السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عائلة "ستيتكيفيتش".. عروبة الاستشراق

عائلة "ستيتكيفيتش".. عروبة الاستشراق
24 ابريل 2019 00:20

جاء اختيار جائزة الشيخ زايد للكتاب «عائلة ستيتكيفيتش» لتكون شخصية العام الثقافية، في دورتها الثالثة عشرة، بمثابة تأكيد الاعتبار للدراسات والدارسين الغربيين الذين تناولوا الثقافة العربية، بمختلف تجلياتها الأدبية والحضارية. فقد استطاعت «عائلة ستيتكيفيتش» حسب بيان الجائزة: «خلق حالة إيجابية فاعلة على المستوى العالمي، بخصوص قراءة الأدب العربي بين الباحثين في الغرب، وإعادة النظر في طرائق قراءة الاستشراق للشعر العربي على نحو يتعامل مع الثقافة العربية، بعيداً عن أي مركزية، وبروح بحثية تتحلى بالتسامح، والبعد عن أي لون من ألوان التعصب والمواقف المسبقة. وقد أحدثت أعمالهما التي ترجمت إلى اللغة العربية تأثيراً إيجابياً واسعاً، وكان لحضورهما الفعال في المؤتمرات الثقافية في العالم العربي، دور مهم في إحداث تفاعل ثقافي خلاّق».
وقال معالي محمد خليفة المبارك، رئيس دائرة الثقافة والسياحة– أبوظبي، والعضو المنتدب لرئيس مجلس أمناء جائزة الشيخ زايد للكتاب: «إن اختيار عائلة ستيتكيفيتش للفوز بهذه الجائزة المرموقة يأتي انسجاماً مع أهداف الجائزة، ورسالتها في أن تكون الثقافة، جسراً للتواصل والحوار، وفهم الذات والآخر، بما يعلي من قيم التسامح».

«فتنته جمالية «لامية العرب» وشخصية الشَّنفرى، بشكل فطري، وهو طفل صغير، فقرر الإبحار في بحور اللغة العربية، والتخصص في آدابها».
ولد البروفيسور ياروسلاف ستيتكيفيتش عام 1929 في أوكرانيا، وتلقى تعليمه الثانوي في ألمانيا، ودرس في القاهرة في أواخر الخمسينيات، قبل رحيله إلى إسبانيا حيث حصل على إجازة جامعية في الأدب العربي، ومن ثم التحق بجامعة هارفرد الأميركية (1959 ـ 1962).
عمل في جامعة شيكاغو، لمدة أربع وثلاثين سنة (1962 ـ 1996) مدرساً للأدب العربي الحديث، فمساعداً، فأستاذاً للأدب العربي حتى التقاعد باسم الجامعة نفسها.

ياروسلاف ستيتكيفيتش: رفيقي الشنفرى
يعتبر «ياروسلاف» اليوم الأب الروحي، وعميد ما يسمى «بمدرسة شيكاغو» لدراسة الأدب العربي والفارسي، وتضم العديد من تلامذته، والباحثين العرب، والأجانب والآسيويين، ولها اليوم تأثير كبير في البيئة العلمية الاستشراقية في أوروبا، والولايات المتحدة، وقد لعبت دوراً كبيراً في تقديم الصورة الحضارية للثقافة العربية، وتراثها الإنساني العميق.
عن رحلته مع العربية، ومحطات تجاربه في البحث والتأليف والترجمة، كان لـ«الاتحاد الثقافي» هذا الحوار «مع شخصية العام الثقافية»، لجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الـ13.

بدايات
* ما الذي فتنك بالشَّنفرى مبكراً؟ والذي ولّد في روحك شغف تحمل مشَاق تعلّم اللغة العربية، من بوابة شعرها القديم، وتولي مسؤولية ترجمته، وتقديمه للآخر في الطرف الآخر من الكرة الأرضية؟
** في مناخ أسرتي الثقافي، قضيت طفولتي مع الكتب بلغات مختلفة، والكثير منها مترجمة للغة الأوكرانية. ابتدأتُ القراءة مبكّراً جدّاً. ومن تلك المترجمات ـ دون أن أعرف صاحبها ـ «كتيّب» أعجبني بطريقة خاصّة، هو قصة «أبي الحسن الطنبوري». الاسم العربي هذا تعرّفت عليه بعد سنين، كما لو كان هو صاحب الكتيّب المنظوم شعراً هذا. المهمّ أنّني حفظت القصّة المنظومة هذه، وبفضل ظرافتها وجمال ترجمتها، استقرّت تقريباً بكاملها في ذاكرتي الطفولية، كما أنني حتى الآن من حين إلى الحين أتلذّذ بإنشاد بعض أبيات منها.
وكان لي ثمة تلاقٍ مبكّر آخر مع الأدب العربي، وكان ذلك بعد ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات. فبعد سنة من اندلاع الحرب العالمية الثانية، كنت قد وجدت نفسي لاجئاً في مدينة Göttingen غوتينغن الألمانية. وفي يوم من الأيّام، دخلت مكتبة عمومية صغيرة في شارع هامشي تماماً، فلفت نظري هناك كتاب مترجم عن اللغة العربية. فمن دون أن أعرف شيئاً آخر عن الكتاب، بدأت أتصفّحه. كان غريباً مليئاً بالأشعار. فقررتُ أنْ أستعيره من المكتبة للاطّلاع على كل هذه الأشعار الغريبة. فكان الكتاب «كتاب الحماسة لأبي تمام». فبدأت بقراءته، وقضيت أيّاماً وأيّاماً، حتى عثرت في النهاية على قصيدة طويلة ملحقة للمتن. فكانت هي «لامية العرب» للشنفرى. لقد قيّدت هذه القصيدة اهتمامي لأسباب عدة: أوّلاً لأنّني وجدتها مؤثّرة بجمالها. كان ذلك دائماً من بداية وعيي الطفولي المبكر «الساذج»، لكنه المقياس الأساسي الأوّل للذائقة بكل فطريتها. بعد ذلك الانجذاب، بدأ لدي صحو الوعي، بأهمّية ما كنت أقرأه من حيث البيئة الغريبة الجمال، ومن حيث أوضاع، ومواقف الشاعر الغريب بعينه. فوجدته قريباً منّي جدّاً. كان هو يترك قومه وأهله، وأنا أيضاً هجرت وتركت الكثير ممّا كنت أحبّه. فأصبح الشنفرى، لديّ شاعراً بعيداً من حيث غرابة قدمه، ومسافة ابتعاده. إلا أنّه أصبح إنساناً يتمشّى بجانبي أينما ذهبت. أمّا قصيدته العجيبة هذه فقد ترسّخت في لبّي بعض أبياتها بطريقة نادرة، فركّزتُ على بيت تقريباً في وسط القصيدة، فاستقرّ هذا البيت في ذاكرتي ولا يزال. وهو:
فعَبَّتْ غِشاشاً ثُمّ مرّتْ كأنّها/‏‏
مع الصُّبْحِ رَكْبٌ مِنْ أُحاظةَ مُجْفِلُ
وهو عن القطا الكدر الهاربة اللَهْثى مثلما كنتُ أنا هارباً لاهثاً.
وعند ذاك رجعتُ إلى بيت القصيدة الأوّل: «أقيموا بني أمّي..» ففهمتُ فهماً أكثر مباشرة. فهذه هي تجربتي المحورية. وبعد خمس سنوات، وكانت الحرب قد انتهت، وجدتُ نفسي في Munich (ميونخ) ففي مكتبة أخرى بين أنقاض تلك المدينة، وجدتُ كتيّبا لتعلّم اللغة العربية. فكانت تلك هي البداية العملية الحقيقية للبحث عن «فعَبّت غِشاشا ثمّ مرّت..».

ذاكرة
* لأكثر من ثلاثين عاماً، وأنت تُكرس جهودك لدراسة الشعر العربي، بحثاً، وتأليفاً، وتدريساً، وترجمةً، مستخدماً مناهج تحليلية معاصرة، مختلفة عن بقية المناهج الاستشراقية التقليدية السائدة في عصرك، في قراءة الأدب العربي.. ما هي الجماليات التي اكتشفتها من هذا الماضي التليد بعد تطبيق المناهج النقدية المعاصرة؟
** كنت فعلاً في تعاملي مع الشعر العربي، وخاصة القديم «التليد» منه دائماً على وعي للمناهج التحليلية المعاصرة، وفعلاً إنني استفدت كثيراً من ذلك الوعي، ولكنّ المنهج الأساسي لديّ كان، وأقول ذلك بكلّ قسوة، تركيزي على النص الشعري خالصاً وصافياً، ليس فقط كخطوة أولى، بل كخطوة أخيرة أيضاً. معرفتي للمناهج كانت بالنسبة لي أصلاً وأخيراً ثقافتي العامّة. فكنت مرتاحاً بها دائماً ارتياحاً تامّاً، مثلما كنت أجتهد في سبيل حصول على مثل ذلك الارتياح في التعامل مع الشعر العربي «التليد» في ثقافة عامة أوسع.

ياروسلاف ستيتكيفيتش

* ذاكرتك حافلة بتجارب قضيت معظمها في مدن عربية عدة، خاصة مصر، تعرفتَ خلالها على الكثير من شعرائها، ومثقفيها، وفنانيها المعاصرين. من يعجبك اليوم من هؤلاء الشعراء دون سواهم؟ ولماذا؟
** حقيقةً، وأنا فخور بذلك، وسعيد به، أنّ تعرُّفي على الشعراء والنقّاد والروائيين العرب من جيلي كان كثيراً، وشكل حالة من صداقة وتعايش مستديم. وعدد هؤلاء الأصدقاء في الشعر والأدب كثير جداً، ومن الصعب أنْ أحصيهم، مخافة أن أنسى أحداً.

تحدي
* في محاضرة لكم في فبراير عام 1967 بكلية سان أنطوني، أكسفورد، تحت عنوان «الاستعراب والأدب العربي/‏‏ نظرة ذاتية لمهنة» انتقدت فيها طرائق تدريس الأدب العربي في الأوساط الاستشراقية التقليدية؟ ماهو عتبك على هذه الطرائق؟ وكيف يجب أن تكون؟
** محاضرة عام 1967 بأكسفورد، كان لها فعلاً صدى كبير. ألقيتها تحدّياً للاستشراق المجمّد، وفي تلك الفترة ـ أو المرحلة ـ كان لا مفرّ من اتّخاذ الموقف هذا، لأنها كانت فترة المعارك الثقافية والمنهجية.
* يقال إن لك تأثيراً بالغاً في البيئة العلمية الاستشرافية في أوروبا، والولايات المتحدة، امتد إلى الباحثين العرب، مشكلين ما يُسمى اليوم «بمدرسة شيكاغو» في دراسة الأدب العربي.. بماذا تختلف هذه المدرسة عن سواها الفرنسية والألمانية؟ وهل نستطيع أن نقول إن لها سمات، وقواعد ناظمة لها؟
** فعلاً، بعد مرحلة المعارك حول الاستشراق، وهي معارك ثقافية اجتماعية أكثر منها أدبية، ابتدأت تظهر صعوبات في النقد الأدبي الصرف. فكان عليّ، أنا وعلى بعض تلاميذي ـ ومنهم سوزان ستيتكيفيتش ـ أنْ نقنع الباحثين، والنقّاد في الأدب العربي، أنّ النقد الأدبي ليس كلّه وصفاً ونقل معارف تبدو موضوعية، وأنّ التعامل مع الأدب العربي لا يتمّ في متحف أو معمل، وأنّ آخر كلمة ليست من ورائنا، وإنّما هي من أمامنا: أشياء بسيطة، ولكنها صعبة الفهم. فكان هذا سبيلنا إلى مدرسة «شيكاغو».

ميثولوجيا
* في مقدمة كتابك «العرب والغصن الذهبي» دافعت فيه بالبحث، والمنهج المقارن، عن وجود «ميثولوجيا عربية»، وتابعت في الجزء الأكبر منه، وصل ما انقطع من الآثار المبعثرة الأوصال، للأسطورة في الثقافة العربية؟ لماذا الأسطورة العربية؟
** لماذا الأسطورة، أيْ الميثولوجيا، هذا هو سؤال الناقد الكندي Northrop Frye وتساؤله. فقد سعيت إلى أنْ أُثير هذه القضية، وأنْ أتساءل هذا السؤال في إطار الوعي التاريخي العربي. المؤرخ والمفكر جواد علي، وهو علّامة حقيقي في قضايا تراثية عربية، وكثيراً ما أقرأ في أعماله، فكان لا مفرّ من أنْ أتساءل: هذا الرجل يعرف كلّ شيء، فلماذا لا يقوله؟ إنّه يجزّئ ويجزّئ أكثر. أمّا الأسطورة الميثولوجيا العربية، فأين هي؟

* ما هي أهمية تصحيح الفكرة الاستشراقية التقليدية والخاطئة والتي تقول «إن العرب لا يملكون تراثاً سردياً» وماهو دور العرب في تصحيح هكذا نظرة؟ وقد ساهمت أنت بذلك؟
** التراث السردي العربي موجود قديماً وحديثاً، من «الزير سالم» إلى «حيّ بن يقظان». وازدهار السرد العربي الحديث، إشارة إلى مستقبل صحوة أكثر طاقة. واللغة العربية، خاصّة النثرية اليوم، ازدادت قوة، وأصبحت جاهزة مستعدّة.

* ماذا تقول عن الرابط بين «غصن من ذهب» في يد أبي غال، والغصن الذهني لدى كل من أوديسيوس اليوناني، وإيناس أو آينياس الروماني، وعشبة الخلود عند جلجامش؟
** أظنّ أنّ ما قلناه عن «غصن من ذهب» لا يزال قائماً مثلما هو.

* بعد قراءتك، وتحليلك التراث العربي، قراءة علمية ومنهجية مقارنة دقيقة، ماذا تقول عن مصطلح «الجاهلية» وقد أثريته بأبعاد دلالية وفكرية عميقة؟
** في مقدمّة لـ«غصن من ذهب» تناولتُ موضوع الجهل، والجاهلية بطريقة «تقدّمية» فهو ليس موضوعاً فقط، بل هو بحر وبل محيط.

* في بحوثك النقدية حول الشعر العربي القديم، ركزت شكلاً وموضوعاً على «الأبعاد الغنائية في الشعر العربي القديم»، ودافعت عن هذه الغنائية ضد «نعت» السلبية التي تراها أغلب الدراسات الغربية وحتى العربية.. أي جمالية من وجهة نظرك، تكشفها هذه الغنائية؟
** نعت «السلبية» فعلاً.

نجد
* ماذا يحدث عندما تصبح الطوبونيما (toponyma) (دراسة أسماء المواقع الجغرافية وأصلها) شعراً؟ وقد حاولت ذلك في كتابكم «صبا نجد: شعرية الحنين في النسيب العربي الكلاسيكي»، بعد فهم القصيدة العربية وبيئتها؟
* إنّ الشعر العربي مليء بأسماء أمكنة سحرية الطاقة. وهي قد تكون صغيرة، أو متوسطة أو كبيرة. فكلها في منتهى الأهمّية الغنائية. وطبعاً الاسم للمكان الأكبر قدماً وطاقة غنائية في الشعر العربي هو «النجد». فليُذكر هنا كتابي المترجم بعنوان: «صبا نجد».

* من تجربتك الأكاديمية.. هل هناك إقبال في واشنطن أو الغرب بشكل عام على دراسة «الآداب العربية»؟
** لا شكّ في أنّ الإقبال في الغرب على دراسة الآداب العربية قد يبدو لنا محدوداً من حيث نطاقه المجتمعي، إلا أنه بالمقارنة مع ما كانت عليه أوضاع ذلك الإقبال، قبل تقريباً ستّين سنة، فعلينا أنْ نراه جدّ مختلف عن ما تقدّمه. وهذا، مثلاً، إن قارنّا الإقبال هذا في أوروبا الغربية، وأميركا الشمالية بما نراه راهناً. فالإقبال على الأدب العربي، نجده ليس فقط موسعاً بل معمقاً. أما الذي نحن في صدده الآن، فهو نوع من اختراق المواهب والإبداع في معظم مجالات الثقافة العربية.

تصحيح
قدّم «ياروسلاف» العديد من المؤلفات، والدراسات البحثية الهامة في الأدب العربي، لعبت دوراً كبيراً في الكشف عن المخزون الثقافي العربي القديم، وعن مكانته الحقيقية في الحضارة الإنسانية، مصححاً بذلك ما جاء سابقاً من قراءات لمدارس استشراقية قديمة، عرفت بتحيّزها، وتعصبها الفكري والمنهجي بحق حضارة العرب. من مؤلفاته: «اللغة العربية الحديثة» (1970)»، «صبا نجد: شعرية الحنين في النسيب العربي الكلاسيكي» (1993)، وكتاب «العرب والغصن الذهبي ـ إعادة بناء الأسطورة العربية» (1996).

سوزان ستيتكيفيتش: العربية تشعرني بنقصان
تعرف الأوساط المهتمة بالدراسات العربية، اسم البروفيسورة سوزان بينكني ستيتكيفيتش جيداً أكثر مما يعرفها القارئ العادي، وذلك من خلال طبيعة ما تكتب، وتؤلف، وتترجم. وقد عرفت باختلافها عن الكثير من الدارسين والمستشرقين، الذين اهتموا بالثقافة العربية والشرقية، سواء من ناحية غلبة توجهاتها العلمية الأكاديمية المنصفة للأدب والثقافة العربية، أو من ناحية تجنبها الوقوع في فخ النظرة النمطية، التي يتصف بها الاستشراق التقليدي.
ارتبطت حياة البروفيسورة سوزان الأكاديمية والعملية، ارتباطاً وثيقاً بالثقافة العربية الإسلامية، وقد حصلت على الدكتوراه في الأدب العربي، من جامعة «شيكاغو» سنة 1981، وألّفت عدة كتب يدور معظمها حول الشعر العربي القديم، من الجاهلي إلى الأندلسي، وترجمت نصوصاً عربية، بروح قريبة من روح الأصل، إضافة إلى مشاركاتها الدائمة في المؤتمرات، والمناسبات العلمية في مصر، والأردن، وسورية.في الحوار التالي من واشنطن يتوقف «الاتحاد الثقافي» مع البروفيسورة سوزان ستيتكيفيتش للحديث أكثر عن شغفها باللغة العربية، وطبيعة مؤلفاتها البحثية والعلمية.

* لفت نظري في حديثي بالعربية معك، إتقانك للغة العربية السليمة كتابةً، وقراءة، ولا شك أن القارئ، سيشغله فضول معرفة أهم هذه المحطات في طريق إتقانها؟
* قال أستاذي الأول للغة العربية: إنّ تعلّم اللغة العربية مشروع يقضي الحياة كلها، وله الحقّ. وأظنّ أنّ هذه الصعوبة ترجع إلى أنّ اللغة العربية ليست لغة شعب بعينه وإن كانت لغة العرب، طبعاً، بل هي لغة تراث عتيق وواسع النطاق الزمني والجغرافي. فمن أراد إتقان اللغة الفصحى المعاصرة، فهذا ليس مستحيلاً، إلا أنه مع ذلك لا يعرف اللغة الدارجة المحكية في أي بلد من البلدان العربية، ومدخله إلى النصوص القديمة ضيّق. ومن ركّز اهتمامه على اللغة القديمة، فكثيراً ما يجد نفسه منقطعاً عن الدنيا المعاصرة، واللغة الحيّة. أمّا أنا فكنت أهتمّ أوّل الأمر بالدراسات الكلاسيكية من القرآن، والتاريخ، والشعر، والأدب. فاقتصرت دراستي على النحو الصرف، والترجمة إلى اللغة الإنجليزية، دون الكلام أو الكتابة. ولكن سرعان ما شعرت بنقصان، وكأنني أدرس اللغة عن بعد. فعشتُ فترة في مصر، حتى أتعلم اللغة الحية، وأقصد بذلك الشعب المصري. فانتقلت بعد ذلك إلى اللغة الفصحى المعاصرة كلاماً وكتابة. إلا أنني لا أزال أشعر بنقصان، وبأنّ اللغة العربية أكبر منّي، أو كما يقال: اللغة العربية بحر عميق وأنا غرقى فيه.

تتبع
* أنتِ رئيسة قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة جورجتاون ـ واشنطن، والمحرر التنفيذي لدراسات الأدب العربي، ودراسات بريل في سلسلة دراسات الآداب في الشرق الأوسط، وعضو في هيئة تحرير مجلة الأدب العربي؟ كيف نقيّم حجم الإقبال على مثل هكذا نوع من الدراسة في الغرب، عرباً وأجانب؟ وما هو دور هذا القسم؟ هل هو أكاديمي بحت أم يضطلع بأهمية نشر المعرفة عن الثقافة العربية؟
* لنشر المعرفة والثقافة طرق مختلفة، والمنشورات العلمية والنقدية ليست إلّا طريقة من هذه الطرق. وإن كان الإقبال محدوداً إلى حدّ كبير بالنسبة إلى وسائل الإعلام أو الموسيقا أو الأفلام أو الفنون الجميلة، إلا أنّ الدراسات العلمية تقدّم ـ أو يجب أنْ تقدّم في أحسن الأحوال ـ معلومات وتحليلات جديدة، ومبنيّة على بحث عميق وسليم من منظور موضوعي، وغير خاضع للأساليب أو السياسات الراهنة. فعلى المحرّر، أو لجنة التحرير، أنْ تميّز في اختيارها للنشر بين العلم المبدع حقّاً من جهة، وبين تتبع آخر موضة نقدية أو خدمة أهداف، وقوى سياسية من جهة أخرى. فتستهدف هذه المنشورات العلمية إلى تقديم معرفة جديدة من منظور هو معاً عميق وموضوعي في الوقت نفسه، حتى تكوّن خلفية غنية لفهم وتحليل الثقافة والمجتمع في يومنا هذا.

شكل
* وصُفت الدراسات المتضمنة في مؤلفك «طقوس العبور في العصر الجاهلي» بالدراسات المهمة في مجالات الشعرية العربية، خاصة أنك قرأت القصيدة العربية من منطلق أسطوري/ أنثروبولوجي؟ كيف نفهم من وجهة نظرك هذه الطقوس، وأهميتها في امتلاك مفاتيح فهم التقليد «الشعري الكلاسيكي»؟
** اخترت الشكل الطقوسي مدخلاً أو منطلقاً لتحليل القصيدة التقليدية، ابتداء بالشعر الجاهلي، لأنني كنت أبحث عن معنى ما وراء شكل القصيدة. ومع أنّ النقد البنيوي قد استخرج من القصيدة، الشعور بالتضادّ بين المعاني أو المواضيع، فإنه لم يدرك عملية الانتقال ـ نفسياً كان أم اجتماعياً ـ في شخصية «الشاعر» من خلال القصيدة. فبدا لي أنّ الطقوس والمراسيم، مثلها مثل القصيدة من حيث التعبير عن المعنى من خلال سلسلة مرتّبة من الرموز، وليس من خلال القصة السردية. فكما تعبّر الخطوات الثلاث من طقوس العبور (الانقطاع عن المجتمع، الفترة الهامشية خارج المجتمع، إعادة دخول المجتمع مع الارتقاء إلى مكانة اجتماعية جديدة) عن الانتقال من الطفولة إلى الرجولة أو كذا نوع من الانتقالات الاجتماعية والدينية أو السياسية، قد تعبّر القصيدة أيضاً من خلال النسيب فالرحيل فالفخر أو المديح، إلخ.. إلى التجارب الانتقالية للشاعر والمجتمع الذي عاش فيه.
أمّا المنهج الأنثروبولوجي فميزته أنّه يقترب من القصيدة بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من نسيج الحياة البشرية، مما يؤدي إلى نظرية الأداء (Performative Theory) ونظرية القول/ الفعل (Speech Act Theory). ومعنى ذلك أنّنا نقرأ القصيدة وهي تؤدّي دوراً فعّالاً في مفاوضات أو تبادلات اجتماعية أو سياسية أو دينية. (خذ، على سبيل المثال، قصيدة «بانت سعاد» التي أنشدها كعب بن زهير بين يدي الرسول وهي عبارة عن اعتذاره واستسلامه وإسلامه). وقد طوّرْتُ الأبعاد الشعرية والشكلية لتطبيق نظرية طقوس العبور على القصيدة الجاهلية في كتابي The Mute Immortals Speak «الصمّ الخوالد تتكلم» الذي صدر سنة 1993 بالإنجليزية وبالترجمة السويدية سنة 2017 (والذي لم يترجم بعد إلى اللغة العربية).

سوزان ستيتكيفيتش

* كتاب «الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ» وهو أطروحتك للدكتوراه من قسم لغات الشرق الأدنى، وحضارته في جامعة شيكاغو، (مارس، 1981) اخترتِ شعر أبي تمام، منطلقاً لدراسة الشعرية في العصر العباسي.. لماذا شعر أبي تمام دون سواه من بقية الشعراء كالبحتري، والمتنبّي مثلاً؟
** الحقّ يقال لمّا اخترت «أبا تمام» موضوعاً للأطروحة، لم أكن أعرف الكثير عن الشعر العربي، إلا أنني اخترته، لأنّه خطر ببالي أنْ أدرسَ شاعراً هو ليس فقط صاحب ديوان شعري، بل أضاف إلى ذلك ديوان الحماسة، مختاراته من الشعر القديم. فاهتممت أصلاً بالمقارنة بين جماليات إنتاجه لشعره هو، واختياره لشعر السابقين. واكتشفت من خلال بحوثي وقراءاتي للأطروحة، ولا أزال أكتشف أكثر وأكثر مع قراءاتي الأوسع في الشعر العربي، أنّ «أبا تمام» كان الشاعر المحور في الشعر العربي من عصره هو حتى الآن. فركّز، وعلى أسلوبه البديع، جيل بعد جيل من النقّاد، كما اقتدى قدوه الشعري إلى حدّ أكبر أو أصغر جيل بعد جيل من الشعراء، من البحتري والمتنبي إلى صفي الدين الحلي إلى أدونيس. لقد اخترع أبو تمّام كلاً من لغة القوة، وقوة اللغة.

سياسة
* كيف نفهم العلاقة بين أدب السياسة، وسياسة الأدب وهو عنوان مؤلف بحثي لك؟
* ينبغي أن نضيف إلى عنوان «أدب السياسة وسياسة الأدب» عنوان كتابي اللاحق وهو عبارة عن تطوّر الكتاب الأول، أيْ «القصيدة والسلطة» الذي صدر سنة 2002 تحت عنوان The Poetics of Islamic Legitimacy، فسنة 2010 بترجمة حسن البنا عز الدين. ففي كلا الكتابين، أدرس قصيدة المدح الكلاسيكي من العصر الجاهلي حتى العصر الأندلسي، من خلال نصوص قصائد بعينها والأخبار عن ظروف إنشادها التي ترافقها في كتب الأدب والتاريخ. ولم أتّخذ هذه الأخبار بوصفها معلومات تاريخية ـ فإنها على العموم مشكوك فيها أو على الأقلّ غير قابلة للإثبات ـ وإنّما اتّخذتها عبارة عن تقديرات أو تقييمات نقدية عن نجاح القصيدة في تأدية دورها في تثبيت أوإثبات شرعية الحاكم، خليفة كان مثل عبد الملك بن مروان، أم أميراً مثل سيف الدولة. فخذ، على سبيل المثال، الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني في داليته الاعتذارية «يا دارَ ميّةَ». فيثْبت الشاعر شرعية الملك النعمان بن منذر من خلال تشبيهه بسليمان، أو بالأحرى بتحدّيه بأنْ يقلّد القدوة السليمانية في ملكه، ومن خلال تشبيه قوة الملك وجُوده بنهر الفرات في موسم الفيضان. فيسجّل لنا التراث النقدي تقييمه لهذه القصيدة بزعمه أنّ الملك بعد إنشاد هذه الدالية بين يديه اعتذر الشاعر لعلاقته بزوجة الملك، المتجرّدة، حتى عاد النابغة نديماً من ندماء الملك ومقرّباً من مقرّبيه. فثمة تبادل طقوسي بين القصيدة الاعتذارية من جهة، ومعذرة الحاكم والتقريب منه من جهة أخرى. فهذا ما نجده في نطاق أوسع في التبادل بين قصيدة المدح والجائزة. ولكن المهم هو أنّ القصيدة تثْبت الحاكم في أوصاف الحكم الشرعي، وأنّ الجائزة عبارة عن الاعتراف بإبداع الشاعر في إثبات هذه الشرعية.
ففي كتابي The Mantle Odes «قصائد البردة» الذي صدر سنة 2010 (ولم يترجم بعد إلى اللغة العربية) سعيت إلى تطبيق المنهج النقدي الذي قد طوّرْتُه لتحليل قصيدة المدح في بلاط الحكّام لكي أفسّر كلاً من الشكل والأغراض الأدائية، التي كثيراً ما أصبحت موجّهة إلى الآخرة بدلاً من الدنيا، في المدائح النبوية المعروفة، والمحبوبة لكعب بن زهير والبوصيري وأحمد شوقي.

استقصاء
* مالذي لفت نظرك في شعرية أبي العلاء المعري؟ حتى شكل مبرراً لدراسة خاصة بشعريته وتبدّلها؟
** طبعاً في التراث الشعري العربي، لعبت شخصية أبي العلاء، دوراً درامياً ونقدياً كبيراً كما نرى في أعمال كلّ من طه حسين وبنت الشاطئ. إلا أنني أهتمّ بشعره وليس بشخصيته، التي أصبحت ظاهرة رومانسية أكثر منها نقدية أو أدبية. فمن حيث مسير عملي عن القصيدة الكلاسيكية، وبصفة خاصة قصيدة المدح، وجدت في التغيير المباغت من ديوان أبي العلاء الأول «سقط الزند»، إلى الثاني «اللزوميات»، الانتقال من العصر الكلاسيكي إلى عصر ما بعد الكلاسيكية. فإن كانت القصيدة تجسّد تجسيداً لفظياً ـ إنْ صحّ التعبير ـ للعلاقات والمفاوضات الاجتماعية والسياسية، فرفد القصيدة ادّعاءً أنها ليست إلا «المين»، أيْ الكذب، يعني، لا محالة، رفد شكل القصيدة، وإلى حدّ بعيد معانيها بصفة خاصّة، والشعريات الأدائية التي تثبت شرعية السلطة أو مكانة اجتماعية أو سياسية أخرى بصفة عامة. أو بعبارة أخرى إنّ الانعزال عن العالم الاجتماعي، يساوي رفد القصيدة. أما أنا فابتدأت بالقصائد الناضجة الماهرة والمبدعة ـ أي روائع سقط الزند ـ التي أعتبرها عبارة عن قمّة التراث الشعري الكلاسيكي، ومن المثل العليا لفنّ القصيدة. إلا أنّني أظنّ أيضاً أنّ «أبا العلاء» قد وصل في «سقط الزند» إلى نهاية المطاف الشعري للقصيدة الكلاسيكية. فإفلاسه في زيارته لبغداد لم يكن مالياً فحسب، بل شعرياً. ففي عزلته في معرّة النعمان بنى أبو العلاء هيكلاً شعرياً بديلاً للقصيدة ولعالمها وشعريتها: أي اللزوميات. فأصبح هدف الشعر، الاستقصاء في اللغة والكلمة والقافية دون أغراض القصيدة المعروفة من المدح والفخر والرثاء والتي توجد في سقط الزند. وأقام أبو العلاء مقام العالم الاجتماعي السياسي، هيكل القافية المزدوجة في الترتيب الأبجدي ليكون ميدان المبارزات الشعرية بينه وبين كل الشعراء الآخرين، سابقين كانوا أم لاحقين.

أسماء
عن من يعجبها من الشعراء والروائيين العرب، تقول البروفيسورة سوزان:
طوال السنين قرأت الكثير من الشعر العربي الحديث والرواية العربية. وممّا يجذب اهتمامي في هذه اللحظة بالذات، شاعران من طرفي العالم العربي، هما الشاعر البحريني قاسم حداد، وبصفة خاصّة كتابه عن طفولته: «ورشة الأمل»، وروحه الرائدة في الشكل الشعري وما بعد الشعر، إن صحّ التعبير. أمّا الثاني فهو الشاعر المغربي محمد بنيس الذي أضاف «الأزرق الفضّي» إلى استعارة أبي العلاء المعري، للحظة الإبداع الشعري «سقط الزند».
وبصدد الرواية، أعجبتني مؤخرا رواية «عطارد» للكاتب المصري محمد ربيع. فمهما كانت بعض المواضيع في هذه الرواية شنيعة (على الأقلّ بالنسبة لي أنا!) إلا أنّ موهبة محمد ربيع النادرة، بل المدهشة في الوصف قد أحيت أملي في اللغة العربية الفصحى ومستقبلها. (والحقّ يقال إنّ سيطرته على فن الوصف أحسن من سيطرته على نوع الرواية). فمن جهة تذكّرنا القوة الوصفية عند محمد ربيع ببعض فقرات وصفية في بخلاء الجاحظ، ومن جهة أخرى تدلّ مهارته الوصفية على قدرة اللغة العربية للتغلّب على تحدّيات المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©