الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

منطق الطّير

منطق الطّير
28 مارس 2019 01:06

كتابة : جون كلود أميسان
ترجمة: أحمد حميدة

أن ننتصب على أكتاف عمالقة الفكر، ونلقي ببصرنا إلى الأفق القصيّ، كيما تتيسّر لنا عبر الفضاء الكونيّ والزّمن السّحيق.. رؤية ما يتخفّى في اللاّمرئي، أن نحاول استشعار الأبعاد اللاّمحدودة للبهاء المبهم المبثوث في العالم النّابض الذي هو عالمنا، أن نصيخ إلى ذبذبات ذلك العالم.. كيما نلمس أشكاله وحركاته وألوانه وهمسه وتغاريده، وإلى الموسيقى السريّة السارية في أوصاله، أن نلقي السّمع إلى تلك الموسيقى اللاّنهائيّة التي تتحدّى كلّ ترجمة بالكلمات، التي تجعلنا ندرك أنّ ما هو جوهرّي يظلّ عصيّا عن الإفصاح والإيضاح.. لأنّه مستكنّ في ما لا يقال، في ما لا تتّسع له الكلمات ولا تستنفده الأصوات، أن ندرك من وراء ذلك وجود حالة بدئيّة سابقة.. حالة أكثر دنوّا من المنابع الأصليّة.. أشدّ قربا من الضياء الخالص للوجود.. ذلك الضياء الذي كان قبل أن تكون الكلمات، ضياء خالص ينبض في قلب كلّ ما هو حيّ، بالغ القرب من الشّعور ومن الإدراك، أكثر دنوّا من خفقان الوجود.. ضياء تظلّ لغته كامنة وخفيّة.. مضمرة وسريّة. أن نشعر مع ذلك أنّنا جزء من هذا الذي تاه عنّا، وبعضٌ من ذاك الذي شرد منّا.. والذي لا نتوقّف عن محاولة العثور عليه والعودة إليه.. تلك هي الأساطير.

حوريّات موريس بلنشو
من أقدم الحكايات التي انتقلت إلينا.. حكاية تلك العودة المطوّلة التي نجد أخبارها مبثوثة في الأوديسّة، إنّها حكاية رحلة أوليس المضنية، أوليس الذي لم يتوقّف عن الطّواف والعودة دائما إلى ذات المكان الذي كان قد انطلق منه.. أوليس الذي لم يتوقّف عن العودة إلى إيتاكا.. إلى بينيلوب وتليماك، وثمّة مقطع في تلك الملحمة.. يغدو فيه السّرد صافيا.. مصفّى.. وموسيقى نصِيعة صرفة، بل تغريدة عذبة.. لا أحد أدرك معناها ولامس سرّها غير أوليس.. إنّها التّغريدة الثّانية عشرة في الأوديسة، التي امتزجت فيها موسيقى السّرد بتراتيل عصافير إناث، إنّها تلك التّراتيل التي كانت تدهش الملاّحين والتي متى أنصتوا إليها حملتهم في سفر أخير لا عودة منه. فما حقيقة تلك التّراتيل؟
إنّها تراتيل حوريّات موريس بلنشو التي كانت تبدو مغرّدة بطريقة غير مُطمْئِنه، ولكنّ هذا الأخير كان يريد أن يتلمّس من خلالها وجهة المنابع الأصليّة.. الدّافقة بالسعادة الحقيقيّة، والمتخفّية في تغاريدها الرشيقة.. الرخيّة، ولكنّ غناءها غير المكتمل لم يكن سوى رجع صدى لذبذبات غناء آت، تدفع الملاّح دفعا نحو تلك الآفاق التي عندها يبدأ الشّدو والغناء.. لم تكن تلك الحوريّات حينئذ لتخدع أوليس، بل كانت تحدو به حقيقة نحو ما كان يتشوّف إليه.. ولكن.. ما الذي عساه سيحدث لو تمّ الوصول إلى ذلك المكان.. وما عساه يكون ذلك المكان؟ لقد تبيّن أنّه المكان الذي لا عودة منه.

بحث مضن عن السّيمورغ
ثمّة قصيد يضمّ أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة بيت شعريّ، يروي هو الآخر قصّة رحلة مطوّلة.. محفوفة بالمخاطر لأمّة الطّير، التي كانت تبحث عن ملكها المفقود، السّيمورغ الرّائع، ويتعلّق الأمر هنا أيضا، ولكن بشكل مخالف تماما، بقصّة عودة.
لقد كان يروق لناظم هذه الملحمة تسمية قصيدته بمنطق الطّير، إنّه القصيد المدهش لفريد الدّين العطّار، أحد رموز التصوّف الإسلامي، الذي عاش في بلاد فارس في القرن الثّاني عشر الميلادي بمدينة نيشابور.. مسقط رأس عمر الخيّام. في بداية هذه القصّة تدرك الطّيور أنّ لها ملكا وأنّها تجهل كلّ شيء عنه. ولننصت معا إلى حديث هنري غوغو عن القصيد:
كيف تجلّى السّيمورغ للأحياء؟ لقد كان بروزه في امبراطورّية الصّين، ذات يوم عند منتصف اللّيل.. حين اكتسح هذا السّيمورغ السّماء فجأة، وكان لا أحد قد رآه من قبل، من جسده سقطت ريشة وحطّت على الأرض، لقد كانت ريشة السّيمورغ ساحرة ومن فرط رشاقتها كانت تندّ عن الوصف، كان شكلها يخطف الأبصار وبالكاد يُلمَح من فرط بهائه، كما كانت ألوانها، حتّى أنّ كلّ من شاهدها لم يلمحها في الحقيقة سوى للحظة منخطفة، ولكنّ تلك اللّحظة كانت كافية كيما تسبي الرّيشة بجمالها المشرق الوضيء عيون النّاظرينّ، فما كان بالإمكان رؤيته في تلك الرّيشة هو عدد لا يحصى من الأشكال والألوان والأختام العابرة لجمال مطّرد وغير منقطع.. حتّى أنّ اللّغة لتخرّ أمام روعتها فيتعذّر قول أكثر ممّا قد قيل وسيقال عنها.
أيّتها الطّيور.. لقد آن الأوان كيما تتّخذوا قراركم.. من منكم يريد الانطلاق بحثا عن ذلك الملك الذي تتشوّقون إلى رؤيته.. هل من أحد للقيام بالخطوة الأولى؟
سوف يكون ذلك إيذانا ببداية رحلة مطوّلة عبر أودية سبعة - وادي الطّلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء، وادي التّوحيد، وادي الحيرة، وادي الفقراء والفناء- بحثا عن السّيمورغ.
لقد جاءت منظومة منطق الطّير في قالب قصصيّ محكم وممتع، يتألّف من خمس وأربعين مقالة على لسان الطّيور، تتخلّلها مجموعة من مائة وإحدى وثمانين حكاية، تختلف طولا وقصرا. وفي هذه القصص التي توزّعت تبعا للمسائل التي تثيرها حوارات الطّيور، نلتقي بالكثير من الأنبياء والأولياء. وفي ختام ذلك البحث المضني.. كان ثمّة الصّورة الرّائعة للفراشات.
لقد اجتمعت تلك الفراشات ذات ليلة صيفيّة، وكانت كلّها تعْشَقُ في السر الضّياء المنبعث من شعلة شمعة. لقد كان ضوء تلك الشّعلة يمارس على الفراشات نفس الجذب الذي كانت أناشيد الحوريّات تمارسه على الملاّحين أثناء رحلة أوليس..
وللضّياء أيضا إيقاع يماثل إيقاع الموسيقى.. فكان التّغريد الصّامت للشّعلة المتوهّجة وهي تتراقص.. يجتذب تلك الفراشات جذبا لا يقاوم نحو ذلك المكان الذي لا عودة منه لكلّ من يكون قد أدركه. حالٌ ترجم عنه سعد الدّين الشّيرازي وهو يسرد حوارا كان يدور بين شمعة وفراشة: لقد قال سعدي الشيرازي في ديوانه «بستان» ما ترجمته عن الفارسيّة: «أذكر أنّه ذات ليلة لم تنم عيني.. فسمعت أنّ الفراشة قالت للشّمعة: أنا عاشقة !.. إن أحترق فهذا جائز.. فلم بكاؤك واحتراقك أنت أيّتها الشّمعة يا ترى؟.. فقالت الشمعة: «يا محبّتي المسكينة! لقد ذهب الشّهد حبيبي الحُلو.. وحين تخرج منّي الحلاوة.. تذهب إلى رأسي مثل فرهاد النحّات».. كانت الشمعة تتكلّم.. وفي كلّ لحظة.. كان سيل الألم ينحدر على خدّها الأصفر.. وهي تقول: «أيّتها المدّعية!.. ليس العشق عملَك!.. لأنّه.. لا صبر لك.. ولا قدرة على الوقوف!.. أنت أيّتها الفراشة تفرّين من أمام شعلة.. وأنا وقفت لأحترق تماما!.. إن أحرقت نار العشق جناحك.. فانظريني! فقد احترقت من قدمي إلى رأسي!.. لا تنظري إلى الضّوء المضيء للمجلس.. انظري الاضطراب والسيل المُحرق قلبي.. مثل سعدي.. الذي ظاهره مضيء.. وإذا نظرت إلى داخله فهو محترق».. لم يمض وقت من اللّيل كذلك.. حتّى أطفأتها حسناء ملائكيّة الوجه.. وكانت الشّمعة تقول والدّخان يسري في رأسها: «هذه هي نهاية العشق يا بنيّ! إن أردت أن تتعلّم العشق.. فإنّك بالموت والإطفاء تجد الفرج من الاحتراق». لقد أدركت الشّمعة أنّ الغرام ضرام، وأنّ الاحتراق هو ثمن الانصهار والفناء في المحبوب، لذلك ركبت الخطب ولم تبال.

انعتاق ضريبته الاحتراق
لقد كتب جون كلود كارّيار مسرحيّة استلهم فيها هو الآخر الملحمة الشّعريّة لفريد الدّين العطّار.. فكتب يقول: انظروا إلى خشبة المسرح.. ففيها طيور وشمعة، أحدٌ ما يشير إلى الظّلال ومعاونٌ يحرّك بعض الفراشاتٍ. وكانت تلك الفراشات قد اجتمعت ذات يوم وهي متوتّرة بفعل رغبتها في الانصهار في لهيب الشّعلة..
انطلقت فراشة أولى إلى قصر بعيد، ولاحظت وجود شمعة تضيء بداخله، ثمّ عادت وقصّت على الفراشات الأخرى ما رأت، ولكنّ حكيمة الفراشات التي كانت تترأس الجلسة قالت إن ذلك لن يمكّن الفراشات البتّة من التقدّم في معرفة السرّ الكامن في تلك الشّعلة، وفي الأثناء..كانت العصافير تتابع حديث الفراشات بالكثير من التمعّن والاستبصار. ثمّ طارت فراشة ثانية إلى ذلك القصر حتّى باتت أكثر دنوّا من الشّمعة، ولامست بأجنحتها الشّعلة، لتعود محروقة الجناحين وتقصّ تفاصيل سفرها للآخرين، ولكنّ الفراشة الحكيمة قالت معقّبة: ليس حديثك أكثر نفعا من الحديث الذي كنّا بصدد سماعه.. حينها نهضت فراشة ثالثة يهزهزها سكر العشق، فانطلقت بسرعة البرق وألقت بنفسها وسط الشّعلة حتّى غدت أطرافها متّقدة وتحلّلت في النّار. حينها قالت الفراشة الحكيمة، التي رأت المشهد من بعيد.. إلى بقيّة الفراشات: لقد عرَفتْ هذه الفراشة ما كانت تريد معرفته، وهي وحدها التي قد تدرك السرّ المتخفّي وراء ذلك الاحتراق. لبرهة.. ظلّت الطّيور ساكنة وهي تنظر واجمة إلى ما حولها، وحينها سأل الصّقر الهدهد: ولكن.. هل نحن أحياء أم أنّنا أموات؟ ثمّ.. أين هو ملكنا السّيمورغ؟ دُلّنا عليه بعد أن عبرنا الأودية السّبعة التي كنّا مطالبين بعبورها.. وأجاب الهدهد: أنتم لم تعبروا يا معشر العصافير، لقد كانت الأودية السّبعة سرّا غامضا ومحض حلم.. لتنظروا.. فنحن لم نبرح البتّة هذا المكان.
غير أنّ الطّيور سوف تتابع سفرها بحثا عن ملكها.. السّيمورغ الرّائع. وفي نهاية الرّحلة، تحقّق ما كانت قد تنبّأت به الطّيور. ولننصت في هذا الخصوص إلى اقتباس هنري غوغو للقصّة: لقد عثرت الطّيور على بعضها البعض، وأدركت أنّها غدت في ضياء السّيمورغ.. على قيد الحياة وأنّ كلّ ما فعلته من خير أو شرّ حتى تلك اللّحظة.. سرعان ما تلاشى وامّحى من ذاكرتها، وفي نور الشّمس السّاطع انبثقت فيها روح جديدة.. لقد رأت في الحياة الدّنيا ألف بريق وبريق للسّيمورغ، وإذا بها تشاهد فجأة العالم الذي انطوى فيه السّيمورغ، نظرت الطّيور التي بقيت على قيد الحياة إلى بعضها البعض، وانكشفت لكلّ طير منها حقيقة السّيمورغ، لقد كانوا طيورا.. ولكن تبيّن أنّ كلّ واحد منهم كان هو السّيمورغ. وغرقوا جميعهم في بئر من الحيرة، واختلطت عليهم الأشياء، وبلا كلمات سألوا انكشاف ذلك السرّ.. أنا.. أنت.. هذه الكلمات التي تبدو بالغة البساطة.. ماذا كانت تعني حقيقة؟ وأجابهم السّيمورغ: إنّ هذه الشّمس العظيمة والرّائعة التي ترونها أمامكم.. مرآةٌ، من اقترب منها وتأمّل فيها، فلسوف يرى وجهه كما هو.. وجسده وقلبه.. وروحه أيضا، ولا تعرف الصّورة المنعكسة في المرآة.. الكذب. لقد سافرتم لزمن طويل، وأحيانا ما ظننتم أنّكم قد تُهتُم، ثمّ إنّكم لم تفترقوا أبدا، وما عثرتم عليه هو أنتم.. فلتسمعوا لي.. فأنا السّيمورغ.. أنا جوهركم.. أنا ابديّتكم.. فامّحوا فيّ وتيهوا بداخلي دونما خشية.. وأنتم مبتهجون.. لتكتشفوا أنّكم أحياء. واختفت الطّيور في السّيمورغ.. كما يكون حال الظلّ في حضرة الشّمس السّاطعة.

وحده أوليس أدرك السرّ
وعلى امتداد الطّريق التي عبروا.. لم تنفكّ الطّيور عن طرح الأسئلة.. ولكن في ذلك المكان لم يتبقّ شيء.. لا خطابات ولا باحثين ولا دليل.. لاشيء، بل لم يعد هنالك من أثر لطريق.. فذلك المكان هو الذي لا ندركه إلاّ كي نتيه فيه من جديد.. ذلك المكان الذي يبدو وكأنّ كلّ شيء يبدأ عنده، إنّه المكان الذي تجتذب فيه أغاريد الحوريّات.. الملاّحين، والذي نحوه يجتذب الشّدو الصّموت للشّعلة.. الفراشات، ذلك المكان.. حيث الغناء السَّكوُتُ لريشة مشعّة، يجتذب الطّيور، فهو المكان الذي نغدو فيه واحدا مع الوجود، الذي نشرد فيه ولا يتبقّى منّا أيّ شيء، فهل يكون بوسعنا العودة منه، هل يكون بوسعنا إدراكه.. والبقاء مع ذلك في هذا الوجود. فمنذ ألفي سنة تقريبا قبل منطق الطّير لفريد الدّين العطّار، وفي أوديسّة هوميروس، وتحديدا في التّرتيلة الثّانية عشرة من هذه الملحمة التي تتداخل فيها موسيقى السّرد وغناء الطّيور الإناث، وحده أوليس قاوم سطوة غناء الحوريّات وبقي على قيد الحياة، وحده أوليس الذي كان مشدودا إلى صاري السّفينة ويتوسّل إلى الملاّحين الذين سدّوا آذانهم بالشّمع.. كيما يفكّوا الحبال التي كانت تشلّ حركته، وحده أوليس استطاع متابعة رحلته بعد أن أنصت إلى غناء الحوريّات.. ووحده أوليس أدرك السرّ..
ما الذي قاله أوليس بعد أن غنّت الحوريّات.. وبعد أن صرخ متوسّلا كيما تفكّ الحبال التي تشدّه إلى صاري السّفينة فيسلم نفسه للغناء الآسر والمدهش للحوريّات؟ أولم يكن أوليس أوّل من أنصت إلى ذلك الغناء الذي يقتُل دون أن يُفني؟ لقد قال بأنّ ذلك الغناء يملأ القلب برغبة جامحة إلى الإنصات.

دعوة ملحة للرحيل
ويقول أفلاطون أنّ الموسيقى تنسرب داخل الجسد وتمسك بمجامع القلب.. إنّها نداء ودعوة إلى السّفر.. ذلك السّفر الذي يفتح حسب موريس بلونشو، الطريق نحو ينابيع الفرح الأعظم، نحو مكان هو ليس بمكان.. نحو ذلك الهناك الذي لا يطوله مقال. إنّ للموسيقى غاية واحدة: أن تجتذب إلينا الآخر كي نتيه فيه، أن نعثر على أنفسنا داخله، أن نتوحّد معه ومع الوجود.. ونظلّ مع ذلك حضورا في هذا الوجود. الموسيقى هي محاكاة للانسجام الذي يسري في الطّبيعة واحتذاء بالتّغاريد التي ترسلها، تغاريد الطّير وأناشيدها المغوية.. تلك القطع الموسيقيّة البالغة الرقّة والنّقاء التي تصدح بها الطّيور بلا انتهاء في مواسم الحبّ والوله والمصافاة والجوى، بحثا عن رفيقة مُؤنِسةٍ.. لفصل أو لحياة بأكملها. أن نجتذب الآخر.. أنا.. أنت.. هذه الكلمات التي تبدو بالغة البساطة.. ماذا عساها تقول لنا؟
الموسيقى.. هي دعوة إلى الرّحيل.. إنّها سبيل تقود إلى الآخر ودعوة إلى الحوار.. إنّها لغة.. لغة ما قبل اللّغة.. لغة الطّير في غاباتنا وسمائنا.. في مروجنا وبساتيننا.. هذه اللّغة التي قيل إنّها لا تقلّ فطريّة عن لغة الإنسان.. لغة تنتقل تغيّراتها المحليّة من جيل إلى آخر.. كما تنتقل اللّهجات القرويّة من مكان إلى آخر.

أسرار مدهشة
لقد تحوّلت أسرار لغة الطّير منذ 1960 إلى موضوع بحث استوقف الكثير من الباحثين والعلماء. وقد كشفت أبحاثهم عن وجود توافقات غريبة بين أناشيدها ولغة البشر. فعند الكثير من أجناس الطّير.. تتعلّم الفراخ أناشيدها وطريقة شدوها وسقسقتها، وهي تنصت إلى تغاريد البالغين الذين يكبرونها، فتجِدّ في محاكاتها، كما نتهجّى نحن الكلام حين ننصت إلى البالغين الذين يحيطون بنا، ونعمل على محاكاتهم كيما نتهجّى لغة الكلام. ففراخ الطّير كما الرضّع من البشر تبدأ بمحاكاة طريقة الكبار في النّطق، ثمّ تشرع في تكوين أسلوب بدائيّ من الغناء يشوبه التردّد.. ليكون في البداية صورة شاحبة من غناء البالغين من البشر.
ومن بين الأجناس المختلفة من الطّيور، تؤلّف الذّكور أكثر الأناشيد تعقيدا.. وهي تلك الأناشيد التي ستمكّنها، في فصل الحبّ والغزل، من غواية رفيقات المستقبل. وبصورة عامّة.. غالبا ما يقتدي الفرخ الذكر بغناء طائر ذكر يعيش بجواره.. ذلك الغناء الذي يمثّل اللّهجة الخاصّة بالمكان الذي فيه يقيم، فيمعن في الإنصات إليه، ثمّ يشرع في تقليده، ثمّ يعتزل بقيّة الطّير.. وانطلاقا من ذكرى الغناء الذي أنصت إليه من معلّمه، والذي يكون قد استوعبه، يشرع في تصويب هذيانه وتصويته المتردّد والبدائيّ، ليقترب أكثر من الأداء الصّوتيّ العذب الذي يكون قد اتّخذه نموذجا أمثل في الشّدو. فيتملّك نغميّته ومجموعات المقاطع الصّوتيّة التي تؤلّفه.. والفواصل ومواطن السّكوت و التّذبذبات التي تتخلّله، كما مقامات الصّعود والنّزول اللّونيّ للصّوت.. ليدرك بذلك ما يعرف بلحظة تبلور الغناء.
وينصت الفرخ باستمرار للصّوت الذي تحدثه قناته الصّوتيّة، التي تعادل الحنجرة عند الإنسان، فيقارن بين غنائه وذكرى غناء معلّمه الذي يكون قد احتفظ به، فيقوم بتصويب أخطائه إلى أن يتمكّن من أداء الصّوت الذي انطبع في ذاكرته بصورة تامّة.. بعد ذلك سوف يعمل انطلاقا من ذلك الصّوت على تطوير أدائه بإثراء ذلك النّغم المتبلور، بصورة فرديّة ومتميّزة.. وذلك النّغم الذي قد يُستشعر على أنّه جميل.. يمكن أن يسهم لاحقا في نشأة لهجة جديدة قد تتطوّر وتنتقل إلى أجيال متتالية من الطّيور.
كان الأجداد المشتركون للطّير والثّدييّات يعمّرون الأرض منذ أكثر من ثلاثمائة مليون سنة، أي في الفترة التي تجمّعت فيها كلّ أراضي المعمورة لتشكّل قارّة عظيمة واحدة، «لا بُنْجي» التي أحاط بها محيط رحب.. مديد يعرف بـ «أنتلسّا». وبعد تلك الفترة بقليل، انفصل أسلافنا وأسلاف الطّير، وتوغّلوا في اتّجاهين مختلفين، ليعرف كلّ منهما خلال مائتين وتسعين مليون سنة تطوّرا متمايزا. ومع ذلك، ثمّة علاقات غريبة بين طريقتنا نحن في الكلام وطريقة الطّير، من الخلاصات التي أفضى إليها البحث في هذا المجال، أنّ شبكات التّواصل العصبيّة والزوايا الدّماغيّة التي تُستخدم للتعرّف على الأصوات وتهجّي الغناء وإنتاج الأناشيد، تشبه شبكات التّواصل العصبيّة التي تستخدم في أدمغة الإنسان في مجال التعرّف على الأصوات وتهجّي اللّغة الشّفويّة وإنتاج الكلمات. ولكن.. ثمّة أكثر من ذلك.. فمنذ ستّة أشهر نشر باحثون يابانيّون في كيوتو دراسة عن طيور السّنونو في اليابان، فأتت هذه الدّراسة مؤكّدة لما جاء في بحوث سابقة تعلّقت بطيور الزّرزور. وقد بيّنت تلك البحوث أنّ غناء السّنونو يستند إلى قواعد، ويخضع لضوابط لغويّة. ولطيور السنونو غناء بالغ الإحكام، يتألف من سلسلة متنوّعة من المقاطع الصّوتيّة المرتّبة بطريقة لا عشوائيّة.. توحي بخضوعها إلى قواعد أساسيّة، تنتظم وفقها مجموعات المقاطع الصّوتيّة حسب قياسات مجرّدة. وتكون هذه الطّيور قادرة أيضا على إدراك قواعد لغويّة جديدة، حتّى أنّ الباحثين اليابانيّين عملوا على ابتكار مجموعات جديدة من المقاطع الصّوتيّة، وفق قواعد تمّ انجازها بطريقة مصطنعة من قبلهم. وقد تمكّنت طيور السّنونو التي أنصتت إليها من التفطّن إلى الأخطاء الواردة فيها. وتنطوي تلك القواعد على ما يعرف بالانغلاق الحلقي، وهي مقاطع تكراريّة كان يعتقد إلى وقت قريب أنّها خاصّة بلغة البشر. والمقطع التّكراري هو تغيير لمعنى جملة بجملة ثانية تنطوي داخلها، وتكون تلك الجملة الثّانية هي الأخرى قابلة للتّغيير بجملة ثالثة تنطوي في الجملة الثّانية. وتلك القواعد في إقحام أجزاء من جملة داخل جملة رئيسيّة.. هي التي تجعل عصافير السنّونو في اليابان قادرة على التمييز بين الأصوات وفق قواعد خاصّة في إقحام بعض المجموعات من المقاطع الصّوتيّة داخل سلسلة من المقاطع الصّوتيّة الأخرى. نحن لا نفقه لغة الطّير.. فمن المحتمل أن تكون تلك الصّيغ الصّارمة والمعقّدة من القواعد التي تسند الهندسة الصّوتيّة لغناء السّنونو مماثلة للقواعد الصّارمة والمعقّدة التي تسند الهندسة الصّوتيّة للشلاّلات الموسيقيّة لباخ أو كونشيرتوهات بيتهوفن أو القصائد الشّعريّة لبرامز.. لعلّها لغة موسيقيّة يكتسي فيها المعنى جوهرا عاطفيّا وجماليّا، لذا فهي تنسكب بلطف داخل الجسد وتطبق على الرّوح، لعلّها شبيهة أيضا بأغنية شعبيّة أو بأوبرا..تتداخل فيها الكلمات والموسيقى. فإلى أيّ مدى قد تشترك لغة الطّير ولغتنا في نفس الثراء الدّلالي الذي يكسبها معنى ما؟ لا علم لنا بذلك، غير أنّ تلك الدّراسات تذكّرنا بإنّ جهلنا بلغة الطّير لا يعني البتّة أنّها تفتقر إلى اللّغة، أو أنّ لغتها مختلفة تماما عن لغتنا.

سفر إلى الحياة
لقد سافرتم لزمن طويل، وأحياناً ما ظننتم أنّكم قد تُهتُم، ثمّ إنّكم لم تفترقوا أبداً، وما عثرتم عليه هو أنتم.. فلتسمعوا لي.. فأنا السّيمورغ.. أنا جوهركم.. أنا أبديّتكم.. فامّحوا فيّ وتيهوا بداخلي دونما خشية.. وأنتم مبتهجون.. لتكتشفوا أنّكم أحياء. واختفت الطّيور في السّيمورغ.. كما يكون حال الظلّ في حضرة الشّمس السّاطعة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©