الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

بوسنيده.. الشاعر والخطّاط

بوسنيده.. الشاعر والخطّاط
28 مارس 2020 00:34

إبراهيم الملا

وسط بيئة واعدة ثقافياً ظهر شاعرنا أحمد بن عبدالرحمن الهرمسي الملقّب بـ«بوسنيده»، (1855 - 1920)، المولود في منطقة الحيرة الساحلية بالشارقة، ويعد بوسنيده من رواد الشعر في الإمارات ومن أوائل المهتمين بفن الخط وتعليمه، نشأ مبكراً على حب المعرفة والشغف بالأدب وتزوّد بعلوم الفقه والحساب، وكان يحفظ الكثير من عيون الشعر النبطي القديم واطلّع على قصائد الشعراء المعاصرين له، وكل هذه العوامل الثقافية والتعليمية عززت مدارك بوسنيده تجاه أهمية الأدب وضرورة المطالعة لخلق مخزون لغوي ساعده لاحقاً في إبداع قصائده المفعمة بالعذوبة والصور السردية المبهرة والمعاني المكثّفة، وبالمفردات المدعّمة بقوة التعبير، وثراء المخيلة، وجمال السبك ومتانته.

ساعدت الموهبة الفطرية والملكات الإبداعية لدى شاعرنا في التميّز بمجال الخط وفنون الكتابة وصياغة العقود والرسائل حتى أنه لقّب بابن مقلة زمانه، فعمل كاتباً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى وفاته، وله قصيدة في رثاء الشيخ سالم بن سلطان يقول مطلعها:
الله أكبر مسرع حدوث لوقات
أمسى عزيز القوم سالم ملموات
الله أكبر ما قضى الله كاين
صبر جميل ويخلف الله ما فات

وكان بوسنيده مرافقاً للشيخ سالم القاسمي في رحلته وإقامته بجزيرة أبو موسى، وكان كاتباً خاصاً لجميع مراسلاته، وكان للبحر في حياة بوسنيده مساحة خصبة ومكان، محتشدة بالتصورات الذهنية التي أسست لفلسفته الخاصة تجاه الوجود، فكل شيء يمكن أن ينقلب من الهدوء إلى الصخب، وأن يتحول من حالة الوداعة والطمأنينة والسكون إلى حالة العنف والشراسة والاضطراب، ما جعله مستوعباً لتقلبات الحياة وعدم استقرارها على حال ثابت، ومتفاعلاً كذلك مع ظروف وأحداث عصره.
وكان لبوسنيده دكان في منطقة المريجة بالشارقة قام فيه بتعليم فنون الخط للشغوفين بجماليات الحروف العربية سواء كانوا من الصغار أو الكبار، ومن مدرسة الخط هذه والأولى من نوعها في المنطقة تخرّج الكثير من أبناء الشارقة الذين احترفوا الكتابة بعد رحيله وصارت لهم مكانة رفيعة في المجتمع.
وبجانب تميزه في شعر الرثاء، كانت قدرة بوسنيده على نسج قصائد الغزل والنسيب تفوق قدرة الكثير من الشعراء المعاصرين له، حيث كان له في مجال الوصف الحسّي، والتحولات العاطفية للعاشق، حضور مدهش وتوليف جامح، ونظرة تخترق التفاصيل الظاهرية لتبوح بالمعاني المكنونة والجواهر المدفونة في ذات المحبوب وفي رغباته الخافية، يقول بوسنيده في إحدى قصائده الغزلية:
البارحة يوم ارتفاع الميازين
اذكرت من لونه تشعشع الأنوار
ايلين بان الصبح ما غضّت العين
كني على جمر المياهيل من نار
يا ونّتي ونّة ربوع امعطشين
في موضع خالي بعيد عن الدار
يا غارة الله كيف أضيّع وأنا ذهين
وأنا مساني في الهوى سنين مرار
شرعي اغمرن لي وشرع غيري مولمين
خايرت والخايور لي زاد سمّار
يا نفس كم أنصحك باطن وتعصين
وأقول شيلي عن هواهم بمقدار

وهنا يستعيد بوسنيده صورة المحبوب وهو محاط بظلمة الليل، فيتحول حضور المحبوب إلى طيف مخادع وحلم متبخّر متسائلاً كيف أنه عاش هذه الخديعة رغم خبرته الطويلة والمديدة بأحوال المحبين، وكيف أن حظه خذله هذه المرة وأن تفاؤله باللقاء كان مفرطاً لدرجة فقدانه التركيز وعدم إحساسه بانقضاء الوقت وانهمار الظلام وتبدد الوعد بالوصال، وبالتالي ينصح نفسه هنا بعدم المغالاة في الوهم، ووضع مقاييس ومقادير لميزان الهوى قبل أن يختلّ، وفي نفس الوقت نراه يعيش صراعاً دائماً بين ما تهواه النفس وما يفرضه الواقع بشروطه القاسية والصارمة في أكثر الأحيان.
وبجانب شعر الغزل الذي تميز به، تناول بوسنيده أغراضاً شعرية أخرى مثل المديح والهجاء ونقد الجوانب السلبية في مجتمعه، كما امتاز بوسنيده بتضمين الحكم والأمثال في قصائده لتعزز الرسائل الظاهرية والأخرى الرمزية التي أراد إيصالها لفئات مختلفة من الناس في منطقته، مستنداً على فطنته وفهمه للأمور المحيطة، والعواقب التي يمكن أن تنشأ عند الخوض في المسائل المختلف عليها إذا لم يتم الاعتماد على أهل المشورة والاختصاص في هذه المسائل.
يقول بوسنيده في إحدى قصائده المعنية بإيراد الأمثال وتوظيفها لإيصال المعنى والهدف من توليف القصيدة:
إن صابك الجرح اعصبه
ما يصحّ دامك تنبره
ومن شرب سم بتجربه
عليه محسوب خطره
حسّن أخلاقك وانتبه
للرجز هذا وابصره
واسمع أبيات مطربه
الوعظ منها مصدره
من قول فاهم معجبه
كالروض يانع بزهره

ولم تخل قصائد بوسنيده أيضاً من تلمّس دلالات المكان وتأثير الظروف التاريخية والتحولات الاجتماعية على هذا المكان سواء كان هذا التأثير سلبياً أو إيجابياً، أو مؤدياً إلى النهوض والتطور أو الانتكاس والخيبة، راصداً في شعره هذه التمايزات والأضداد والتمنيات والمخاوف، من خلال رؤيته الذاتية الثاقبة، ومن خلال القراءة الدقيقة لمجريات الأحداث الآنية ومآلاتها المتوقعة.
وقد صاغ بوسنيده مسرحاً للأحداث في قصائده، ووثق الكثير من الأماكن في إمارة الشارقة وجزيرة أبو موسى ورصد في شعره التغيرات البيئية والتباينات الجغرافية في بيئات الجبل والبحر والصحراء، وكان يعكس انشغالاته العاطفية ويترجمها من خلال الربط بين الذات والطبيعة، وخلق حوارات متخيلة مع هذه الطبيعة ذات الأبعاد البصرية المدهشة، والتي تعمل على شحذ الخيال وإيقاظ الرغبة الكامنة للشاعر في التعبير عن الجمال المهيمن والمقيم فيه، والمسيطر على حواسّه.
يقول بوسنيده في سياق تأثره بمنظر الجبال:
هبّ ريحان الجبال
خرّ نجم يتلالا
طاش عقلي من فؤادي
حين وافيت الغزال

ويكشف هذا الربط العجيب بين منظر الجبال ورائحة الرياحين التي تهب منها، مع صورة الحبيب الذي يصفه بالغزال، عن مدى شغف بوسنيده بجماليات المكان وسحرها وتأثيرها عليه، وقدرتها بالتالي على وضع إطار شعري يحكمها، ويمنحها في نفس الوقت الجاذبية والشفافية التي تستحقها، والتي تمزج هنا بين الدال والمدلول، وبين الأصل والصورة، وبين الطبيعة المحايدة، وبين رؤية الشاعر التي تجعل من هذه الطبيعة حيّة ومتحركة ونابضة.
من القصائد التي اشتهر بها بوسنيده تلك التي حملت عنوان «كيف ممساكم» ويقول فيها:
يا حبيبي كيف ممساكم
يعلكم في خير تمسونا
وش خلف يا زين لا ماكم
شو السبب لي به هجرتونا
لا ولا كنّا عرفناكمفي الزمان ولا عرفتونا
لو صحاح الريل زرناكم
لو في (ربع خالي) سكونا
إن طلبتونا عطيناكم
وان طلبنا ما عطيتونا
وإن شرهتونا وصلناكم
وإن شرهنا ما وصلتونا.

تنوير ثقافي ومعرفي
اتصفت البيئات المحاذية للسواحل في الإمارات أواسط القرن التاسع عشر، بديناميكية ثقافية خاصة بها، عززتها الحيوية التجارية والمبادرات الاقتصادية المبكرة، وحركة الهجرات الأولى إلى المنطقة بحثاً عن الرزق، وتكوّنت بالتالي صناعات ومنتجات ومهن يدوية ملبية لحاجة الناس والأسواق، كما ظهرت مرجعيات وتقاليد وأفكار مختلفة استفادت من تمايزها وتنوعها لخلق أرضية مجتمعية نشطة ومزدهرة، ما ساهم في ظهور نخبة الطواويش والتجار وعلية القوم، كما ساهمت هذه البيئة البحرية المحتدمة معرفياً في ظهور نخبة من الشعراء والمهتمين بالشأن الأدبي الذين حملوا على كواهلهم عبء التنوير الثقافي وإشاعة الوعي المعرفي بين الأهالي، رغم بساطة البنية المؤهلة لظهور المدارس النظامية التي تشكلّت بداية من خلال الكتاتيب المعنية بتعليم القراءة وحفظ وتجويد القرآن والتدريب على فنون الكتابة والخط والاطلاع على صنوف الآداب العربية من خلال الكتب والمخطوطات التي يأتي بها القادمون إلى الموانئ القريبة.

القصائد المربوعة
تميّز الشاعر بو سنيده بنظم القصائد المربوعة وأجاد توظيفها، مستخدماً القافية المفتوحة لتطويع الصور والمعاني المعتملة في نفسه، ولم يلجأ كثيراً للقصائد المثلوثة والمخموسة التي غالباً ما كان يلجأ لها شعراء أبوظبي، وكذلك شعراء المنطقة الشرقية.
ويذكر الباحث الدكتور راشد المزروعي أن النوع الذي لجأ له بوسنيده، وهي القصيدة المربوعة، كانت من الفنون التي عرفها شعراء الفصحى، وسموها بأسماء مختلفة مثل (التسميط) أو (السجع المسطّر) وبعضهم أسماه بالترصيع وكانت هذه المسمطات أو الرباعيات هي أساس ظهور فن الموشحات وخصوصاً الموشحات الأندلسية، ويضيف المزروعي أن بوسنيده طور أسلوبه وأجاد فيه، حيث استخدم أسلوب ربط أبيات القصيدة المربوعة ووحداتها بعضها ببعض عن طريق تكرار كلمة من أواخر البيت، أو الوحدة السابقة ويكرر الكلمة نفسها أو بعض مشتقاتها أو متعلقاتها اللفظية، والمثال على ذلك قوله في إحدى قصائده المربوعة:
عزّي لقلب كدّر الوقت صافيه
يبلى على لاما عشير مصافيه
لو هو تجلّد بالصبر ما يفيده
به عوق كاتمنه وخافيه
مخفيه قبل لا يتلف الروح والحال
وأصير في حال عقب ذلك الحال
حب الذي حبّه من القلب ما حال
وسط الحشا بني وشيّد مبانيه

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©