الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جسور الفلاسفة

جسور الفلاسفة
24 ابريل 2019 00:20

في سنة 2006 نشر الفيلسوف الفرنسي ميشال سار كتابا عنوانه «فنّ الجسور. الإنسان الجسري»، مصرّحا فيه على نحو مثير: «أنا لم أحلم أبدا إلاّ بالجسور، ولم أكتب أبدا إلا عنها، ولم أفكّر أبدا إلا فيها، وأنا لم أحبّ إلاها. هذا الكتاب حول الجسور ينتهي كأنّه كتاب كلّ الكتب التي كتبتها». ما الذي حدا بفيلسوف مرموق في أوج نضجه النظري وشهرته العالمية أستاذ في جامعة ستانفورد وعضو في الأكاديمية الفرنسية أن يقدم على تكريم الجسور المادّي منها وغير المادّي؟ فقد وُصف الكتاب بأنّه بمثابة بوح بالحبّ تجاه الجسور لم يسبق له مثيل. نحن مدعوّون بذلك إلى إلقاء نظرة سريعة على تاريخ علاقة الفلاسفة بالجسور أو كتابة تاريخ مفهوم الجسر في الفلسفة، كيف دخل إلى معجمها وما هي الأدوار التي أدّاها داخل ورشاتها.

قبل ذلك علينا أن نتعرّف على حجّة ميشال سار حول حبّه للجسور وخاصة حول العنوان الصغير الذي ضمّنه عنوان كتابه، نعني عبارة Homo pontifex «الإنسان الجسري» أو «الإنسان الجاسر». إنّ عبارة «pontifex» نفسها جديرة بالمساءلة: فهي مكوّنة من «pons» أي «جسر» أو «طريق»، ومن «facio»، أي «يصنع» أو «يعمل». ومن ثمّ هي تعني «صانع الجسور». لكنّ ميشال سار يشير إلى معنى أكثر جلالة هنا: إنّ «pontifex» أو «صانع الجسور» هو اسم «الحبر الأعظم» (pontifex maximus) في روما القديمة الذي يقود هيئة الأحبار. ولو أخذنا معنى «حبر» في العربية أيّ زيّن الخطّ أو بيّنه بالحِبر ومن ثمّ كتب أو كان «حبرا» أي عالماً بالكتاب، فإنّ إشارة ميشار سار سوف تقودنا إلى أنّ «باني الجسر» هو «القائد الروحي» بواسطة «الحبر»، أي ما نسمّيه «الكاتب» بعامة.
بهذا المعنى علينا أن نقرأ كتاب سار «فن الجسور»: إنّه حبّ لاستعارة الجسر لأنّها لا تعدو أن تكون استعارة الكتابة بإطلاق، تلك التي تصف الرغبة في التقريب والربط والتوحيد بين أجزاء الإنسان واختلافاته ونزاعاته مع نفسه. ولأنّ الحب يحتاج دوما إلى مفارقة فنحن نحب الجسر حسب ميشار سار لأنّ الجسر يجمع الغيريات ويصنع الطريق. فالجسر عنده يكتب أي يربط ويترجم ويقرّب الموجودات ولكن دون أن يملكها. الجسر لا يلغي الاختلافات بل يحرّرنا منها بجرأة وكرم. الجسر يُبقي الآخر مغايرا لكنّه يمكّننا من لمسه وفهمه. وشعار الجسر حسب ميشال سار: «أن نحبّ دون أن نملك». ولذلك يصف كلّ كتبه بأنّها تجارب حب تجاه الجسور. وعلينا أن نسأل: كيف دخلت استعارة الجسر إلى معجم الفلاسفة؟

أفلاطون.. وسائط وبرازخ
علينا أن نشير منذ الآن إلى أنّ الجسر غير ممكن من دون مسافة فاصلة كافية لجعل العبور مستحيلا. هناك دوما منطقة وسطى تجعل الحاجة إلى مدّ الجسور ممكنة. هذه المنطقة الوسطى سمّاها اليونان «metaxu»، وهي فاصل بين حدّين، موقع وسط بين نقطتين قصويين، وخطوة نحو قطب متميّز يجذبنا إليه. هي حسب أفلاطون في محاورة المأدبة (202e- 203a) حالة «إروس» أو «الحب» بين ما هو فانٍ وما هو خالد. الحب وسط صعب بين الفناء والخلود. ولذلك يسمّيه اليونان بأنّه «daimon»، «جنّي» تائه في منطقة وسطى عليه أن يعبرها بين البشر والآلهة. وسقراط كان له «جنّي» خاص به يلهمه الحكم على الأشياء. قال سقراط: «كلّ ما له طبع الجنّي هو يوجد في منطقة وسطى بين الفاني والخالد». وهو مشكل توقّف عنده أرسطو وظلّ مشغولا بالطريقة التي يجدر بالفيلسوف أن يعرّف بها ماهيّة الأشياء «الوسيطة» (المواضع، VI، 12)، ويعترف في أكثر من مكان بأنّ الوسائط تُقال على أنحاء عدّة.
ربما كانت طرافة اليونان في اكتشاف هذه المنطقة الوسطى بين الفانين والخالدين بحيث صارت مهمّة الحضارة اليونانية برمّتها، كما تقول سيمون فايل، هي «البحث عن الجسور التي نطلقها بين البؤس البشري والكمال الإلهي». ولكنّها تستدرك قائلة: «هذه الجسور لدى اليونان نحن ورثناها عنهم لكنّنا لا نعرف كيف نستعملها... نحن نعرف أنّها جسور، أشياء جُعلت كي نمرّ عليها»، لكنّنا لا نفعل. إنّ اليونان اخترعوا فكرة «التوسّط» لكنّه من الصعب جدّا أن نقيم في منطقة وسطى بين الفناء والخلود. وذلك أنّ الوسط هو منطقة الجنّ، وهي حسب فايل «منطقة الخير والشر» التي لا تستقيم ماهية الفانين إلاّ بها. ولذلك هي توصي قائلة: «لا تحرموا أيّ كائن بشري من الـ metaxu الخاصة به، أي من خيراته النسبيّة المختلطة (من بيته، وطنه، تقاليده، ثقافته...) التي تدخل الدفء على النفس وتغذّيها، والتي من دونها لا تكون أي حياة إنسانية ممكنة».


لكنّ تاريخ الفلسفة يبيّن أنّ اليونان، مثل القدماء بعامة، قد ظلّوا غير قادرين على حلّ معضلة «المنطقة الوسطى» هذه، التي ظلّت فكرة عابرة للحضارات القديمة، نحن نجد عبارة مختلفة عنها في تراثنا الصوفي من خلال مفهوم «البرزخ» لدى ابن عربي: عالم المثال أو الخيال بين عالم الأرواح وعالم الأجساد. كيف نفهم العلاقة هنا بين « metaxu « أو «البرزخ» وبين «الجسر» كما فكّر به المحدثون؟
لنقل بشكل مؤقت: كلّ ما هو عمودي يمنع الجسور. وتلك هي معضلة القدماء من أفلاطون إلى ابن عربي. كان الوجود في نظر القدماء دائرة، قياسا على أفضل الموجودات، أي عالم «السماء». لكنّ ذلك جعلهم يعتقدون سلفا أنّ الهوّة بين المحسوس والمعقول هي فاصل روحي عمودي بين البشر والآلهة، ومن ثمّة فإنّ مهمّة الفلاسفة هي تذليل هذه الهوّة أو المنطقة الوسطى بين الفانين والخالدين بواسطة استعمال معيّن للغة بوصفها إنشاءً للعوالم. لكنّ رأس الصعوبة أنّ فهم القدماء للوسائط قد ظلّ فهما عموديّا يحرص على بناء عوالم مفارقة لبعضها البعض لا تصمد إلاّ بقدر رعاية الفواصل بينها. كل الشعوب التقليدية عاشت سردية مشابهة: ضرورة الانتصار على الموت بواسطة قصة عمودية ودائريّة مع السماء. لكنّ ما هو عموديّ هو «هوويّ» دائما: إنّه لا يحاور الجيران لأنّ كل جار هو متورط سلفا داخل سردية أصلية. وكل ما هو أصلي هو عمودي، نعني يفترض وحدانيّة لا تقبل التفاوض. وهكذا كان لابدّ من تغيير العلاقة مع المكان بعامة، أي مع الوجود، حتى يصبح مدّ الجسور بين البشر ممكنا، وهو لن يصبح ممكنا إلاّ عندما يكفّ عن أن يكون طقسا هوويّا، أي علاقة عموديّة مع علاقات عمودية معادية. هذا التغيير في العلاقة مع المكان هو «الحداثة»، وخاصة كما طرحها كانط.

كانط والجسر فوق الهاوية
إنّ الحداثة حدث مكاني وجغرافي جذري تمّ فيه منذ القرن السابع عشر توحيد المكان من خلال تأسيس فيزياء رياضية لم يعد فيها الفصل ما قبل الحديث بين ميكانيكا سماوية وميكانيكا أرضية أمرا ممكنا. وكل طرافة الحداثة هنا تكمن في الكفّ عن النظر إلى الموجود الكامل بوصفه «دائرة»، ومن ثمّ الدخول في علاقة «أفقية» مع سائر الموجودات بوصفها خطّا أو عالما واحدا. هنا وقع التحرّر من التصوّر العمودي للمسافة التي تفصلنا عن حقيقة أي موجود. ومن ثمّ التخلّص من الانفراد الهوويّ بالإجابة الوحيدة عن سؤال الحقيقة.
يمكن القول بأنّ كانط هو من أدخل استعارة الجسر إلى معجم الفلسفة. ومن ثمّ رسم خطّا إشكاليّا يمتدّ إلى حدّ كتاب ميشال سار المشار إليه، وذلك مرورا باختبارات طريفة لهذه الاستعارة تعبر نصوص مؤلفين كثر من حجم نيتشه وزمّل وكافكا وهيدغر وريكور وغيرهم.
ففي الفقرة 2 من مقدّمة «نقد ملكة الحكم» عاد كانط إلى مسألة «المنطقة الوسطى» التي شغلت القدماء لكنّه ترجمها في براديغم الذات، حيث قدّمها على أنّها عبارة عن «هوّة سحيقة (eine unübersehbare Kluft) بين ميدان مفهوم الطبيعة، بوصفه ما هو محسوس، وبين ميدان مفهوم الحرية، بوصفه ما هو فوق المحسوس». لكنّ هذه الترجمة قد قادت كانط في الفقرة 9 من نفس المقدّمة إلى إدخال مصطلح «الجسر» باعتباره هو الحلّ «الحديث» الممكن لمسألة المنطقة الوسطى التي لا يمكن البقاء فيها. قال: «(..) بسبب الهوّة الكبرى التي تفصل ما فوق المحسوس عن الظواهر (..) فإنّه من غير الممكن أن نمدّ جسرا (eine Brücke) من ميدان إلى آخر». إنّ مهمّة الفلسفة الأخيرة حسب كانط هي أن تبحث عن طريق لرصد إمكانية علاقة مناسبة بين معرفتنا للطبيعة وقدرتنا على استعمال حريتنا. على الإنسان أن يعي أنّه يعيش في عالمين مختلفين، عالم الطبيعة حيث يعرف الظواهر بشكل نظري وعالم الحرية حيث يشرّع لإرادته بشكل عملي. لكنّ هذين العالمين لئن كانا لا يتدخّل أحدهما في الآخر فهما يوجدان في عالم الحس. ومن ثمّ فإنّ ما يفزع الفلسفة ليس الطبيعة أو الحرية بل وجود حقل آخر، «حقل لا حدود له ولكن أيضا لا يمكن أن تلج إليه كل ملكاتنا المعرفية» كما جاء في الفقرة 2. هذا الحقل يسمّيه «حقل ما فوق المحسوس» الذي لا يملك «عالما خاصا» بل فقط مجالا حيث «يمدّ الجسر من ميدان إلى آخر» أي من الطبيعة إلى الحرية، ومن العلم إلى الأخلاق» فوق «هوّة سحيقة» لا يمكن عبورها لا بالعلم ولا بالأخلاق بل بنوع واحد من استعمال ملكاتنا هو «ملكة الحكم»، أي بالفنّ. كان استنتاج كانط الأخير هو أنّ الفنّ وحده هو القادر على مدّ الجسر فوق الهاوية التي بناها العقل الحديث بين ما يعرفه في العلوم وما يجب أن يفعله في الأخلاق. ومنذ كانط صار «إلقاء الجسور فوق الهاوية التي لا يُسبر غورها» مهمّة فلسفية ذات ملامح يمكن ارتسامها لاحقا، وخاصة منذ نيتشه.

نيتشه وجسر زرادشت
مع نيتشه أخذت استعارة الجسر منحى مثيرا، تحوّلت بموجبه من مجاز طوبيقي لدى كانط من أجل ردم الهوّة التي تفصل الطبيعة عن الحرية، إلى أمثولة شعرية وإتيقيّة حيث بات الجسر تعريفا لماهية الإنسان المبحوث عنها. ومنذ «تأمّلات لاراهنة»، 3، استعمل نيتشه استعارة الجسر بطريقة مثيرة قائلا: «لا أحد يمكنه أن يبني الجسر الذي يجب عليك أن تعبره فوق نهر حياتك، لا أحد غيرك (..) لا يوجد في العالم إلاّ طريق واحد لا أحد غيرك يمكنه أن يمرّ. أين يؤدّي؟ لا تسأل. بل اتّبعه». كل طرافة نيتشه هنا هي انتهاج مماهاة مقصودة بين ماهية الإنسان والطريق الذي يمشي فيه، ومن ثمّ بين الذات والجسر: نحن جسور أنفسنا، على نحو لا تفاوض حوله. ويدفع نيتشه بهذا الافتراض إلى أقصاه حين يجعل الجسر نحو أنفسنا شيئا لا نعثر عليه في العالم بل علينا أن نبنيه بأيدينا. ولأنّه بناء لا وجود له إلاّ بواسطتنا فهو طريق لا يمكن لأيّ شخص آخر غيرنا أن يمشي فيه. يبدو الجسر بمثابة شكل الحياة نفسه حيث لا يمكن لأحد أن يعوّض أحدا.
قال نيتشه في الفقرة 4 من استهلال هكذا تكلّم زرادشت:
«إنّما الإنسان حبل، موصول بين الحيوان وما فوق الإنسان حبل فوق الهاوية.
خطير أن تجتازه، خطير أن تكون على الطريق، خطير أن تتلفّت، خطير أن تقشعرّ وأن تتوقّف.
وما هو عظيم في الإنسان هو أنّه جسرٌ (eine Brücke) وليس غاية نفسه: ما يمكن أن يُحَبّ في الإنسان، هو أنّه معبَر ومهواة.
أحبّ الذين لا يعرفون إلى الحياة سبيلا إن لم يكن من حيث ما يتهاوون، لأنّهم ذاهبون إلى ما أبعد من أنفسهم».
من هنا يتأتّى معنى جديد: أنّه لا يكفي أن تكون جسرا، بل عليك أن تحتمل كلّ الهاوية التي توجد تحته. نعني أنّ الجسر لا غاية له، هو لا يؤدّي إلى أيّ مكان، بل هو طريقة الإنسان في اكتشاف الهاوية التي يحملها في داخله: إنّه كائن لم تستقرّ طبيعته بعد، وبالتالي فهو لا يصل أبدا. إنّه دوما في الطريق نحو «ذاته» التي هي عند نيتشه مجرّد وعد بشيء يتخطى أفق الإنسان أطلق عليه اسم «der Übermensch» الذي لا يعني أبدا «الإنسان الأعلى» أو «الإنسان المتفوّق»، بل تلك الإيماءة الصعبة نحو شيء يتخطّى أفق «الإنسان الأخير» الذي توقّفت عنده أحلام الإنسان إلى حدّ الآن. معنى «ما فوق الإنسان» هو كلّ الاحتمالات التي تتجاوز ما عرفه الإنسان عن نفسه إلى حدّ الآن. قال: «إنّي أعلّمكم ما فوق الإنسان. فالإنسان شيء يجب أن يتمّ تجاوزه». إنّ مصطلح «ما فوق الإنسان» هو عبارة تحمل العبور في بنيتها.

طرافة اليونان أنهم اكتشفوا المنطقة الوسطى
ومن ثمّ هو مفهوم يجد في استعارة «الجسر» كل ثروته الدلالية وكل الإشكالات التي ترنو إليها: إنّ أخطر معنى هنا هو أن يكفّ الإنسان عن معاملة نفسه بوصفه «غاية» نفسه، وأن يشرئبّ إلى مرحلة أخرى من مغامرته نحو ذات لم يلمس ملامحها بعد. الإنسان الراهن هو مجرّد «حبل» ممدود بين «الحيوان» (بوصفه الماضي النائم في الجسد) وبين طور يتخطى أفق الإنسان هو معنى «ما فوق الإنسان» (وهو مستقبل أخلاقي لإرادتنا لا نعرفه لأنّه يفترض منّا أن نؤمن بـ»عبورنا» و»سقوطنا» نحوه كشيء نريده لأنّه مستقبلنا الوحيد. لكنّ أفضل ما يفعله الإنسان الذي هو نحن هو أن يحتمل كلّ دلالات الجسر التي يشتق منها ذاته الحالية. وبالتالي أن يقبل العبور نحو ما لا يعرفه، وأن يهوي في متاهة الاقتدار الذي يحدوه دون أن يسيطر عليه.
قال زرادشت: «لكلّ نفس ينتمي عالمٌ آخر، وكلّ نفس هي بالنسبة إلى كلّ نفس عالم آخر. وإنّما بين أكثر الأشياء تشابهًا تولد أجمل الأوهام، ذلك أنّه كلّما دقّت الهاوية وتوارت كان مدّ الجسر فوقها كأصعب ما يكون».
ولكن حين يصبح الإنسان نفسه جسرا نحو ذاته القادمة، علينا أن نسأل عندئذ: كيف يجدر بإنسان عصر التقنية أن يواصل بناء الجسور؟ كيف يجدر به أن يتفكّر في علاقة الجسور بمعنى الكينونة في العالم؟

هيدغر وجسر الكينونة
في سنة 1951 ألقى هيدغر محاضرة تحت عنوان «Bauen، Wohnen، Denken»- «أن نبني، أن نسكن، أن نفكّر». كان الرهان الفلسفي هو معالجة هذا السؤال: «بأيّ وجه ينتمي البناء إلى ماهية السكن؟». وهو ما حاول هيدغر أن ينجزه في القسم الثاني من النص. وهو طرح ما كان ليهمّنا هنا إلاّ لأنّه اتّخذ من استعارة «الجسر» مثالا حاسما. من دون جسر تواصل الضفّتين عدم اكتراثهما الواحدة بالأخرى. لذلك يعتبر هيدغر أنّ الجسر هو الذي يصنع الضفّتين، بل يجمع النهر والضفّتين والبلاد نفسها في «جوار متبادل». الجسر «يجمع الأرض» ويحوّلها إلى «جهة» يمكن التوجّه فيها. لكنّه لا يفعل ذلك إلاّ لأنّه يخترع «الطريق» للبشر، «الفانين» الذين يقتبسون من الجسر طريقهم، أولئك «العابرون دوما نحو الجسر الأخير». لكنّ من يجد طريقه يقترب ممّا هو «إلهي» في أفق البشر. يقول هيدغر: «إنّ الجسر يجمّع [الكينونة] من حيث هو الممرّ العابر أمام الآلهة». ولكن بأيّ معنى؟ قال: «إنّ الجسر على طريقته يجمّع الأرض والسماء، وعند نفسه يجمع الآلهة والفانين». ومن ثمّ يقرأ هيدغر الجسر بوصفه حضن العلاقة بين الجهات الأربع للمعنى: الأرض والسماء، الآلهة والفانين. الجسر بنية «الرابوع» الذي يشدّ معنى الكينونة في العالم في أفق البشر. ولذلك ينبّه هيدغر إلى أنّ الجسر ليس مجرّد «رمز» يشير إلى دلالة منفصلة عنه، بل يؤكّد أنّ الجسر هو «شيء» (thing كما تقول الألمانية القديمة أو Ding كما تقول الألمانية الجديدة): ولكن في معنى قديم أيضا: أنّ الجسر هو «شيء» في معنى أنّه «يجمّع» الجهات الأربع للكينونة (Versammlung des Gevierts). الجسر لا يكون مجرّد جسر لولا أنّه قادر على أن يكون «شيئا» أي مجمِّعا للكينونة. يعني: يخلق «الموضع» حيث يمكن أن نمنح «المكان». فالموضع لا وجود له قبل الجسر. قال: «إنّ الجسر شيء، يجمّع الجهات الأربع، ولكن يجمّعها على نحو بحيث هو يمنح تلك الأربعة مقاما. ومن هذا المقام تتعيّن المواقع والطرق، التي من خلالها يتهيّأ المكان». لا يوجد الجسر إلاّ من أجل تهيئة المكان، أي تهيئة الامتداد الذي يجعل الإنسان ممكنا. ليس المكان الذي يكون منفصلا عمّن يسكنه بل المكان من حيث بنية كينونة الإنسان لدى نفسه. لا نسكن إلاّ عند أنفسنا، أي حيث يمكن للمسافات أن تخضع للطريق، حيث يمكن للعلاقة بين الموضع والمكان أن تتبلور في شكل نوع مناسب من «السكن». ولذلك فإنّ «بناء» الجسور هو بناء الجهات الأربع التي تجعل مواصلة الكينونة ممكنا. يقف الجسر وهو يؤمّن الجهات الأربع للكينونة: «أن يهيّئ الجهات الأربع يعني: أن ينقذ الأرض، ويستقبل السماء، وينتظر الآلهة، ويقود الفانين، وهذه التهيئة الرباعية هي الماهية البسيطة للسكن».
إنّ الجسر، كما وصفه جورج زمّل في نص كتبه سنة 1909 تحت عنوان «الجسر والباب» (Brücke und Tür)، يشبه موعدا غراميّا: إنّ المحبّين لا كينونة لهم سوى «العلاقة»، كلّ ثروتهم هي في «البين» الذي يفصل الواحد عن الآخر بقدر ما يصله به. وبهذا المعنى هو يعرّف الإنسان بأنّه: «كائن الحدود الذي لا حدود له». هو محدود دوما بعلاقة التقابل في المكان لكنّه ينجح دوما في تبادل العلاقة ومن ثمّ تبادل المكان. ولذلك ينبّهنا إلى أنّ الحيوان قد يقطع المسافات الطويلة لكنّه «لا يصنع معجزة الطريق» إلى الغير. ولذلك يدعونا زمّل إلى تكريم أوّل إنسان اخترع «الطريق». قال: «كلّ فرد يحمل حدوده الجغرافية مع جلدته». ذلك أنّ من يعبر الجسر له دوما شيء ما يزال في مكان آخر.

هوامش:
1 - Michel Serres، L’art des ponts. Homo pontifex (paris: Le Pommier، 2006).
2 - Simone Weil، La pesanteur et la grâce (Paris: Presses-Pocket، 1988).
3 - „ Die Brücke sammelt als der überschwingende Übergang vor die Göttlichen.“

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©