الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نحو عالم بلا ضفاف

نحو عالم بلا ضفاف
24 ابريل 2019 00:24

يمكن تعريف الجسر باعتباره منشأة يتم بناؤها غالبا من الحجر أو الخشب أو الحديد، وهي تستخدم لعبور حاجز والتغلب على عائق ما، قد يكون مجرى مائيا أو مرتفعا شاهقا، وبالتالي فالجسر يربط بين حافتين متباعدتين حتى يسمح بمرور البشر والبضائع، ويؤمن وصولهما في أحسن الظروف.

منذ طريق الحرير الذي كان يربط الشرق بالغرب في العالم القديم، إلى الرحلات الجغرافية والملاحية الكبرى، وصولا إلى شبكة خطوط الملاحة البحرية والجوية اليوم، ظل الإنسان ولا يزال يبحث عن تقريب ما هو بعيد، عن كسر العزلة والانكفاء على الذات، البحث عن تسهيل التبادل الاقتصادي بين المناطق، ومشاركة الخبرات والثقافات واقتسام المعلومات. وإذا كانت الجسور قد ظلت عبر التاريخ مرتبطة بانشغالات الإنسان في حياته اليومية، فإنها اليوم تعرف تطورا ملحوظا وتكتسي دلالة مغايرة لها ارتباط بالتقدم الحضاري للإنسان. نحن نتحدث حاليا في سياق التوظيف الدلالي لمفهوم الجسر، عن الجسور الحضارية والثقافية التي يمكن أن تقرب الأمم من بعضها البعض، فتسمح بذلك بمرور القيم الإنسانية الجميلة، قيم التضامن والتعايش والتسامح، بدل قيم الصراع والعدوانية والرفض المتبادل. ومع الثورة المعلوماتية وميلاد الشبكة العنكبوتية، لا شك أننا مع مطلع الألفية الثالثة أمام ولادة عالم جديد، تضمحل فيه الحدود التي ظلت تفصلنا عبر التاريخ. فالرهان يكمن في ضرورة الوصول إلى بعضنا البعض، ولكن هل وعينا البشري المحدود، قد استوعب بالفعل مقدار شساعة هذا العالم الجديد؟

من ضفة إلى أخرى
عرفت البشرية الجسور منذ قديم الزمان، وذلك بصنعها بواسطة الحبال وألواح الخشب وجذوع الأشجار. غير أن الجسور اليوم تطورت كثيرا بفضل التقدم التكنولوجي وطرق الهندسة والبناء. يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر جسر لندن الشهير، كأحد أقدم الجسور التاريخية، فقد بني سنة 1209 وتم تجديده سنة 1831 تم أعيد بناؤه سنة 1967 وهو واحد من ضمن خمسة عشر جسرا تمتد فوق نهر التايمز.
في الولايات المتحدة الأميركية هناك أيضا جسر غولدن بريدج، والذي يسمى أيضا جسر البوابة الذهبية، يربط بين خليج سان فرانسيسكو ومدينة سوساليتو الواقعة في مقاطعة مارين. هذا الجسر مقام فوق منطقة زلزالية، لذلك تم بناؤه بطريقة هندسية بديعة لتفادي أخطار الطبيعة. يعتبر هذا الجسر بلونه البرتقالي المذهب أحد الرموز المعمارية الكبيرة في أميركا، بل هو رمز ثقافي نلاحظ وجوده في العديد من الأفلام والروايات، إضافة إلى قيمته السياحية الكبيرة إذ يستقبل سنويا أزيد من عشرة ملايين سائح. دام العمل به أربع سنوات، وافتتح سنة 1937 وقد ظل لسنوات كأطول جسر معلق في العالم قبل أن يزيحه جسر أكاشي كايكو الياباني من مكانه.
وفي نيويورك مدينة الجسور كما يطلق عليها، نجد تسعة جسور في المجمل، أشهرها جسر بروكلين. افتتح في نهاية القرن التاسع عشر، وبالضبط سنة 1883 حيث دام العمل به أربع عشرة سنة. يعتبر هذا الجسر أيضا من الرموز الأساسية لمدينة نيويورك، وهو يصل بين منطقتي مانهاتن وبروكلين. ما يميزه هو أنه أول جسر في العالم تم استخدام الحبال الفولاذية المفتولة لشده. كان الجسر فيما مضى يسمح بمرور القطارات لكنه اليوم يقتصر فقط على مرور الراجلين والسيارات.
أما في أوروبا فنجد كذلك جسورا جميلة لها قيمة تاريخية وثقافية، مثل جسر ميو Viaduc de Millau الذي شرع في بنائه سنة 1987 والى غاية 2004 وهو يمتد من فرنسا وإلى غاية مدينة برشلونة الإسبانية، على ارتفاع 250 مترا عن سطح الأرض، وبذلك ظل هذا الجسر لفترة طويلة كأعلى جسر في العالم قبل أن تتجاوزه جسور أخرى. من مميزات هذا الجسر طوله الذي يصل إلى كيلومترين ونصف تقريبا، كما أنه يتجاوز في بعض مناطقه علو برج إيفل. هذا إضافة إلى جسر ميرابو وسط العاصمة باريس الذي اتخذه أبولينير كعنوان لقصيدة شهيرة لديه.
من الجسور الشهيرة في أوروبا كذلك جسر أورسن في السويد، على طول 7847 مترا يربط بين عاصمة الدانمارك كوبنهاجن ومدينة مالمو السويدية، وهو من الجسور الرائعة التي تجعلك تسافر فوق البحر حيث يحيط بك الضباب من كل جهة. أما أغرب الجسور في العالم فهي جسور الشيطان، وقد سميت كذلك لأن قوسها ينعكس في الماء فيظهر كما لو أنه دائرة مكتملة. أشهرها ذلك الموجود في ألمانيا والذي بني سنة 1860. إلا أن هذا النوع من الجسور المقوسة يوجد في سبع عشرة دولة أخرى ويحمل نفس الاسم. ففي فرنسا لوحدها نجد خمسين جسرا مشابها.
أما في اليابان فنجد جسر أكاشي كايكو وهو أطول جسر معلق بالعالم، حيث يبلغ طوله 1919 مترا، استغرق العمل به عشر سنوات واشتغل به حوالي مليونين من العمال، بتكلفة فاقت أربعة مليارات دولار وافتتح سنة 1998.
يمكن أن نتحدث أيضا عن الجسر الخالد في الصين والذي يسمى جيان تزو Jiangzhou تم بناؤه عن طريق نحت الصخور المنتصبة لآلاف السنين. يرتفع هذا الجسر لأكثر من 120 مترا. تقول الأساطير الصينية إن من يعبر هذا الجسر الخالد سيصبح بدوره خالدا. الصين بالمناسبة تعتبر رائدة في مجال هندسة القناطر والجسور حيث يوجد بها أطول وأعلى الجسور بالعالم، مثل الجسر الممتد فوق نهر سيدو على طول 1200 متر وتصل قمة ارتفاعه إلى 476 مترا.
لا تفخر الصين فقط بالجسور التاريخية والطبيعية، فقد تم سنة 2016 افتتاح الجسر الزجاجي في مقاطعة هونان بغرض الترويج السياحي، وهو تحفة فنية وعمل إبداعي لأنه مقام بالكامل من الزجاج، حيث يعتبر عبوره عملا بطوليا وتجربة فريدة من نوعها، ما دام أن المرء سيضطر للسير لمسافة طويلة فوق الزجاج الشفاف، على ارتفاع 180 مترا بينما يجري النهر من تحته.
في آسيا دائما وقريبا من الصين هناك جسر بان بو Banpo في كوريا الجنوبية، وبالضبط وسط العاصمة سويول كأحد أروع الجسور جمالا في العالم، إذ يتوافر على نافورة مائية بألوان قوس قزح، وهي أطول نافورة مائية في العالم إذ يبلغ طولها 1140 مترا وتطلق 190 طنا من المياه في الدقيقة، تتغير ألوانها مع الموسيقى.
وهكذا من ضفة إلى أخرى، يمضي الإنسان في رتق التصدعات الجغرافية للأماكن، عبر مد الجسور وبناء القناطر، ليس فقط لاستكشاف المناطق البعيدة، بل ولتوسيع نظرته للعالم. إلا أن هذا الطموح لم يتوقف هنا، فنحن مع الثورة الرقمية نعرف جسورا من نوع آخر، إنها جسور افتراضية تجعلنا اليوم تتحرك في كل مكان، ونؤسس لاهتمامات مشتركة نصبح فيها مواطنين عالميين.

عالم بلا حدود
لا شك أن قيمة المشاركة والتبادل قد بلغت أوجها اليوم مع ظهور الشبكة العنكبوتية، التي تمثل الشكل الأرقى الذي بلغته الحضارة البشرية في التواصل ونقل المعلومات. وإذا كان ظهور المطبعة في العصر الحديث قد قضى على سلطة الكنيسة، التي كانت تحتكر المعرفة حيث جعلت الكتاب متوفرا في يد الجميع. فإن الإنترنت اليوم قد قضى على سلطة أخرى، هي سلطة الحدود الوهمية التي رسختها الدول مع بعضها البعض. فلا معنى اليوم للتعبير القديم الذي كان يقول: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا. حاليا نحن نعيش عالما بلا حدود، أطلق عليه مارشال ماكلوهان التوصيف الشهير «القرية العالمية». إن المواطن في الشرق الأوسط، يمكنه أن يتابع وأن يشارك ضمن أحداث تبعد عنه لآلاف الكيلومترات، في ثقافة وحضارة أخرى. لقد أصبحنا كما يقول عنوان نص التقرير الصادر عن لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي «جيران في عالم واحد». هذه الجسور الجديدة التي نعيشها اليوم تصنعها شبكة الإنترنت والعدد التقنية المرافقة لها، مثل الهواتف المحمولة، والحواسيب وأجهزة نظام تحديد الموقع وغيرها، لدرجة أن العالم برمته تحول كما يقول جيل ليبوفتسكي إلى شاشة عملاقة كبيرة وهكذا في نظره: «انتقلنا من الشاشة/‏‏ المشهد إلى الشاشة/‏‏ الاتصال، ومن شاشة واحدة، إلى شاشة كلية الأبعاد». («شاشة العالم» ص 10).

ثقافة المشاركة
كل هذه التحولات ساهمت في رفع درجة وعي الإنسان بضرورة مشاركة ما لديه مع الآخرين، ومشاركة الآخرين لما يملكه. فالعالم الذي نعيشه هو عالم المشاركة والاقتسام The world of sharing نحن لا نشارك بعضنا البعض فقط الصور والمعلومات عبر وسائط التواصل الجماهيرية. بل إن المشاركة تشمل تبادل الثقافات والخبرات، وأنماط التفكير والعيش وغيرها. في هذا السياق ذكر المخرج الفرنسي كلود لولوش قولة بليغة وهي أنه: «يتعين على عالم المشاركة أن يحل محل مشاركة العالم» Le monde de partage devra remplacer le partage du monde ومعناه أنه بفضل الثورة المعلوماتية، فالعالم يتجه نحو المزيد من التضامن والعطاء والإيثار، والابتعاد عن المرحلة السابقة التي كانت الدول القوية تتصارع من أجل اقتسام العالم فيما بينها.
إن إحدى سمات هذا العالم الجديد نعيشه حاليا، التغير الدائم والانفتاح والسرعة الفائقة في التحول. إنها ثورة جامحة، ولكنها في الآن ذاته صامتة، بالكاد يحاول وعينا اللحاق بها. وقد قال روبيرت أورنشتاين وبول إرليش في كتابهما «عقل جديد لعالم جديد»: «إن العالم الذي صنعنا قد انقضى، والعالم الذي صنعناه عالم جديد، عالم لا نملك سوى قدرة ضئيلة على تفهمه» (ص 12)، ويمكن أن نفهم من هذا الكلام إنه داخل هذا النهر الجارف المميز للألفية الثالثة، حيث تطغى قيم المثاقفة والانفتاح والتواصل، ثمة أناس مثل سمك السلمون يسبحون ضد التيار، فيأبون أن يشملهم هذا التغيير، لأنهم ما زالوا يتشبثون بأوهام الهوية الخالصة، والانطواء على الذات والتخوف من لقاء الآخر. لهؤلاء يمكن أن نقول بدون مواربة، بأن الهوية اليوم أصبحت شيئا مركبا، وليست جوهرا منغلقا على نفسه. وبتالي كل من يتموقف ضد الجديد محتميا في طهرانية الماضي، لن ينتج إلا المآسي في الحاضر وعلى رأسها التطرف والإرهاب. هذا الكلام لا يعني بتاتا الدعوة إلى التخلي عن الذات والانمحاء في الغير، بل من الضروري الحفاظ على مسافة حيادية نضمن من خلالها حضورنا في هذا العالم، وفي الآن ذاته تأسيس العلاقات الإنسانية مع الآخر.
إن هذا يشبه ما أشار إليه الفيلسوف الألماني شوبنهاور في مثال شهير هو مثال القنافذ التي في ليلة باردة بحثت عن الدفء، عن طريق الانكماش مع بعضها البعض، لكنها وجدت أن ذلك يسبب لها ألما داميا بفعل الأشواك الموجودة على ظهرها، غير أنها اهتدت بفطرتها إلى الحفاظ على هذه المسافة الضرورية التي تنعم فيها في الآن ذاته بالدفء مع تفادي لسع الأشواك.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©