الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

غزارة الصمت

غزارة الصمت
4 ابريل 2019 01:00

ليس من السهل على الكثير من المخرجين الكبار أصحاب الأفلام الطويلة تقديم إبداع مماثل في قالب الفيلم الروائي (القصير)، أو الفيلم الدرامي الذي لا يتجاوز 40 دقيقة ـ حسب تعريف أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة الأميركية ـ حيث يقدم الفيلم القصير حكايته في سرد مكثف، يناسب قماشة الفيلم الزمنية، والأهم أن تتحمل طبيعة فكرته هذه المدة، فأنت تشاهد الفيلم القصير، كأنه كبسولة سينمائية مركزة يسري مضمونها الإنساني والإيحائي لقلب ووعي المشاهد في دقائق معدودة، دون تكلف.

أغلب المخرجين في العالم خاضوا تجربة الفيلم القصير في بداية مسيرتهم المهنية، ثم يهملونه، عادةً، بعد رسوخهم في مجال الفيلم الطويل الذي تتجه إليه الأضواء والجماهيرية الساحقة، وإن ظل الفيلم القصير Le court métrage أقوى تأثيراً من بعض أفلامهم الطويلة، فمثلاً: الفيلم القصير «المهاجر» (1917) لتشارلي تشابلن، يعد عند الغالبية أكثر إمتاعاً من فيلمه الطويل الأخير «كونتيسة من هونج كونج» (1967)، رغم فارق الإمكانيات الهائل..
ومن أهم المخرجين الذين تعاملوا بجدية مع الفيلم الدرامي القصير في إطار قالبه الفني وشروطه الجمالية، بعد تفوّقهم في إخراج الأعمال الطويلة نتذكر: رينوار، جودار، كوبولا، سين ايليس، المودوفار، سكورسيزي، عباس كياروستامي، شادي عبد السلام، يوسف شاهين...

تجربة هندية
وغالباً تتمحور رسالة الفيلم القصير تبعاً للتوجهات التربوية أو السياسية التي تخص المؤسسات صاحبة التمويل، وقد يفلت بعض المخرجين من الشكل النمطي الدعائي، فيقدموا فيلماً فنياً على مستوى أعمالهم الطويلة، أو أفضل، مثلما نجح المخرج الهندي والرمز الثقافي في البنغال ساتيا جيت راي (1921- 1992)، صاحب الستة والثلاثين فيلماً، وهو من قال عنه المخرج الياباني الأشهر أكيرا كيروساوا: «من عاش الحياة دون أن يرى أفلام ساتيا جيت راي، فكأنما عاش دون أن يرى الشمس والقمر».
ولسنا هنا بصدد التبحر في عالم المخرج والكاتب والموسيقار ساتيا جيت راي الذي سالت له بغزارة مداد الأقلام على آلاف الصفحات النقدية، تحلل جوانب إبداعه، لكننا سنتوقف عند فيلمه القصير «اثنان» Two (1)، الذي لم ينل القدر الكافي من المتابعة النقدية، خاصة في منطقتنا العربية، والفيلم إنتاج 1964، بتمويل من شركة (إسو) الأميركية للبترول، التي أرادت أن تقوم بعرض ثقافات متباينة في العالم، لتعريفها للمشاهد على شاشة التلفزيون، لكنها طلبت أن يكون الحوار بالإنجليزية، لتصل رسالة العمل مفهومة لكل العالم، وهو ما لم يعجب المخرج ربيب الثقافة البنغالية، وابن العائلة العريقة المعروفة بإبداعها الأدبي والموسيقي في مدينة (كلكتا)، فلاحت له فكرة جيدة تحل هذا الإشكال، وهو أن يقدم فيلماً قصيراً دون أي كلمة حوار. وقد قامت أكاديمية السينما للصور المتحركة الأميركية بحفظ الفيلم، وإعادة ترميمه، بعدما كرّمت المخرج سنة 1992. والفيلم بإيجاز عن طفل غني يُفسد على طفل فقير ألعابه في مبارزة صامته بعيدة عبر الشباك، وعندما يظن الطفل أنه قد انتصر بألعابه التدميرية والزاعقة على بهجة الطفل الفقير، يفاجئه الفقير بإصراره على اللعب، وتمسكه بحقه في بهجة الحياة، دون انكسار، لكن روعة الفيلم ليست في سطر الحكاية، لكن في كيف حكى الفنان هذه الحكاية، عبر 12 دقيقة فقط.

عالم طبقي
لقطة عامة جداً لسيارة فاخرة تغادر بوابة قصر مهيب، والطفل من الشرفة يلقي بالتحية على أصحاب السيارة، فنفهم أنه يودع والديه. وبالتكوين الكلاسيكي، وأسلوبه الواقعي الذي اعتاد عليه المخرج، لاسيما في هذه الفترة، يُعبر بالزاوية السُفلية عن أهمية الطفل، ويقترب بالكاميرا من وجهه ويكشف عن ملامحه بوجهه المكتنز، فتتابعه الكاميرا أفقياً على (شاريوه) وهو يدخل القصر حاملاً زجاجة المشروب الغازي، ولابساً قبعة على شكل (ميكي ماوس)، في تعبير لافت بالملابس والاكسسوارات عن طبيعة الشخصية وثقافتها. ثم لايجد الطفل ما يفعله، فنجده يشغل فراغه الممل، بفرقعة بالونتين دون داع، فيعطينا السيناريو لمحة عن نزعته التدميرية.
ومع نفس الإضاءة العكسية النهارية المنتشرة والناعمة bounce lighting، التي توحي بواقعية نور النهار العادي ودرجاته، بعيداً عن الجماليات الضوئية المفتعلة، وباستعمال مبتكر ـ في حينها ـ بالقماش الأبيض، مع بقية العواكس العادية، تواصل الكاميرا رصد حركة الطفل في صمت ثقيل، لتجسيد الجو النفسي للحظات الطفل الخاصة لوحده، مثلما كان المزاج البصري والسمعي في تقديمه لشخصية الزوجة التي تشعر بالضجر والوحدة في فيلمه الطويل الناجح «الزوجة الوحيدة»، في نفس العام، فيدخل الولد غرفة أخرى فسيحة، ليشغل وقته بوضع مكعب جديد أعلى مكعبات عمودية فوق بعضها، لكن يفشل في تكملة البناء، مما يشي بسيكلوجية الطفل التي لا تحفزه على البناء، فهو لا يجيد سوى الهدم، كما سيؤكد الفيلم بعدها.
ثم يقطع الصمت الجاثم في جو القصر، صوت نغمات ناي خافت يأتي من شباك الغرفة العالي، ومن وجهة نظر الولد الغني يرى طفلاً فقيراً يعزف على آلته المتواضعة بجوار كوخه الصغير، وسط الحشائش في فضاء فسيح، تحت شباك القصر. هنا عمد المخرج إلى إبراز النظام الطبقي الحاد، إحدى مشكلات بلاده الكبيرة، وفي لقطة عامة واحدة يجمع التكوين بين الاثنين، ويكشف عن البون الشاسع للطفل على الأرض، بملابسه البائسة وجسده الهزيل، أمام واجهة القصر الشاهقة، ثم تظهر مرة أخرى تدريجياً مظاهر العدوانية للولد الغني الذي يجري لالتقاط إحدى ألعابه البلاستيكية (آلة تروميبت) بصوت مصطنع مزعج، لينفخ فيها مطلقاً أصواتاً تغطي على أصوات ناي الفقير، فتسكت النغمات الفَرِحْة في وجدان الطفل المسكين، ويُولى ظهره للشباك العالي فوقه، داخلا الكوخ، وقد بدا عليه الانهزام أمام سطوة ابن القصر.

ذروة المبارزة
تعود مرة أخرى اللعبة المتوترة، وتتصاعد المبارزة بين الاثنين وهي ثيمة المخرج المفضلة في الكثير من أعماله اللاحقة. إذ يبدي الفقير غضبته، ما دفعه للدفاع عن نفسه، مرتدياً قناع الهنود الحمر تصاحبه موسيقى منتقاة، تؤكد هوية الشخصية، مع قوس وسهم خشبي من العصور السحيقة، فيهب الولد الغني بدوره في غيظ، مستعرضا أسلحته، بقبعة الكاوبوي الأميركي المغتصب، ومصوباً مسدسه نحو قناع الفقير الهندي، فكأن المخرج يعيدنا لمأساة توحش رعاة البقر الأميركيين، وقتلهم للهنود الحمر في أراضيهم، واحتلالها.
وبلقطات سريعة (فوتومونتاج) تدفع بإيقاع العمل لذروته، يشهر الغني مدفعه الرشاش (اللعبة)، مصدراً نفس صوت السلاح المدمر، كأحدث أسلحة الحرب الحديثة وقتها والتي استعملها الأميركان في حروبهم الظالمة ضد فيتنام التي كانت من هموم المخرج ورفضه لها في وقت تصوير الفيلم، فأراد ببساطة أن يدينها في هيئة الولد المتأمرك المعتدي.، ولا يتوقف الأمر بعدها عند هذا الحد، حيث يرى من الشباك طائرة صغيرة، يطيرها الولد الفقير، فينقلب سلوك الطفل الغني من عدوان سلبي إلى عدوان مباشر، فيطلق من بندقية صيد حقيقية رصاصة، يمزق بها طائرة الفقير، فيُعبر الفيلم عن ألم الفقير ولعبته التالفة، بوضع مساحة صمت، مصحوبة بحركة زووم تنقض على وجهه المتألم، ويتبادل الطفلان النظرات التي تنطق بالحوار النفسي المرئي عبر ملامح كليهما، بين المهزوم والمنتصر، فندرك هنا أن الاثنين لا يمثلان طفلاً غنياً مقابل طفل فقير، بل يرمزان إلى عالمين متناقضين، عالم الحق المهزوم وعالم الباطل المنتصر، عالم الإنسان في كونه إنسانا بفطرته، يقابله شبه إنسان حولته شرور الحضارة الحديثة إلى كائن مدمر، يجد اللذة في ابتلاع فرحة الآخر، بمثل ما ينهي شرب زجاجته الغازية، أو ينهش تفاحته دون أن يشبع!
وقد أجاد المخرج في اختيار الطفل في دور الولد الغني، لطبيعة وملامح الشخصية الفيزيائية، وهو بالطبع متمرس باقتدار في توجيه الممثلين الأطفال منذ أول أفلامه الطويلة.

تأويلات النهاية
تبث نهاية الفيلم فينا الفكر والتأمل، عندما يظن الولد أنه أنهى على إرادة الفقير في العودة للعب، لكنه يسمع من جديد صوت الناي بنفس النغمات التي سمعها في بداية تعرفه عليه، هنا يجمع المخرج بين أكثر من خط درامي، كأنما يصمم لحناً بوليفونياً، دون حذلقة أو تشويش لرسالة الفيلم ونوعيته، فالولد يُحرك لعبته (الرجل الآلي– الروبوت)، قبل أن ينتبه لرنين نغمات الفقير، وعندها تبدو عليه ملامح الهزيمة.
والبديع أن المخرج الكبير لم يجعلنا نرى الفقير، لكنه جعل المعنى منساباً أكثر عمقاً، يحمل الكثير من المجاز في المضمون، من خلال سماعنا للموسيقى، مع لقطة ثابتة للشباك من وجهة نظر الولد الغني المصدوم، يرى أمامه الفضاء الخارجي مع حركة الهواء، ويملأ الأثير نغمات الفقير دون توقف، أو خوف، في حين يبدو الشباك بأعمدته الحديدية المصفوفة عمودياً، كأنه هو المسجون داخل قصره، والفقير يملك حرية المكان، والأهم حرية الإرادة، وروح الحياة، ومن الدراسات المتخصصة في الطفولة نعلم أن سلوك الطفل العدواني يجعله بطبيعته متمركزا حول ذاته، فالولد الغني في تنشئته المشوهة هو أسير نزعته العدوانية، حتى لعبته (الرجل الآلي) نجدها قد تحركت، حتى دمرت له لعبة المكعبات في لمحة بليغة، في حين يعطي الولد ظهره للشباك وللكاميرا في (لقطة عامة جداً)، فهو لا يقدر على مواجهة هذه الروح الحرة، بعدما استنفد طرائقه العدوانية في وأدها... ويتضاءل جسده في منتصف التكوين الذي يتقاطع داخل إطاره العديد من القواطع والخطوط، وفي العمق مسافة طويلة في شكل الممر المستطيل بإضاءة رمادية نوعا ما، وببعد بؤري عميق باستخدام عدسة واسعة.
وقد جعل المخرج بمهارة الشخصيتين تقودانا بسلوكها وردود أفعالها، لطرح الفكرة، ودراما المفارقة بتعدد مستوياتها، دون أن يفرض أفكاره من خارج الشخصية والسياق السردي. وما يهم ساتيا جيت راي أولاً ـ كما يصرح كثيراً ـ هو الكشف عن الإنسان وقيمه، في نفوس شخصياته، في كل أفلامه، لذا نرى أن في هذا الفيلم تعتبر قيمة الحرية الكامنة في طيات الشخصية، هي مبتغى البحث الفيلمي، والتلميح إليها، فالفقير هنا غني بحريته، والعبرة ليست بالغني والفقير مادياً، لكن بمن يفتقر إلى حريته الذاتية، ويصبح سجين ذاته الضيقة، حيث يظل الحر قادراً على المقاومة دون كلل، والتقدم في ثقة، لأن في داخله مددا من الروح، وقيما من عالم السماء، يجسده الفنان بخلفيته الروحانية ـ على نحو ما ـ من تأثير الأفكار الوجدانية لأستاذه العظيم الأديب طاغور، ومعتمداً على عنصر في علم الجمال الهندي، وهي الراسا Rasa التي تعرف بأنها التفاعلات الداخلية في شخصيات العمل الفني (2).
ولقطة النهاية الرائعة للشباك ـ على بساطتها ـ تنبهنا أن من التعسف الجزم بصحة هذا التفسير، أو غيره، لمكنون العمل، فالعمل الفني من العسير سبر كل أغواره بالعقل والمنطق، لكن لابد أن يستشعره الوجدان بالمشاهدة، لا بالحْكي عنه، ومن الظلم والإفساد أن نكشف عما اعتمل فينا بعد رؤية الفيلم بألفاظ صماء، مما يجعلنا في الحقيقة نتذكر قول الإمام الشافعي عندما سُئل عن مسألة، فأجاب: إني لأجد بيانها في قلبي، لكن لا ينطلقُ به لساني.

رسّام السينما
ساتيا جيت راي (2 مايو 1921 - 23 أبريل 1992) هو مخرج هندي من القومية البنغالية، يُعتبر من بين أشهر المخرجين السينمائيين الهنود داخل الهند وخارجها حيث اكتشفه العالم من خلال أفلام كبيرة منها «أغنية الطريق» و«عدو الشعب» و«صالون الموسيقى» وفيلمه الأخير «الزائر».
جد المخرج «أوبندكريشار راي تشودري» كان كاتباً ورساماً وفيلسوفاً وناشراً وعالم فلك. فضلاً عن أنه كان الزعيم الديني لتيار «براهمو ساماج». كان والده «سوكومار راي» (ابن أوبيندراكيشور)، شاعراً وقاصاً معروفاً له قصائد فكاهية مشهورة باللغة البنغالية. وكان في العائلة أيضا رسامون ونقاد.
درس «راي» الاقتصاد في «كلية الرئاسة» في كلكتا، ولكن اهتمامه ظل دائماً هو الفنون الجميلة. في عام 1940، أصرت والدته على أن يكمل دراسته في «جامعة بهاراتيا» الحكومية التي أنشأها غوروديف رابيندراناث طاغور عام 1921. أحب «راي» بيئة كلكتا البسيطة، ولم يكن متحمساً لعالم «شانتينيكيتان» الفكري الراقي. بسبب إصرار والدته واحترامه لطاغور، قرر أخيراً الذهاب إلى بلدة «شانتينيكيتان» (160 كم شمال كلكتا) حيث الجامعة المسماة فيسفا-بهاراتي (التي تخرج منها أمارتيا سن وغيره). كانت الثقافة الفنية في «شانتينيكيتان» شرقية بحتة.
صمم «راي» أغلفة الكثير من الكتب المعروفة، منها غلاف نسخة الأطفال من الرواية البنغالية الشهيرة «أغاني على الطريق». كان «راي» معجباً جداً بهذه الرواية. حتى أنه قدم أول فيلم له مقتبساً من هذه الرواية. بالإضافة إلى تصميم غلاف الرواية، رسم أيضا الصور الداخلية لهذا الكتاب. العديد من هذه الصور أظهرها لاحقاً في مشاهد الفيلم.

..................................................
مصادر:
1 - Bhaskar Chattopadhyay with Two: A Film Fable.
2 - http:/‏/‏www.almadasupplements.net/‏news.php?action=view&id=8500#sthash.3M60h0XF.dpbs

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©