الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محنة المعنى

محنة المعنى
13 أغسطس 2009 02:31
محمد نسيم السرغيني كما كان يوقع اسمه في مطلع حياته الأدبية، المنحدر من فاس وجامعة القرويين والإرث الروحي العائلي وحلقاته وزواياه؛ يتبدى من خلال سيرة حياته بأنه سليل مرجعيات وجغرافيات روحية ومكانية مختلفة؛ وكأنما الذات المنحدرة من ذلك الإرث الضارب في الزمن ترفض الانطواء تحت سياجات مرجع بعينه، فتنطلق في الفضاءات الرحبة باحثة عن روح المعنى والشعر والاختلاف. رحلة السرغيني من مكانه الولادي نحو باريس والعراق وغيرهما تكتنز بالدلالات والمحن والإشارات.. كان السياق التاريخي والفكري سياقاً استثنائياً؛ فقد كان الحدث الكوني الدامي قد أرخى أوزاره قبل قليل. وكانت ساحة الثقافة العالمية تعج بالتيارات الفكرية والأدبية. كان هدير الأفكار على أشده. وعلى الصعيد العربي المتخم بالتخلف والانحطاط في مستوياته المختلفة، كان البحث المضني للانتلجنسيا العربية في طرح مسائل التحديث والتجديد في البنيات المختلفة لا سيما البنية الأدبية والشعرية التي كان السرغيني من خلال إقامته في بغداد شاهدها الحقيقي. نشأ السرغيني في تلك البيئة الثقافية والمعرفية المتلبسة، الباحثة عن موطئ قدم لها في جلبة العالم. يتبدى السرغيني في نصوصه التي كتبها في البدايات، وهي نصوص تأملية، أنها تنشد المعنى وتجليه من غير أن تقع في شعارية فجة، لا يلبث سياق التجربة لاحقاً أن يطوح بها إلى آفاق يختبر فيها المعنى نفسه ومحنته الأبدية. لم يرتهن نص السرغيني لمرجع بعينه، ظل مرآة ذاته بقدر ما هو شريد مرجعيات مختلفة مهضومة في سياقه الخاص. لقد كسر مبكراً ذلك النموذج الريادي المكتوب في ديار المشرق والذي مارس سحره على عدد من الشعراء المغاربة لأسباب مختلفة، ليس أقلها النزعة المضادة للفرانكوفية وحماسها الوطني. لم يقع السرغيني في استيهامات ذلك النص لأصالته الإبداعية ولقربه من منابع المتون الغربية بلغاتها الأصلية. نص السرغيني الأقرب إلى المناخات الباطنية والجوانية في التراثات النثرية والشعرية، كان نصاً صدامياً، بشكل مبكر، للسائد والمتداول في الشعرية العربية ليس في جانبها التقليدي وإنما مع متداول الحداثة الشعرية العربية. كان السرغيني خارج هذا المناخ الذي كان يعيش في إطاره. كان مختلفاً على صعيد الرؤية والكتابة، فقد أدرك ضعف ذلك الوضع وتهافته وما سيؤول إليه من كارثية وانحدار. فلم تغره جماهيريته ولا إعلاميته. كان السرغيني يصغي إلى نبض الذات والشعر ومن خلالهما يستدرج الخارج إلى فخاخه اللغوية بمبانيه الشذرية الخاطفة. كانت أصداء كثيرة تتماوج في نصه ليس من أقلها المفارقة وسَرْيَلة الصورة ونوع من صرامة هندسية في بناء الشذرات.. نص مفارق ومتناقض. لم يستدرج السجال العربي في جانب كبير من نصه المشرقي الصاخب والبراني، لم يستدرج السرغيني إلى حبائله. السرغيني من ذلك الجيل التأسيسي ليس أقل أقرانه إبداعاً ولكن أقلهم صخباً وتقديماً شعارياً راقصاً لنفسه. تحية للدكتور السرغيني شاعراً وناقداً وأكاديمياً وكأنما الذات الممزقة ترفض التصنيف والموضعة في شكل بعينه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©