السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

راشد بن طناف.. شاعر المأساة والملهاة

راشد بن طناف.. شاعر المأساة والملهاة
18 ابريل 2020 00:08

إبراهيم الملا

«آه يا من قلبه تشقّا
وانتصف آزم جسيمينا
لا صديج ولا رفيق ألقا
يفعل المعروف والزينا
في حشايه علته ترقا
عايت بكل المداوينا
بات دمعي هاطل بهرقا
في الدجى طَلْع الميازينا»

تفتح هذه القصيدة ذات الإيقاع التراجيدي المفعم بالشجن، مساراً قد يبدو مستغرباً في طرائق التعبير المعروفة للشاعر راشد بن طناف «1910 - 1999»، الذي اشتهر بقصائده التي يمكن توصيفها بالملهاة الشعبية المنحازة للمفارقة المشهدية والإيحاءات الساخرة، والتي انتشرت من خلال شاشة التلفاز، كأبرز وسيلة للتواصل الاجتماعي في حقبتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وذلك بعد الوسيلة التواصلية التالية لها وهي الإذاعة.

نلاحظ في قصيدة: «آه يا من قلبه تشقّا» وجود خيط مأساوي متصل بقصائد الوداعات والانكسارات التي ظلت بعيدة عن التداول الإعلامي، في ما يخص شعر ابن طناف بالتحديد، إضافة لقصائد أخرى كثيرة تحتوي الحكمة والتأمل واستحضار حالات الوحدة والعزلة التي عاشها ابن طناف، واكتوى بنارها، وعانى من حرّ لهيبها، دون أن يعرف بذلك الكثيرون من المعجبين بجرعة الكوميديا العالية في شعره الموثّق سمعياً وبصرياً، ففي هذه النوعية الطاغية والذائعة الصيت من شعره السلس والمنساب والمتوائم مع الذائقة الجمعية، لم يكن هناك مجال للبحث والتنقيب في الأغراض الشعرية الأخرى التي تناولها ابن طناف، وظلت حبيسة الدواوين الشعرية الثلاثة التي حفظت نتاجه الخارج عن نطاق الفكاهة من الضياع والنسيان، وهذه الدواوين، هي: «صدى الونة» الذي جمعه وأعده كل من الشاعرين: ناصر النعيمي، وسعود الدوسري، والصادر عن النادي الثقافي الوطني بعجمان، أما الديوان الثاني فحمل عنوان: «أهواك» أعده ناصر النعيمي أيضاً، وديوان ثالث بعنوان: «ديوان طنّاف» جمع وإعداد الشاعر والباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي.
راشد بن طناف بن فايز بن سعيد الكعبي ولد في منطقة الذيد، التابعة لإمارة الشارقة، عام 1910، واعتنى به جده لوالدته سعيد الصوّاية النعيمي حتى سن السابعة، ثم انتقل بعدها إلى مدينة الشارقة، ولعل ما رآه ابن طنّاف في طفولته من مساحات مفتوحة على المزارع وعلى الصحراء المحيطة بها، ساهم في تأسيس شخصيته الممتلئة بالحيوية والخيال الخصب واكتساب المفردات الأصيلة، ذات الخصوصية المكانية، والتي أعانته لاحقاً في كتابة قصائد تمزج بين اللهجة الداخلية لأهل الصحراء، وبين لهجة أهل البحر المستوعبة لثقافات متعددة ولغات وافدة، بحكم تواصل سكان المدن القريبة من الساحل مع جنسيات مختلفة تمتهن التجارة والحرف اليدوية، إضافة لوجود الإنجليز، بشكل مكثف، في الشارقة في تلك الفترة، والذين أنشأوا أول مطار في منطقة الخليج، وأقاموا المحطة التابعة لهم قرب المطار، حيث تداخلت الكلمات والمصطلحات الإنجليزية مع اللهجة اليومية المتداولة للسكان المحليين، وصارت جزءاً من نسيج المنطوق الشعبي، وهي ذات الكلمات والمصطلحات التي استعان بها الشعراء، ومن ضمنهم ابن طناف، لتضمينها في قصائدهم، حيث لم تكن هناك كلمات بديلة، أو ترجمة مناسبة لما كان يتداوله الإنجليز في تلك الفترة، خصوصاً ما يتعلق بالعربات والآليات والأجهزة والمصطلحات العسكرية التي سادت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها.
وتروي السيرة الحياتية لراشد بن طنّاف إنه عندما انتقل لمدينة الشارقة، حفظ القرآن الكريم قبل أن يتعلم القراءة والكتابة لاحقاً في الكتاتيب، وتتلمذ بعدها على يد الشاعر والخطّاط والمعلّم أحمد بن عبدالرحمن بو سنيده، وفي السابعة عشرة من عمره انخرط ابن طنّاف في مهنة الغوص مدة ثلاثين عاماً، وهي المهنة التي زاولها معظم الشعراء الروّاد في الإمارات، وكان لها تأثيرها الواضح في تألقهم الشعري، بسبب اكتسابهم للخبرة الذاتية في مواجهة المحن والمصاعب والتحديات، كما أن حياة الغاصة والبحارة انطوت على الكثير من المشاهد والحوادث والتحولات المثيرة حسّياً وبصرياً ووجدانياً، الأمر الذي انعكس بشكل إيجابي على نوعية القصيد الذي أنتجه ابن طناف لاحقاً، وكانت سبباً في شهرته وتميّزه واستقلالية نظرته للواقع المحيط به، وكيفية تعامله مع التقلبات الحزينة في حياته، حيث تزوج أربع مرات، ولم يوفق في زيجتيه الأوليين، وتوفيت زوجته الثالثة ووليدها أثناء الوضع، واستمرت زيجته الرابعة لخمسة وعشرين عاماً، قبل أن تتوفى زوجته أثناء أدائها شعائر الحج عام 1975م، وهذه الحادثة بالذات أثّرت بشكل عميق في نفسية شاعرنا، وجعلته منطوياً على ذاته ومسكوناً بالمرارات والمواجع لفترة طويلة من حياته، قبل أن يتعافى من هذا الألم المديد ويعود إلى طبيعته المعروفة عنه، وعن هذه الحادثة القاسية، المتمثلة في رحيل زوجته الأخيرة، يقول ابن طناف شعراً يرد فيه:
«يوم أذكره سوّت إدموعي مزاريب /‏‏‏ وآنست في قلبي لهيب وحراره
أذكر منه حسن الملاماه والطيب /‏‏‏ والبيت موحشٍ بي وزايد غباره»

إنها المأساة التي يتشكل فيها وعي مختلف تجاه الحياة وتبدلاتها من النقيض إلى النقيض، فالبيت أصبح موحشاً ومهملاً وفارغاً، تماماً مثل قلبه الذي غدا خاوياً إلاّ من لهيب الذكرى وحرقة الدمع وهجمة البلوى بعنفها الضاري وملابساتها المروّعة، ما دفعه في النهاية إلى المناورة الشعرية والدخول في حالة إبداعية مغايرة، ومزاج تعويضي صاخب يغطي به على صوت الأنين القديم والمنغرس في دواخله، فوجد ضالته في الشعر الاجتماعي النقدي، وفي القصيد الغزلي الفكاهي، وفي بعض القصائد الوطنية المتماسة مع القضايا العربية الكبرى، وكان لحضوره ومشاركاته في الأمسيات الشعرية والبرامج واللقاءات التلفزيونية والإذاعية، وقع خاص ونكهة مختلفة، مقارنة بمجاييله من الشعراء، ومن قصائده الفكاهية الشهيرة تلك التي يقول:
لي من عنيت وييتك تونّ
وإن سرت ترقص جنّك حصان
حبك كمنجه في الحشا يرنّ
ويحرك أوتاري والأشجان
يا وليّفي يا صغيّر السنّ
غيّر مزاجك دوم زعلان
أخضر حمر جنّك من الأرمنّ
ويّاك بتشتت ف- لبنان

كاريزما وجاذبية
ساهم في انتشار قصائد راشد بن طناف «1910 - 1999»، أسلوبه الأدائي ذو الطابع الفكاهي الممتع واللاذع، والذي عبّر عنه ابن طناف بتنويعات صوتية وجسدية غلبت عليها السمة العفوية غير المتكلّفة، وأسبغت عليه هالة من الكاريزما والجاذبية المحبّبة لدى قطاع كبير من المتابعين لشعره، خصوصاً أنه شعر يتضمّن أبعاداً متضادة ومتجانسة في آنٍ واحد.
وكان ابن طنّاف يدير دفة البوح الذاتي حيثما شاء وأينما شاء، معتمداً على الارتجال، والتكرار، وكسر القواعد المتعلقة بالقوافي، مستعيناً بالتأثير الصوتي، واستنباط الصور العجيبة والاستعارات الغريبة، صانعاً فضاءً مسرحياً خاصاً به، ومبتكراً مناخاً تفاعلياً وحيوياً بينه وبين المتلقي، مستثمراً قصائده المثيرة للجدل في الأمسيات الشعرية الحيّة، وفي برامج الشعر الشعبي، كيْ يشيع جوّاً درامياً من البهجة والتشويق والترقّب، مانحاً مستمعيه نظرة واضحة وكاشفة لما يختزنه من صور وتراكيب شعرية لافتة وغير اعتيادية.

مفردات خاصة
كان لحضور «الأنا» في شعر ابن طنّاف مبررات كثير، أهمها اعتداده بنفسه وثقته بموهبته الشعرية، التي جعلته يبتكر مفردات تخصه، وعبارات التصقت بمعجمه الشعري، وصارت جزءاً منتمياً بقوه لأسلوبه المتفرّد، والذي رغم ميله للبساطة أحياناً، فإنه أسلوب يتضمن صعوبة أيضاً في تبسيط ما هو معقّد وإشكالي من قضايا ومواضيع، سواءً كانت هذه المواضيع اجتماعية عامة، أو شخصية محضة، أو غزلية جامحة تقفز فوق حاجز الشعر المحافظ المائل للرمز والتورية، بينما كان ابن طنّاف هو الأكثر جرأة وتمرداً وعنفواناً عندما يتعلق الأمر بوصف المحبوب والمباهاة به، وبمزاياه وخصاله، وفي ذلك يقول ابن طنّاف:

فيك الجمال وحسن جتّال
سبحان لي صوّرك وأنشاك
أرميتني من أوّل الفال
صوّبتني بألحاظ عيناك
يا غيد يا وحشي يا يفّال
ما في الغواني حدّ شرواك
يا بو حواجب تشبه «الدال»
يا ما حلا صفّة ثناياك
شارك راشد بن طناف في جلسات شعرية حافلة جمعته مع العديد من شعراء الجيل الذهبي، والذين امتلكوا الحضور الإعلامي الواسع في تلك الفترة، أمثال: راشد الخضر، وأحمد الهاملي، سالم الجمري، وربيّع بن ياقوت، ومحمد بن سوقات، وحمد بن علي الكوس، وياقوت بن سيف، خصوصاً في برنامج: «مجلس شعراء القبائل»، الذي كان يقدمه الشاعر حمد خليفة بوشهاب.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©