الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في الموسيقا خلاصنا

في الموسيقا خلاصنا
2 ابريل 2020 00:09

صرتُ على موعدٍ يوميٍّ، قُبيل الغروب، لأشارك في طقسٍ جماعيٍّ. أطلّ من شرفة بيتي لسماع النشيد الوطني الإيطاليّ، ولمتابعَة أغانٍ منبعثة من مكبِّر الصوت تثير الشجن والأمل، مثل روائع لوتشانو ليغابو «بِلا خوف.. ستدبِّر الأمرَ الحياة.. هكذا قالوا لي»، أو أهازيج أنطونيللو فنديتّي وهو يصدح مدوّياً «ما إن أُنهي الصعود كلّ مرّة.. حتى أستأنف المَسير مجدَّداً.. يا لِروْعةِ الحياة». في الأثناء غَدَت الراية الوطنية حاضرةً خفّاقة على شرفات المنازل، وهو سلوك نبيلٌ عادة ما يتنبّه إليه الناس عند الشدائد، وعند المباهج الكبرى. فكأنّ القومَ عبر انسجامهم الجماعيّ، بسماع الموسيقا، وتملّي الرايات الخفّاقة، يحتمون بتكاتفهم، بحثاً عن اتّقاء شرّ الجائحة التي أَلمّت بهم.
هذه الطاقة الإيجابية المتدفِّقة، في هذا الظرف الطارئ الذي تعيشه إيطاليا، هي ضرورية. وقد غيَّرَ الفيروس أنساقَ الحياة المعهودة، الموزَّعة سلفاً بين «الكابوتشينو» و«البيتزا» و«الجيلاطو»، وصار كلّ شيء يجري على إيقاع محاصَرة هذا الفيروس اللّعين المتربّص بالناس. حتى الكنائس أوصدت أبوابها وكفَّ كهنتها عن قرع النواقيس. وهو ما لا يعني أنّ أتباع المسيح ما عادوا يُناجون طلباً للنجاة من الشرّير أو درءاً لخوض التجربة، كما يردّدون في الصلاة الربّانية، ولكنّها الحيطة التي أجبرت الجميع على تغيير نمط الحياة تفادياً لِعدْوى محتمَلَة.
بتُّ وأُسرتي أتحرّكُ في أمتارٍ معدودةٍ داخل شقّتي، في عمارة معظم سكانها من الكهول والطاعنين في السنّ، وهي صورة عن إيطاليا الهرمة، حيث لا ضجيج في البناية إلا لولَدَيّ اللّذيْن بدأ يرهِقهما الحَجر الصحيّ، الذي لا يزيد على حصار قسريّ بالنسبة إليهما. أمست الشوارع مقفرة، ولا يرى الناس بعضهم البعض إلّا في الشرفات أو في طوابير المحال الغذائية تقريباً. في هذه الجوّ الثقيل تتعلّم إيطاليا على عجل، من هذه الكارثة التي حلّت بها، وبالمثل تُقدِّم درْساً على غاية من الأهمية والخطورة للنّاس قاطبة، فلا أحد في مأمنٍ من هذا الفيروس الزاحف. فقد جَعَلَنا هذا الخفيُّ المتربّص، منذ أن جثم على حياتنا، نعيش على إيقاعٍ جديدٍ، لا عهد لنا به، نَختبرُ فيه ذواتنا وقدراتنا، ونحاول في الآن، أن نمرّرَ ما نتعلّمه من مآسينا على جناح السرعة إلى الآخرين. وإن قيل إنّ العالمَ يتعلّم من حزْمِ إقيلم يوهان الصيني ومن تراخي إيطاليا في مقاومة هذا الوباء، فكلاهما درسٌ بليغٌ للجميع.
غَدوْنَا مثار شفقة ومصدر فجيعة لدى الآخرين، بعد أن باتت إيطاليا بلداً منكوباً حقّاً، بفعل كثرة ضحايا هذا الفيروس الخبيث. ومع ذلك، نحن في شفقةٍ على الآخرين، حتى لا يستهينوا بالأمر ويُعِدّوا العدّة ويأخذوا حذرهم. فما نكابده من تضييق على حياتنا، ومن التزامِ سلوكات لم نعهدها، وعوائد لم نأْلَفها، يشبه الدخول المباغت في حرب مفروضة. لا أقول أذعنت إيطاليا إلى قدَرِها، ولكنّ الفيروس باغتَ الجميع بمكْرٍ لم نتخيّله، وما لَنَا من حيلة سوى أن نتربّصَ به الدوائر في مختبرات البحث العلميّ، فهي ثكناتنا الصامدة لمجابهة هذا الداء الخبيث، وأن نقاوم بتغيير جذريّ في سلوكاتنا وعوائدنا. صحيح إيطاليا دولة منكوبة، ولكنّها دولة مقتدِرة أيضاً بنظامها الصحيّ، وموهوبة بباحثيها وعلمائها، ففي كل حيّ لديها مخْبَر، أو لنقل مَخَابر، تحلِّل وتختبر، وترصد وتقدّر، وذلك رصيد القوة الأكبر الذي تعوّل عليه عند الشدائد.

حولية الاحتضار
وجدتني هذه الأيام أعيد قراءة «حكاية الدّهان- حولية الاحتضار»، الرواية الفارقة لجيزوالدو بوفالينو، وقد ترجمها مشروع «كلمة» في بداية انطلاقته. تروي تلك الرواية قصّة وباء خبيث ومعاناة مرضى ومعافين، على حدّ سواء، مثلما نعيشه اليوم من ضيق. رواية تاريخية، هي أقرب للواقعية الجديدة، جرت أحداثها في منتصف القرن السابع عشر، تُعلِّم المرءَ الكثير في هذه الأيام العصيبة التي نمرّ بها. وكإيطاليّين، ندركُ أنَّ القدرَ قد اختارنا شهوداً وشهداء على وقائع صعبة يمرّ بها العالم، ربّما لكي يثبت من خلالنا أنّ بالإمكان دفع البلاء. وهو الأمر ذاته الذي يهمس به الكاتب بوفالينو في الرواية: «إنّ الموت حطّابٌ ولكنّ الغابة خالدة»، لمّا كانت المعاناة من الطاعون قد بلغت ذروتها في مملكة نابولي، ليحصد الموت في اليوم الواحد زهاء الألف من الأرواح. وكان الاعتقاد أنّ الدّهان أو الدهانين هم من يطلون الأبواب والجدران، فيصيب الناس ما يصيبهم من أذى، ثم تطورت الأمور إلى اعتقاد أنّ الجائحة جراء الكلاب والقطط، فبدأ التخلص منها بقتلها.
بالمؤكّد أنّ الفيروس الذي نعيش على وقعه الآن، سيضع كثيرين على حافة الهاوية، ما لم يتم التصدّي له بشكلٍ جماعيّ وناجع. وفي حال تأخّر إيجاد مصلٍ مضاد، سيكون التعويل الكبير على وعي الناس المدنيّ في التصدّي له، من خلال الحثّ على الالتزام الصارم بالتعاليم الصحيّة والقرارات التشريعية، وإيطاليا تراهن على هذا العامل في التصدّي لهذه الجائحة. في الأثناء ثمة حذرٌ يستشري بين الناس، وهو خصلة من الخصال المحمودة في هذا الظرف الطارئ. لأنّ التسيّب يمكن أن يكون مدعاة للتهلكة. والخوف يمكن أن ينيرَ مواضع الخطر والظلمة، وبالمثل يمكن أن يجعلنا أنانيّين أكثر، وهو ما يحرص الوعيُ المدنيّ على تلافيه والحدّ منه، مع ذلك ينبغي ألّا تدفع صعوبة الأوضاع نحو الرعب.

نهاية الأزمنة
لا شك أنّ ثمة هلعاً أبوكاليبسيّا (أخرويا) يدبّ بين الناس، لا يمكن نكرانه، سِيَما وأن هناك استعداداً في المخيال الشعبي الإيطالي، يحوم حول نهاية الأزمنة، ويتراوح بين تهويمات نزول العذراء وعودة المسيح ليقاضي الأحياء والأموات. إلى حدّ أنّ كثيرين استعادوا رؤيا يوحنّا الأخروية الواردة في العهد الجديد في قولها: فرأيت حصاناً لونه أخضر، باهت اللون، اسم راكبه الموت، يتبعه حصان آخر اسم راكبه الهاوية، وأُعطِيا سلطة إبادة ربع الأرض بالسيف والجوع والوباء ووحوش الأرض الضارية! (الرؤيا6: 8).
فحين تحلّ الجوائح وتخرج عن السيطرة، عادة ما يسلك الإنسان سلوكات مماثلة طلباً للنجاة، وإن اختلفت المجتمعات وتباينت المعتقدات. يغدو ترقُّب تدخّل العناية الإلهية قاسماً مشتركاً بين المؤمنين. هكذا واكبت الكنيسة الإيطالية حالة الطوارئ التي يعيشها البلد بحالة استنفار ديني. وتحديداً ليلة العشرين من الشهر الماضي، ضرب «المؤتمر الأسقفي الإيطالي»، على التاسعة ليلاً وعبر شاشة التلفزيون، موعداً مع «الصلاة المريميّة» وترديد «المسبحة الورديّة» طلباً لحماية العذراء وشفاعة القديس يوسف النجار (حارس العائلة الناصرية). وقد تابع التضرعات والترانيم ما يزيد على ستة ملايين نفر. فقد أملى الجوّ العامّ تحوّلاً في التعاطي مع أداء الطقوس الدينية أيضاً، حيث يجري التوجه نحو تطوير أداء «القدّاس أونلاين» في الكنيسة، على غرار ما جرى في كنيسة إنجلترا يوم الأحد الفارط، بقيادة رئيس أساقفة كونتربري جوستين ويلبي.
أيّ درسٍ تلقّن هذه المحنةُ إيطاليا والعالمَ بأسره؟ تُعلّم أنّ التطوّر اللا متكافئ ينطوي على هشاشة. فمن جانبنا لدينا في إيطاليا شمالٌ هو من أرقى مناطق العالم وأفضلها في المزج بين التطوّر الحداثيّ التقنيّ والفعل الإنتاجيّ، وهو ما يضع البلد في صفّ أقوى الاقتصاديات في العالم، ومن أكبر الدول المنتجة، بَيْدَ أنّ تلك القوة ما كانت متمحوِرة حول الإنسان، بل حول الربح والوفرة، ومن ثم وجَبَ تعديل كفّة الفعل المجتمعي لينشغل بالإنسان، بوصفه الرأسمال الأهمّ والرئيس.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©