الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فنّ عابر للجينات

فنّ عابر للجينات
10 يناير 2018 19:48
د. ام الزين بنشيخة المسكيني يبدو أنّ التاريخ لم يعد من صنع الحكّام ولا الشعوب، بل آل اليوم إلى أيادي العلماء الذين يشتغلون في مخابرهم على إعادة تشكيل الخريطة العامة للجينوم البشري. لكن من منّا يعلم ما الذي يحصل تحديداً في مخابر العلماء وأيّ شكل من المستقبل يهيّئونه للنوع البشري؟ من منّا يهتمّ فعلاً إلى أنّ ما نأكله اليوم - مثلاً- إنّما هو نتاج تحويلات جينيّة على موادّ نباتية أو حيوانيّة قد تؤدي إلى تبديل عميق لهويّتنا الجينية الطبيعية؟ قليلون ربّما من غير المختصّين يعلمون مستقبل الجينوم البشري الذي يقع الاشتغال على تبديله وتحويله كلّ يوم، وقليلون من يفكّرون بالأسئلة الثقيلة حول شكل الحياة على الأرض، وبعلاقة هذه التكنولوجيات بالإيتيقا الطبية والمسألة الإيكولوجية عموما. هل نقول مع الفيلسوف الألماني هيدغر «إنّ العلم لا يفكّر» وإنّه علينا تدبّر شكل مغاير من السكن في العالم على طريقة الشعراء مثلا؟ أم نقول مع الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت أنّ العلم هو «الدين الجديد للإنسانية» في عصر غصّ بالحروب الدينيّة ولم يعد يتّسع لعقائد جديدة؟ من بوسعه إذن أن يخبرنا عمّ تعدّه لنا التكنولوجيات الحيوية من اكتشافات طبيّة جديدة حول استنساخ لكائنات حيّة قد تؤدّي إلى تحويلنا إلى ضرب من المسوخ المخيفة، ومن بوسعه أن يفكّر في الحدود بين الإنساني والحيواني والنباتي في ضوء التكنولوجيات العابرة للجينات إذا استثنينا اعتراضات ونضالات الجمعيات والأحزاب البيئيّة ودعاة حقوق الحيوان؟ يبدو أنّ للفنّان منزلته الخاصّة في هذا السياق بما هو لم يعد يقتصر على اختراع الجمال أو تهذيب الأذواق، إنّما بوصفه قد صار يساهم في تشكيل الحياة أيضا على نحو مغاير في أفق نوع من النضال الإيكولوجي من أجل الدفاع عن مستقبل الحياة على الأرض. يتمّ ذلك اليوم بشكل دقيق ضمن الممارسات الفنّية التي تجد تعبيراتها الخاصّة فيما يسمى منذ تسعينات القرن الماضي بالفنّ الحيوي أو» البيو-آرت» (Bio-Art). ما هو الفنّ الحيوي؟ إنّه أحد الاستتباعات الأساسية للتكنولوجيات الحيوية الجديدة من حيث أنّه يجد في حقل الحياة موضع ممارساته الفنّية المخصوصة. وهو فنّ يتنزّل ضمن البراديغم الثقافي العالمي الجديد الذي وجد في مفهوم «البيو» أي الحيوي تعبيرته الفلسفية النموذجية وذلك منذ دروس الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو حول «البيو- سياسي» (1978) إلى حدود مفهوم «الحظيرة الانسانية» للفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك (1999)، ثمّ «فنّ الذعر» للفيلسوف الإيطالي بول فيريليو (2000)، مرورا بكتابي «ألف مسطّح» للفيلسوفين الفرنسيين جيل دولوز وفيليكس غاتاري (1980) و«الحياة العارية»، أو «مجرّد الحياة» للفيلسوف الإيطالي جوجيو أغمبان (1995). وإنّ أهمّ ما نظفر به من هذا البراديغم هو الاستثمار في الحياة كحقل تفكير وحيد بوسعه أن يجعل الإنسانية ممكنة في المستقبل. بحيث لم يعد الفكر يشتغل على أسئلة ميتافيزيقية خاصّة بحقيقة الأشياء وبأصولها الأولى، بل ولدت أسئلة جديدة حول الحياة والطاقة والسرعة والصيرورات والمسارات.. وإنّ الفنّ الحيوي، إنّما ينخرط إذن ضمن التفكير بهذه الأسئلة الجديدة حول المسارات الممكنة لإعادة تشكيل الإنساني في ضوء الاكتشافات الجديدة الحاصلة في علم الوراثة، والتي جعلت من الجينوم البشري ورشة بحث مثيرة لا تنفكّ تزعزع كل يوم معارفنا حول أنفسنا، وتسخر من أوهامنا اللاهوتية التي جعلتنا نعتقد أنّنا أفضل الكائنات على الأرض، في حين أنّنا نشترك مع بقية الكائنات الحيّة في قسم كبير من إرثنا الجينيّ. وعليه ربّما لم يعد بوسعنا الاعتقاد في كوننا بشر بمعنى السموّ عن الكائنات الحية، نحن فقط أحياء وهذا وحده يكفي من أجل الدفاع عن نوع جديد من الإنساني في عصر «ما بعد انساني». في هذا السياق يكتب الفنّان البرازيلي الأصل ادواردو كاك (Edouardo Kac) وهو أحد أقطاب الفنّ الحيويّ ما يلي: «إنّني اليوم وضمن ما نسمّيه بالفنّ العابر للجينات، إنّما اتّجه نحو تعبيرة ثقافيّة جديدة.. لقد أثّرت فينا التكنولوجيات الحيويّة عميقا.. إنّنا حينما نعلم أنّنا نتقاسم مع الكائنات الحيّة الأخرى قسما كبيرا من إرثنا الجينيّ، فإنّ ذلك لا يمكنه إلاّ أن يثير فينا تساؤلات عديدة حول هويّتنا كبشر». سؤال أخلاقية الفن بهذا القول يوقّع ادواردو كاك ممارسة فنّية معاصرة تجد في الكائن الحيّ حقلها الخاصّ، بحيث يتعلّق الأمر بالتأثير مباشرة على الحياة في المعنى الدقيق للتحكّم الجيني بها. من ذلك، مثلا، أن يزرع فنّان ما أذناً هي نتاج خلايا محوّلة جينيّا على يده، أو أن تحقن فنّانة ما نفسها بعيّنة من الحمّض النووي لحصان، أو أن يقع زرع نبتة الهندي البريّ في مكان ما من صحراء المكسيك بعد تحويلها جينيّا بحيث تنبت شعرا فوق أوراقها بدلاً من الشوك، أو أن يقع تصميم دمى انطلاقا من خلايا بشرية. وفي هذا المعنى يعتبر الفنّ الحيوي نوعا من التجريب الفنّي على الحدود بين الإنساني والحيواني والنباتي والآلي أو الروبوتيّ نفسه على نحو لن تكون فيه تلك الحدود واضحة أو ممكنة. وعليه لن يكون ممكناً القول مع هذا الفنّ بمقولة السموّ الميتافيزيقي واللاهوتي بين الإنسان وبقية الكائنات الحية الأخرى، بل ربّما لن يكون التفكير في مفهوم الإنسان في لغة الفنّ العابر للجينات غير استعارة تقليدية مثيرة للسخرية. ولعلّ من أهمّ الأمثلة التي أثارت جدلا حول منزلة الفنّ الحيويّ ومدى احترامه للقواعد الإتيقية الخاصة بالكائنات الحيّة هو مثال الأرنبة «ألبا» (alba) التي عرض صورها الفنّان البرازيلي- الأميركي ادواردو كاك الذي يستعمل الخلايا الحيّة من أجل تصميم كائنات فنّية هجينة. والأرنبة «ألبا» هي مخلوق هجين وقع تصميمه جينيّا في أحد المخابر البيولوجية في فرنسا (سنة 2000) انطلاقا من تحكّم جينيّ من خلال اضافة بروتيين أخضر مشعّ مأخوذ من أحد قناديل البحر إلى جنين أرنبة. ولقد أثار عرض هذه الأرنبة بوصفها أثرا فنّيا اعتراضات واحتجاجات من طبيعة إتيقية من طرف جمعيات للدفاع عن حقوق الحيوان، أدّت إلى طرح أسئلة جديدة حول الحدود بين الفنّ والعلم، حول هويّة هذا الكائن المحوّل جينيّاً، وحول حدود العلم إزاء الحقوق الإيكولوجية للكائنات الحيّة. من أهمّ هذه الأسئلة: ما هي هويّة الأرنبة «ألبا»؟ هل هي أرنبة أم قنديل بحريّ؟ هل هي كائن من أجل الحياة أم من أجل الفنّ؟ أو هي مجرّد حقل اختبار من أجل العلم؟. إنّ طرح هذه الأسئلة، إنّما يمثّل مقصد الفنّ الحيوي نفسه الذي لا يهمّه العمل الفنّي في حدّ ذاته بل المسار المفهومي والإشكالي الذي يثيره. وهو ما أعلن عنه الفنّان ادواردو كاك نفسه الذي يعتبر أنّ الأرنبة ألبا ليست مجرّد حيوان استثنائي خيالي فقط بل هي «حدث اجتماعي معقّد» ُصمّم من أجل زعزعة مفاهمينا التقليدية حول أنفسنا وحول علاقتنا بالحياة. فنحن مدعوون إلى وضع مسألة سموّ الحمّض النووي في خلق الكائن الحيّ موضع سؤال من أجل تصوّر أكثر تعقيدا يجمع بين التركيبة الجينية والكائن العضوي والوسط البيئي معاً. وذلك من أجل توسيع دائرة مقولات التنوّع الحيويّ والتواصل بين الأجناس، إضافة إلى ضرورة احترام الكائنات الحية التي يقع تبديلها جينيّا. إنّ الفنّ الحيوي يراهن في كل ذلك على ضرورة تجاوز الحدود المفهومية والشكلية للفنّ نفسه من أجل الدفع بالفنّ إلى خلق الكائن الحيّ نفسه. وهو ما يجسّده عمل ادواردو كاك «بيتونيا» (pétunia) وهي كائن حيّ بين النبات والإنسان تحمل اسم «نبات - حيوان» (plantanimal)، وهي تحمل الحمّض النووي للفنّان إدواردو كاك وتجري في عروقها «دمائه». إنّ الحياة ليست اذن ملك للعلماء فقط، ولا هي أمر حكر على سياسات الدول توزّعها كيفما شاءت على من تريد وتفتكّها لمن لا يناسب مصالحها، بل الحياة ظاهرة فنّية أيضا. وهو ما صرّح به أحد روّاد الفنّ الحيويّ قائلا: «لقد تخطّينا مرحلة خارقة للعادة في تاريخ كوكب الأرض: لقد صرنا نحن البشر قادرين على برمجة الحياة في مخبر ما وفي وقت محدّد». ممارسات وغايات انتشر هذا النوع من الفنّ في شكل ممارسات فنّية مختلفة اتّخذت من فنّ التنصيبات التفاعلية على الأنترنت، ومن فنّ الآداء، ومن تحويل الفنّانين أجسادهم الخاصّة للاستثمار الفنّي، ضروبا من التجريب الفنّي. فهذا الفنّان الاسترالي ستيلارك (Stelarc) يزرع أذناً هي نتاج تحكّم جيني في الخلايا على يده (2008)، وهذه الفنّانة الفرنسية ماريون لافات جينتات (Marion Laval jeantet) تحقن جسدها بحمض نووي لحصان من أجل الاشتغال على شكل من الهجانة بين الإنسان والحيوان، (2011)، في حين تزرع الفنّانة لورا سنتي (Laura Centi) نبتة الهندي البرّي بمكان ما في صحراء المكسيك من أجل أن تزهر النبتة شعرا بدلاً من الشوك.. وأخيرا تصل أعمال الفنّان الهولندي أرنو هندريك (Arne Hendriks) إلى الحديث عن ضرورة التفكير بالتقليص من قامة البشر من أجل غايات إيكولوجية. قد يبدو هذا النوع من الممارسات الفنية لبعضهم ضرباً من الجنون أو من التهريج الاستطيقي الذي يهدف إلى استفزاز المتفرّجين أو خلق ضرب من البروباغندا الجمالية الهجينة لأيديولوجيا التقدّم أو نوعاً من الابتذال للتشويهات الجينية، غير أنّ الأمر أعمق من ذلك بكثير. ذلك أنّ الرهان العميق من وراء هذا الفنّ إنّما هو كما عبّر عنه بعض روّاده «خلق تفكير إيكولوجي وإتيقي حقيقي وأصيل حول السؤال التالي: أيّ نوع من التكنولوجيا الحيويّة بوسعه أن يكون أكثر مسؤولية على البيئة.. وإلى أيّ حدّ يمكننا مراقبة الطبيعة والتحكّم بها؟». من أجل ذلك يتجرّأ الفنّ الحيوي على الدخول إلى مخابر العلماء من أجل الكشف عمّا يهيّئونه لمستقبل البشر، عبر تكنولوجيات التحكّم الجيني الذي بوسعه أن يذهب أبعد من مجرّد التقنيات الطبيّة إلى خلق كائنات هجينة قد تؤثّث العالم مستقبلا بشعوب من المسوخ مثلما تستبق ذلك بعض التخييلات السينمائية الهوليودية (فيلم أفاتار أو سلسلة ترميناتور). خلاصة القول إنّ الفنّ الحيويّ في عمقه يهدف إلى الكشف عمّا يحدث في مخابر العلماء وعمّا تخفيه أسرار التكنولوجيا الحيوية التي تستحوذ كل يوم على مساحة الحياة الممكنة بيننا من الجينوم إلى أطباق الأكل.. ومن زرع الأعضاء إلى طبّ التجميل.. ومن التجريب على البكتيريا إلى الحرب البيولوجية... وهو يدفعنا بما ينجزه من أعمال فنّية على قدر من الغرابة والهجانة إلى أمر أساسيّ: ألاّ ندع مساحة الحياة بأيادي السياسات التي تتحكّم بالتكنولوجيا الحيوية التي قد تتحوّل إلى سلاح بيولوجي ضدّ البشر وضدّ الطبيعة التي يترعرعون بين أحضانها. الفنان حارس الكينونة يبدو أنّ للفنّان منزلته الخاصّة في هذا السياق بما هو لم يعد يقتصر على اختراع الجمال أو تهذيب الأذواق، إنّما بوصفه قد صار يساهم في تشكيل الحياة أيضا على نحو مغاير في أفق نوع من النضال الإيكولوجي من أجل الدفاع عن مستقبل الحياة على الأرض. وربّما لا يزال بوسعنا القول بعد هيدغر إنّ الفنّان هو حارس الكينونة، يمنحها المعنى ويخترع لها الطريق نحو الحقيقة، لكن على نحو مغاير تماما لأنطولوجيا الديزاين. وذلك إنّما يتمّ اليوم بشكل دقيق ضمن الممارسات الفنّية التي تجد تعبيراتها الخاصّة فيما يسمى منذ تسعينيات القرن الماضي بالفنّ الحيوي أو» البيو- آرت» (Bio-Art).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©