الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

3 أوهام عن الهوية والاختلاف

3 أوهام عن الهوية والاختلاف
10 يناير 2019 04:16

الفاهم محمد

بتأملنا لأحوال الوجود، نلاحظ أنه ليس هناك لا تشابه مطلق ولا اختلاف مطلق. كلمة الكون L’univers في حد ذاتها تتكون من جذرين لغويين يجمعان في الآن ذاته بين الواحد Le Un والمتعدد Le Divers. إن كل فرد مثلا يشبه بقية الناس، إذ هناك العديد من النقاط المشتركة التي تجمعه معهم، لكن هذا التشابه لن يصل إلى حد التطابق ما دام أنه ستظل دائماً هناك بعض العناصر التي تميزه عنهم، وهذه العناصر الاختلافية هي بدورها ليست كلية ما دام أن هذا الإنسان تجمعه مع الآخرين قواسم مشتركة.
هناك مسألة طريفة يشير إليها الطب المعاصر وعلم التشريح الذي يظهر أنه حتى الناس السود البشرة، هم في الحقيقة يشبهون الناس البيض، لأن سواد البشرة يعود إلى مادة موجودة في الدم اسمها الميلانين وهذه المادة موجودة كذلك حتى لدى البيض ولكن بنسبة أقل.
إن قوة الذات تكمن في تعددها واختلافها وليس في وحدتها وصفائها المزعوم. بمعنى أنه كلما كانت الذات تستدمج داخلها عناصر ثقافية متعددة تعمل بشكل منصهر، كلما كانت هذه الذات قوية والعكس صحيح. يمكننا أن نتحدث إذن عن الهوية الاختلافية Identité différentielle في مقابل الهوية المتوحشة Identité sauvage كما كان يسميها عبد الكبير الخطيبي.
إن الآخر إذن هو إغناء للذات وليس إفقاراً لها. من الواقع الاجتماعي يمكننا أن نقدم مثال الولايات المتحدة الأميركية التي تتكون من ثقافات وشعوب مختلفة: من الصينيين والأفارقة والأميركيين اللاتينيين.. بحيث كل هذا التعدد الثقافي يتمتع بنفس حقوق المواطنة، وإن كانت تحدث أحياناً بعض الاستثناءات.
أما من التاريخ، فيمكننا أن نقدم مثال الأندلس التي عرفت لقرون تعايش ثلاث ديانات في انسجام وتناغم بينها، حيث ساد التسامح والتعاون بين الأعراق الثلاثة مما كان له انعكاس إيجابي على طبيعة العطاء الحضاري خلال هذه المرحلة.
من التاريخ دائماً وكدليل على أن الآخر ينبغي صونه والحفاظ عليه بدل إهدار دمه كما نرى اليوم، يمكن الحديث عن مثال الحضارات الأميركية اللاتينية التي اكتشفها الإسبان خلال القرن الـ 16 والذين تمت إبادتهم بدعوى أنهم برابرة ومتوحشون.
ضرورة هذا الآخر تكمن في أنني لا أعيش في عالم خاص بي، بل العالم الذي أعيش فيه هو أيضاً عالمه هو، نحن إذن «جيران في عالم واحد»، كما يقول عنوان أحد الكتب. إن الوحدة مطلوبة ليس كترف فكري، بل لأن إنقاذ ذاتي يفترض إنقاذ الآخر. عليّ الاعتراف بالآخر وقبوله كآخر في غيريته التي يستعصي عليّ ربما فهمها أو إذابتها كلياً في هويتي. بالنسبة لي كمسلم مثلاً مهما فعلت لن أتمكن أبداً من فهم طيبوبة شعب الأسكيمو الذين تبلغ بهم حفاوتهم بالضيف إلى أن يقدم الفرد منهم زوجته له. أو سلوك نساء قبائل البوندو في الهند الذين يعملون في الحقول من الغرس وإلى غاية الحصاد، تم يذهبن إلى السوق ليمارسن أنشطتهن التجارية، بينما يقف الرجال بعيداً وهم يراقبون ما يجري. أو أيضاً تقديس البقر عند الهنود، وغيرها الكثير من العادات والتقاليد التي لا تستسيغها هويتي.

ليفيناس ووجه الآخر
هنا يظهر أن الآخر ينتزعني من تقوقعي الذاتي ويرمي بي في غرابته ولا نهائيته. ولكن مع ذلك هذه الغرابة بدل أن تولّد لديّ اللامبالاة أو الاحتقار أو الحط من قيمة هذا الآخر، وجب بالعكس أن تولد لديّ العناية به، ومد يد المساعدة له والتضامن معه. أي أن مسألة الآخر، كما يقول إيمانويل ليفيناس، تجبرني على الدخول في إلزامات أخلاقية واقعية. عليّ الخروج من انغلاقي الذاتي نحو هذه الغيرية التي يعلن عنها وجه الآخر.
ضمن هذا السياق مثلاً، تندرج مسألة الاهتمام بذوي الحاجات الخاصة واللاجئين الفارين من الحروب في مناطق التوتر، والشعوب الأفريقية التي سحقتها المجاعة... إن كل هؤلاء وغيرهم ما يثيره فينا وجههم المفزع والمرعوب ليس الشفقة أو الأسى العابر مع انتهاء نشرة الأخبار، بل اقتضاءات أخلاقية ما دام أن إنسانيتي لن تكتمل إلا إذا برهنت بالفعل عن مواقف إنسانية اتجاه ما ينبغي أن نقوم به لهؤلاء الآخرين. لقد طور ليفيناس تحليلات عميقة لطبيعة العلاقة مع الغير، وذلك انطلاقاً من تأويل لوجهه يقول في هذا السياق: «يعتبر الوجه هو الآخر الذي يطلب مني بألا أتركه يموت وحيداً، وكأن تركي له يجعلني شريكاً في موته. هكذا فإن الوجه يخاطبني قائلاً: لن تقوم بالقتل أبداً». تعتبر فلسفة ليفيناس محاولة لتجاوز الانغلاق الذي وجدت الذات الأوروبية فيها نفسها، هذه الذات التي من أجل تأكيد ذاتها مستعدة كي تضرب بكل شيء عرض الحائط، بما فيه الاعتراف بالآخر. من هنا، فإن الغير يخرجنا من أنانيتنا، إنه بمثابة الحدث الأساسي الذي يعلن عن ولادة الذات البشرية.
بطريقة أخرى نقول إن الذات لا تكتشف نفسها من خلال تجربة الوعي الباطني كما هو الحال مع ديكارت، بل من خلال اللقاء مع الآخر الذي أتعرف إليه عبر وجهه، هذا الوجه الذي يفرض عليّ اقتضاءات أخلاقية توجب عليّ التعامل معه كإنسان، والاعتراف به كذات والحفاظ على حياته.
هكذا لا يمكن للإنسان أن يكون إنساناً بانفصاله عن العالم وتعاليه على الآخرين وتجاهله مشاكلهم وقضاياهم، بل بالعكس يصبح الإنسان إنساناً من خلال التزاماته الأخلاقية اتجاه الإنسانية جمعاء. لا يمكن مثلاً للغرب أن يكون متحضراً، وهو يراقب الشعوب الأخرى تغرق في الفقر والأوبئة والمجاعة والحروب الأهلية، وكأن الأمر لا يعنيه.

الغير وأوهام الأنا
إن التفكير في الغير وطرحه كموضوع للمساءلة قضية تدعونا إلى ضرورة التخلص مما يمكن أن نسميه بأوهام الأنا، أي أوهام الذاتية المطلقة والمغلقة على نفسها، إذ هناك موقف قد يتم التعبير عنه إما بصفة مباشرة أو بصفة غير مباشرة ما دام يحضر عند البعض على شكل بنية ذهنية، وهذا الموقف هو: أنا وحدي وورائي الطوفان. إن أكبر وهم من أوهام الذاتية هو هذا الاعتقاد الذي بمقتضاه أننا يمكننا الاستغناء عن الآخر والاكتفاء فقط بذواتنا، وكأننا نملك كفايتنا الخاصة. موضوع الغير يعلمنا إذن كيف نفكر بطريقة جماعية، كيف نطرح ضمير (نحن) كضرورة وجودية بدل ضمير (أنا)، وهذا خاصة في هذا العصر المعولم الذي أصبحت فيه كل الفضاءات مفتوحة على بعضها البعض، حيث مشاكل الغير هي أيضا مشاكلي. نحن اليوم مثلاً لا يمكن أن نعتبر أن مشكل الانهيار البيئي هو مشكل الدول الصناعية المتقدمة بل هو مشكل يهدد البشرية جمعاء. كما أن أزمة الرأسمالية العالمية لم تبق حبيسة الولايات المتحدة الأميركية، فلقد طالت نتائجها العالم أجمع. ثم هناك مشكل الإرهاب الذي لا يمكن القول بأنه يهدد فقط دولاً بعينها، وإنما يهدد العالم أجمع. أمام هذه المشاكل وغيرها لا يمكن القول إننا نشكل استثناء بصددها وبالتالي غير معنيين بها.

تتخذ أوهام الذاتية أشكال كثيرة نذكر منها ما يلي:
1 ـ وهم تعالي الذات: أي أفضلية الذات على الآخر، وهو ما يسقطنا في العنصرية وازدراء الآخر إما بسبب لون بشرته أو عرقه أو لغته، كما قد تكون هذه الأفضلية كذلك بسبب اعتقاد الذات أنها تملك جميع الحلول للمشاكل المطروحة، وأن تخبط الآخر هو بسبب افتقاره لهذه الحول. إن الاعتراف بالآخر يؤدي حتماً إلى التفكير في هذه الأفضلية المتوهمة، من هنا فالموقف العدائي اتجاه الغير يكون مفهوماً ما دام أن هذا الغير يكشف لي عن شيء أساسي أحاول أن لا أفكر فيه، ألا وهو طابعي العابر في الوجود ومحدودية أناي، لا أناي الفردية ولا أناي الحضارية.
2 ـ وهم كفاية الذات لنفسها: أي أن الذات تملك جميع المقومات الضرورية للوجود، وبالتالي فهي ليست في حاجة إلى هذا الآخر. هذا هو الموقف الذي سقطت فيه طالبان مثلاً عندما انغلقت على نفسها ورفضت جميع المعطيات الحضارية التي تميز الحياة المدنية المعاصرة. في هذا السياق يمكن القول أنه لا توجد درجة الصفر التاريخية، أي أننا لا يمكن أن نعود إلى البدايات الأولى من أجل الاعتماد فقط على أنفسنا واختراع كل شيء بذواتنا. أنا لست بحاجة إلى أن أخترع هذا القلم فقد اخترعه الآخرون وعليّ أن أستفيد منه وأخترع أشياء أخرى. إن الحضارة مشترك إنساني عام يضيف فيه كل شعب لبنة إلى اللبنات التي وضعها الآخرون. الحضارة البشرية أشبه بمنتج ساهمت فيه بشكل مباشر أو غير مباشر مجمل الشعوب الأخرى. وكمثال على ذلك نذكر النهضة الأوروبية التي لم تكن ممكنة لولا العمل الجبار الذي قامت به الحضارة العربية الإسلامية، من بحت وترجمة وتحقيق وإبداع سواء في مجال الطب والصيدلة والحساب والفلك والفلسفة. فالخطوة الرشدية هي الخطوة الأولى في النهضة الأوروبية.
أليس لهذا السبب حينما وضع نيل أمسترونغ رجله فوق القمر قال قولته الشهيرة: «إنها خطوة صغيرة لإنسان لكنها قفزة عملاقة للبشرية» ومعناه أنه لولا مجهودات الحضارات السابقة لما كان بالإمكان تحقيق هذا الإنجاز.
3 ـ وهم طهارة الذات: وهو وهم ناتج عما سبقه، إذ هناك من يعتقدون مع أنفسهم أنهم يملكون ذلك الصفاء الذي يجعل حضارتهم وفكرهم وثقافتهم نقية خالية من الشوائب. تاريخيا كانت النازية الهيتلرية هي أول من دفع بهذا الوهم إلى حدوده القصوى، صانعة بذلك مأساة أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. واليوم مازلنا نجد عند بعض الأفراد أو في هذا التيار أو ذاك هذا التمجيد المتعصب للعرق أو الدم أو للمعتقد الديني، هذه الهوية المتوحشة التي تمجد الذات وتتغنى بصفائها وطهارتها، لا يمكن أن تكون إلا مسألة وهمية ما دام أن كل ذات فردية أو جماعية تحمل نقائصها وسلبياتها التي تحاول جعلها طي الكتمان وعدم التفكير فيها. فالهوية التي نعتقد أنها صافية خالصة هي في الحقيقة مخترقة ومسكونة بدورها بالاختلاف رغم أنها تحاول أن تذيبه أو تتجاهله.
إذن كخلاصة لهذا الأمر يمكن القول أن الوجود البشري قائم بالضرورة على تعايش الهوية والاختلاف في الآن ذاته، بمعنى أنه لا يمكن للهوية أن تلغي الاختلاف، كما لا يمكن للاختلاف أن يطمس الهوية. يبدو إذن أن جوهر القضية يكمن في هذه النقطة بالضبط أي في كيفية تعايش الهوية والاختلاف وقبول بعضهما لبعض: كيف أعيش وأمارس هويتي، وفي الوقت نفسه أحترم اختلاف الآخرين.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©