الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

طاغور.. أكثر الشعراء طفولة

طاغور.. أكثر الشعراء طفولة
24 ابريل 2019 00:24

طاغور.. هو أكثر الشعراء طفولة.
وإنّها لطفولة تنفذ إلى قلب العالم وتعيد إليه روحه العذراء..
هو الهلال في تمام براءته..
قوس ضياء يطلق سهام الحق في قلب اللاّنهاية..
قيثارة أبدٍ أوتارها من خيوط الغيب..
كل لحن مُرسل.. ذروة عشق.. وكمال وصل..
يردد القلب صداه في كل خفقة..
«إيه يا مولاي.. لقد وسمت بطابع الخلود
بعض اللحظات العابرة من حياتي..»

هكذا يتنزّل علينا شعر طاغور، شآبيب من لطف خفيّ، يسري في القلوب الكليمة مسرى الشّراب السّلسبيل المريء، فيبعثها بعثاً جديداً آخر؛ وقد جاء هذا الشّعر مخضّباً بطمي بلاد البنغال، فكان في عراء معانيه، قد أدرك الأغوار السّحيقة للإنسان، لينتهي إلى حكمة بالغة ترى أن لا مكانة لهذا الإنسان، أرفع من كونه إنساناً. لذا جاء شعر طاغور مسائلاً الكائن عن وجوه معانيه المخبأة خلف ضباب العالم، وتلمُّسٌ خفيٌّ لإيقاع الحلم المتدفّق من ينابيعه الداخلية، رقص نذوري على حواف المشتهى، وابتهال عرسي في لجة الانعتاق الأسمى.
وكيف لا يكون هذا الشاعر العارم رائيّاً، والكلمة منذ البدء أول التجليات، وكيف لا يكون رسول الكشف الأعظم والكلمة في خضاب الضوء.. ممسك بالحياة من جذورها، كان يمضي على صهوة الرؤى الشفقية، ليختزل المسافة اللامتناهية بين الممكن والمحال، ليمنح للروح بأجنحة من مطلق الغيب، سماء أخرى تحلّق فيها خلف نقب السراب، حتى ينال قطاف الخلود في إلماع كلمة، ويشرّع القلوب بموسيقى عزف كوني على أوتار مسامعنا المتأوجة. هكذا يعيد طاغور الشّاعر، الكلمة إلى في بياض الرؤى القزحية، لتتجلى بنفسها عالماً بكراً يشهد أوليّات البعث كصيرورة لامتناهية لجوهر الخلق، ووحيٌ سرمد لأسفار التكوين، بين «الهنا» و«الهناك»، فيقيم أعراس اللامكان في سديم مجرات الحلم.. ويقترن بالمستحيل على تخوم الغيب.. ويقبِّل الحياة من ثغر ينابيعها العذراء، وينجب العالم في زهرة الأبدية.
سواء أكان حداداً بين مقابر الآلام أم رقصة على حبال الجنون، شهقة دم على مقصلة الزمن أم غيبوبة عشق في نعيم الزوال، صراخاً في هوة العدم أم أنيناً في حميم العزلة.. يبقى شعر طاغور حقّاً سبحة الأبدية، مادام هو إيقاع المطلق الذي يلج بنا إلى انطباعات عذراء، وعوالم بكر، تتراءى لنا وكأنها بعث جديد بين مجرات الدهشة؛ ويبقى هذا الشعر حقّاً هو فيض اللاّمنتهى، مادام يختزل روح العالم من أزل الوجود إلى آباده، في موسيقى تطرق مسمع القلب فتبعثه من رميم وتحييه بالفناء.
والمتتبّع لشعر لطاغور، لا بدّ له من أن يلمس مركزيّة المحبّة في سيرته الوجوديّة والأخلاقيّة والرّوحيّة، ونعني بذلك، تلك المحبّة الكلية، التي هي البدء والمنتهى، وهي تلك الحقيقة الواحدة في أصلها، المتعدّدة في صورها، والتي تحيل الباطن ظاهراً، والمخفيّ كشفاً، والكثرة وحدة؛ وهي التي تعيد العدد إلى مفردة، وتجمع بين الضدّ وضدّه، وتساوي بين النّقيض ونقيضه، لتكون تلك المحبّة فوق الخير والشرّ، والجمال والقبح، والتّمام والنقص؛ فهي الإرادة التي لا تعلوها إرادة، ولها المشيئة العليا التي تتقلب فيها المصائر بين عالمي الغيب والشهادة؛ وهي في صميم الرّوح الكلّ الذي يشتمل على كلّه، ولا تبغي من دوام سعيها في النفوس، إلا تمام اكتماله..
وإنّها لمتعة بالغة أن نمعن في تلمّس حضور طاغور في وطنه الأرحب ومعتصمه الأقدس.. الشعر. وليكن احتفاؤنا بهذا الشّاعر الأكثر طفولة بين الشّعراء، هو الإنصات إلى تراتيله العذبة في «تراتيل الفناء في جيتانجلي» أو«قرابين الغناء»..

بالغناء وحده
ألج عتبات التّجلي

(1)
لقد خلقتني لانهائيّاً.. تلك كانت مشيئتك.
هذه الكأس القربانيّة الرّقيقة
إنّك لاتني ترتشف منها المرّة تلو الأخرى
كيما تمنحها على الدّوام رحيق الحياة الأبديّة.
لقد عبرت بهذا المزمار الصّغير من القصب التّلال والوديان..
ونفخت فيه أناشيد متسرمدة بالبعث في دورة الأكوان.
وببركة لمسة من يديك..
ينفلت قلبي من قيود أسره في سماوات الفرح الأعظم
لينساب فيضاً قدسيّاً في طلسم الأسرار.
إنّ عطاياك إليّ لا تنقضي..
إلا أنني لا أمتلك سوى راحتيّ الضئيلتين للإمساك بها.
والأزمنة في سديم الزّوال لا تلبث أن تمّحي..
إلّا أنّك تهرق لي.. وفي قلبي ثمّة أبداً مكان ينتظر أن يمتلئ.

(2)
عندما تأمرني بالغناء أشعر بقلبي يتلاشى ولهاً في حميّا التّيه.
وحين أتأمل خاشعاً وجهك
تغشى نقب الدّموع عينيّ الذّاهلتين إليك.
كل الظّلال الوحشيّة والأصداء المتنافرة في حياتي
تنصهر في تناغم عذب في ضوء موسيقاك اللّامتناهية.
ويطلق عشقي جناحيه السّماويين
كطائر ثمل بلازورد الرّحيل الشّفقي في طوافه فوق البحار.
إنّني أعلم بأنّك تطرب لغنائي..
وأعلم بأنّني بالغناء وحده ألج عتبات التّجلي
حيث ألامس بخفق أجنحة تسابيحي المتبتّلة
أطراف قدميك التي ما كنت آمل في الوصول إليهما.
وإنّني في خدر الدّوار أنسى نفسي..
فأناديك في نشوة: أيّها الرفيق.. أنت يا مولاي

(3)
كيف يتردد صوتك بالغناء يا مولاي
فأنا لا أعلم ذلك.
إلا أنني في ابتهال الدهشة الصموت
ألقي السمع أبداً إلى وقع غنائك

إن أنوار موسيقاك تضيء وجه العالم
وهي تعزف على أوتار السماوات ترانيم الحياة الخالدة
والتموج الأبدي لفيض ألحانك القدسية يتدفق منهمراً من قلب الصخرة الصماء
إن قلبي يود لو يهب نفسه في سدير غنائك..
ولكنه عبثاً يسعى إلى ملامسة صوتك..
ولسوف أتكلم..
إلا أن كلماتي لن تتساوق مؤتلفة كانثيال النغم الشجي الرخيم
فأتردى في مهاوي الحيرة وأنتحب بالبكاء..
آه يا مولاي.. لقد وسمت قلبي بأبدية موسيقاك التي لانهاية لها..

(4)
يا حياة حياتي،
سأسعى أبداً لأن أبقي جسدي طاهراً
كيما أشعر بلمسك الحي مخضّباً بالروح كل ذرة في كياني

سأسعى أبداً لأن أعزف بفكري عن كل باطل
عارفاً بأنك قدس الحقيقة الذي يضيء قبلة الحق في روحي

سأنجو بقلبي من كل الشرور وأبقي حبي متفتحاً في زهرة الأبد
مدركاً أن مثواك كائن في المذبح الخفي لقلبي..
وسأجاهد نفسي لأن تجلوك في كل ما تقوم به
عالماً بأن مشيئتك وحدها ما يهبني القوة في كل عمل

(5)
أناشدك يا مولاي أن تهبني لحظة ألتمس فيها قربك الحيّ
لأستروح بين يديك زهد السّكينة المتبتّل، وسأنهي بعد ذلك
كل الأعمال التي شرعت في القيام بها.

إنّ قلبي المحتجب عن رؤية وجهك
لا يصلى راحة ولا سلاماً،
وسعيي الذّاهل إليك
يستحيل عناء متصلا في بحر من الشّقاء اللامتناهي.
اليوم أطلّ الصّيف على نافذتي
في لفح أثيريّ من وهج التّنهدات وهمس التّسابيح المتعالي،
فيما كان النّحل يغازل على عجل بتلات الخميلة المزهرة..

ها قد أزف وقت الرّاحة،
ليرتفع صوتي بالغناء في تهليل نذوري على إيقاع الحياة والخصب،
ووجهك قبالة وجهي
يختم على قلبي بضوء السّكينة وصمت القنوت في غمرة التّجلي..

(6)
لتقطف هذه الزّهرة الواهنة..
ولتمسكها سريعاً بين يديك
قبل أن تبدّدها ريح الزّوال وتتهاوى بتلاتها الغضّة
في سديم التّلاشي.
وإن لم تجد لها مكاناً في إكليلك القدسيّ
فباركها باللّمسة الموجعة من يدك..
واقطفها..
فإني أخشى أن ينقضي النّهار وأنا في غفلة
ويكون زمن تقديم القرابين قد انتهى.
وإن كان لونها وانياً
وعطرها يتضوّع في حياء صموت..
فخذها إليك في نشوة العطاء
ودعها منذورة لخدمتك في نسك التّخلي..
قبل أن يدركها الأفول
ويكون موسم القطاف قد ولّى

(7)
اعزف عن تسابيحك
ودع عنك تراتيل الصّلوات وتواشيح السّماع،
فمن ذا الذي تتضرّع له في خلوة تلك التّكايا المعتمة،
ومن ذا الذي تدعوه في معبد كل أبوابه موصدة صمّاء؟

افتح عينيك في ضوء الرؤية

إنّه هناك، حيث يحرث الفلّاح أديم الأرض القاسي،
وعلى عذار الطّريق حيث يكدح العامل في كسر الحجارة،

الخلاص؟ أين هو الخلاص الذي تحسب نفسك في سبيل الوصول إليه؟
أولم يتعهّد مولانا نفسه في غبطة الرّوح روابط الخلق في رحم التّكوين؟
لقد اتّحد بنا جميعاً وإلى الأبد.

أفق من غشية تأمّلاتك، ودع جانباً أزاهيرك وبخور تبتّلك،
فما ضرّ لو تلوّث رداؤك وأصبح بالياً؟
اذهب واعتصم به بجهدك الحيّ وصهد جبينك

(8)
إنّه لطويل زمن رحلتي،
وإنّ طريقي إليك مديدة
لقد خرجت ممتطياً عربة أوّل شعاع من النّور،
وتهت في أسفار عبر قفار العالم واسماً بيارق أثري على أرخبيلات النّجوم والكواكب.
إن امتداد مشارف العبور إليك حتّى تخوم ضوء الأبديّة
هو ما يجعلني دائماً أكثر قرباً منك
وإن أكثر الأنغام ارتجالاً في إيقاع الرّوح الطّليق
هي التي تؤدي إلى التّماهي في عذوبة اللّحن الكاملة.
ينبغي للمسافر طرق جميع الأبواب حتى يهتدي أخيراً إلى بابه،
وعليه أن يطوف في مدى كلّ الآفاق
حتى تتجلّى له مشكاة الأنوار في معبد أقداس كيانه.
لقد تركت عينيّ ذاهلتين في البعيد طويلاً
قبل أن أغمضهما وأقول: أأنت هنا؟!
وحيرة السّؤال وجمر التّرقب ينسكبان في محيط من الدّموع
ويغمران وجه العالم بفيض من غمار هذا اليقين: أنا كائن ههنا.

(9)
إنّ النّغم الذي جئت هذا العالم لإنشاده لم تترنّم به شفتاي بعد
ولقد أمضيت حياتي كلّها في ضبط أوتار قيثارتي وتعديلها.
لم أفلح قط في الوصول إلى إيقاع اللّحن الكامل،
فالكلمات بقيت غير متناغمة في تساوقها،
ولم يتبقّ في غيابة القلب إلا نشيج الفناء المعنّى في احتضار أمنية.
إن براعم الأزهار لم تتفتّح في نشوة الرّحيق بعد..
إلا أن الرّيح الوسنى بجوارها تتنّهد في خفر.
إن وجهه لم ينكشف لعينيّ..
وصوته لم يلامس مسمعي..
ولكن قلبي ارتعش بخفق خطوه الأثيريّ على الطّريق الممتدّة أمام بيتي.
لقد أمضيت نهار حياتي وأنا أهيّئ في بيتي مكان جلوسه،
إلا أن مصباحي لم يضيء بشعلته
فتعذّر عليّ أن أناجيه بالنّداء.
إنّني أحيا أبداً على أمل لقائه،
إلّا أنّني لم أظفر بهذا اللقاء بعد

(10)
إنّ رغائبي لكثيرة،
وإنّ شكواي لجديرة بالرّثاء،
ولكنّك تعرض عنّي دوماً وترعاني برفضك المتواصل إيّاي،
وقد أسرتني في قبضة رحمتك القاسية.. حياتي كلّها.
يوماً بعد يوم أراك تعدّني لاستحقاق هباتك التي لا تنتهي،
وتكلّلني ببشائر عطائك العظيم
في خلق هذه السّماء وهذا النّور..
هذا الجسد وهذه الحياة والروح..
كلّ ذلك كيما تقيني ذنب المعصية في آثام الشّهوة الجموح.
قد يغشاني الوهن حيناً فلا أبلو سبل الخلاص إليك..
وأحياناً أخرى يدركني الصّحو
فأسعى دائباً في الترحّل وراء غايتي،
ولكنّك لا تلبث أن تشيح بوجهك عنّي.
إنّك تعدّني يوماً بعد يوم لأن أكون جديراً بلقائك
فأجلوك في نفسي، وذلك برفضك إيّاي دوماً
حتّى أتطهّر بالفناء عن رغائبي.
..........................................................
(ترجمة: أ.ح)

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©