفعالاته بعد تحويل سيرته الذاتية إلى فيلم بعنوان: «الأسد» Lion، بمشاركة الممثلة نيكول كيدمان، والممثل الهندي «ديف باتيل» الذي ترشح لجائزة الأوسكار، أوضح بريرلي أنه كان محظوظا لأن النص الذي كتبه تضمن مشاهد سينمائية جاهزة، وأنه كان محظوظا أكثر لأن الشركة المنتجة لم تفرض شروطا تجارية تخرج الفيلم من سياقه العاطفي والإنساني، وأضاف بأن الفيلم يخاطب كل فئات الجمهور، وكل شخص يمكن أن ينظر لهذا العمل الفني من زاويته التي تخصه، متمنيا أن تكون القصة التي عاشها ووثقها الفيلم، هي قصة محفزة للآخرين الذين عاشوا تجربة الفقدان واليتم والضياع الوجودي، كي يبحثوا مجددا عن ذواتهم، ويحققوا حضورهم في هذا العالم، وأن يكون لهم تأثير اجتماعي فاعل لتغيير القوانين المجحفة تجاه الأطفال في البلدان الفقيرة والنامية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©