السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الكتابة تتجدد في غربتها وبغربتها

الكتابة تتجدد في غربتها وبغربتها
10 يناير 2019 04:16

عبد السلام بنعبد العالي

ما دمنا في سياق الترجمة، وتمهيداً للموضوع، لنبدأ بمحاولة ترجمة هذا العنوان: «الكاتب ومترجمه». المشكل الذي سيواجهنا، كما لعل القارئ يخمن، هو ترجمة حرف الواو. فهل نكتفي باعتباره حرف عطف ونقول: L’écrivain et son traducteur أم نعامله باعتباره واو القضية، كما يسميه أحد الإخوة التونسيين، فنقول الكاتب وقضية المترجم L’écrivain et la question du traducteur. لكن لِمَ لا نؤوّله بمعنى «أمام»، فنقول: L’écrivain face à son traducteur. يحيلنا ظرف المكان «أمام» إلى المواجهة، وإلى وجهنا الذي نراه في المرآة، فكأن العنوان يقول: «الكاتب أمام مرآة مترجمه». أمام المرآة سيرى الكاتب وجهه خصوصاًإذا كان هو مترجمَ نصّه، إذا كان هو المؤلف والمترجم معاً. لكن، حتى في هذه الحال، يبقى هناك آخر، تبقى علاقة غيرية قائمة، وهي العلاقة بين لغة وأخرى. ولعل هذه هي العلاقة الأصلية، أو لنقل الخلفية الأساسية في عملية الترجمة. توسّط اللغة يجعل كل نصّ، حتى إن ترجمه صاحبه، ينتقل من لغة إلى أخرى، ومن فضاء ثقافي إلى آخر، ويتوجه إلى متلق مختلف. الترجمة أساساً علاقة بين لغتين، وفضاءين ثقافيين. إنها علاقة بين نصّين قبل أن تكون علاقة بين شخصين. فربما كان من الأفضل، والحالة هذه، أن يغدو العنوان: «النصّ وترجمته».
ما طبيعة هذه العلاقة؟ ما طبيعة العلاقة التي تربط النص بترجمته، أو ترجماته على الأصح؟ إنها على ما يبدو علاقة ألفة، أو علاقة وفاء، رغم ما يقال عن الترجمة من عدم الوفاء. ذلك أن عند النسخة حنيناً لا ينفك لأن تعود إلى أصلها وتواجهه كي ترى نفسها في مرآته. ورغم ذلك، فإن ما يطبع النسخة هو إحساسها الملازم أنها لم تف الأصل حقه. بهذا المعنى فكل ترجمة، مهما كانت قيمتها، فهي دوماً استشكالية. ربما لأجل ذلك يصر بنيامين في «مهمة المترجم» على التشديد على أن الترجمة لا تغني عن الأصل. لا يعني ذلك أنها تظل دوما دونه، وإنما أنها لا يمكن أن تكون من دونه. إنها ما تفتأ تعلق به.

مهمة المترجم
في «أبراج بابل» يتوقف جاك دريدا طويلاً عند معاني عنوان تمهيد التر بنيامين «la tâche du traducteur» الذي ربما نتسرع بنقله إلى عبارة «مهمة المترجم». يقول دريدا: «إن هذا العنوان يشير ابتداء من لفظه الأول la tâche إلى المهمة التي أناطنا الآخر بها، كما يشير إلى الالتزام والواجب والديْن والمسؤولية... إن المترجم مَدين... ومهمته أن يسدّد ما في عهدته». إلا أن صاحب التفكيك سرعان ما يدقق عبارته لينزع عن المسؤولية كل طابع أخلاقي فيؤكد أن المدين في هذه الحالة ليس هو المترجم. فالديْن لا يلزم المترجم إزاء المؤلف، وإنما يلزم نصّاً إزاء آخر، ولغة أمام أخرى. لكن من الذي يدين للآخر، أو على الأصح ما الذي يدين للآخر؟
سيجيب المتسرعون من غير تردد أن الأبناء مدينون لآبائهم، والفروع لأصولها، والترجمات للنصّ الأصلي. ولكن بما أن النص يطلب ترجمته ويحن إليها، بما أن لديه كما يقول بنيامين «حنينا إلى ما يتمم لغته ويكمل نقصها»، فهو أيضاً يكون مديناً لترجماته. فالأصل، كما يقول دريدا: «هو أول مدين، أول مطالَب، إنه يأخذ في التعبير عن حاجته إلى الترجمة وفي التباكي من أجلها». ذلك أن لديه رغبة في الخروج، وقد قال بنيامين رغبة في الحياة، في النمو والتزايد، رغبة في البقاء survie. فكما لو أن النصّ يشيخ في لغته فيشتاق إلى أن يرحل ويهاجر ويُكتب من جديد، ويتلبس لغة أخرى ويتنفس هواء آخر، وكما لو أن كل لغة تصاب في عزلتها، بنوع من الضمور، وتظل ضعيفة مشلولة الحركة، متوقفة عن النمو. «بفضل الترجمة، يكتب دريدا، أعني بفضل هذا التكامل اللغوي الذي تزوّد عن طريقه لغةٌ الأخرى بما يعوزها، وهي تزودها به بكيفية متناسقة، فإن من شأن هذا الالتقاء croisement، من شأن هذا التلاقي بين اللغات أن يضمن نمو اللغات وتزايدها».
على هذا النحو، ليست علاقة الأصل بالترجمة علاقةَ أساسي بثانوي، ومخدوم بخادم، ولا هي حتى علاقة أصل بنسخة كما يقال. فالترجمات ليست بالضرورة تدهوراً وسقطة تبتعد فيها النسخ عن أصولها. إنها اغتناء، بل إنها مجازفة قد تسفر عمّا لم يكن في الحسبان. لذا يستخلص دريدا في مكان آخر: «إن العمل لا يعيش مدة أطول بفضل ترجماته، بل مدة أطول، وفي حلة أحسن mieux ، إنه يحيا فوق مستوى مؤلفه». بفضل الترجمات إذاً فإن النصّ لا يبقى ويدوم فحسب، لا ينمو ويتزايد فحسب، وإنما يبقى ويرقى sur-vit.
كيف نفهم هذا الرقيّ، هذا الارتقاء؟ غنيّ عن البيان أن الأمر لا يتعلق، ولا يمكن أن يتعلق بارتقاء قيميّ بمقتضاه تكون الترجمات أكثر من أصولها جودة، وأرقى قيمة أدبية وأعمق بعداً فكرياً. المقصود بطبيعة الحال بعبارة au dessus des moyens: فوق طاقة المؤلف. المعنى نفسه يعبر عنه أ. إيكو في حديثه عما كان يخالجه عندما يقرأ نصوصه مترجمة، يقول: «كنت أشعر أن النصّ يكشف، في حضن لغة أخرى، عن طاقات تأويلية ظلت غائبة عني، كما كنت أشعر أن بإمكان الترجمة أن ترقى به في بعض الأحيان».

الطاقات التأويلية
لعل أهم ما في اعتراف إيكو هو حديثه عن «الطاقات التأويلية» التي ينطوي عليها النصّ، والتي تظل غائبة عن صاحبه مغمورة في لغته، والتي لا تنكشف إلا في حضن لغة أخرى، ولا تظهر إلا إذا لبست حلة جديدة وكُتبت من جديد. ربما كان هذا هو المعنى ذاته الذي يعنيه دريدا حينما يقول إن النص عندما يُنقل إلى لغات أخرى فإنه يحيا «فوق مستوى مؤلفه»، فوق مستواه يعني أساساً خارج رقابته وخارج سلطته autorité من حيث هو مؤلف وauteur. فوق مستواه يعني أنه لا يملك أمامه حيلة. ذلك أن المؤلف سرعان ما يتبين عند كل ترجمة أنه عاجز عن بسط سلطته على النصّ لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثقافية. وهو يتأكد من ذلك كلما حاول هو نفسه نقل أحد نصوصه إلى لغة أخرى، إذ سرعان ما يصطدم بالصعوبات التي يطرحها نصه، فيتبين اشتراك ألفاظه، ولبس معانيه، وتعدد تأويلاته. والغريب أنه يحس أنه لم يكن ليتبين هذه الصعوبات، ولا ليدرك اشتراك ألفاظ نصه ولبس معانيه لولا سعيه إلى نقله إلى لغة أخرى. فكأن اللغة المترجِمة هي التي تسلط الأضواء على النص الأصلي، فتكشف، حتىللمؤلف نفسه، ما تضمره اللغة الأصلية، بل إنها تبين في بعض الأحيان عن نواقص الأصل. فكأن كشف خصائص الأصل لم يكن له أن يتم لولا الترجمة. وكأن اللغة، بفعل الترجمة، لا تكتفي بأن «تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها»، كما كتب الجاحظ، وإنما تسعى أيضاً لأن «تفضحها».
إننا هنا أمام عملية أشبه ما تكون بتحليل نفسي للنص une psychanalyse du texte. ذلك أن الترجمة ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل المعاني في اختلاف عن ذاتها، لا تحضر إلا مبتعدة عنها مباينة لها، خصوصاً عندما تكون مرغمة على التنقل بين الأحقاب والتجوّل بين اللغات. على هذا النحو، فإن الترجمة لا تضمن حياة النص، أي نموه وتكاثره فحسب، بل تضمن حياة المعاني والأفكار. حينئذ تغدو الأمانة رهينة بابتعاد الترجمة عن لغة الأصل وخيانتها لها بمعنى من المعاني. كتب هايدغر تقديماً لإحدى ترجمات نصوصه إلى الفرنسية: «بفعل الترجمة يجد الفكر نفسه وقد تقمص روح لغة أخرى. وبذلك فهو يتعرض لتحوّل لا محيد عنه. إلا أن هذا التحول قد يغدو خصباً لأنه يبرز الطرح الأساس للسؤال في ضوء نور جديد». كأن الفيلسوف الألماني الذي كتب هذه المقدمة سنة 1932 لترجمة الجزء الأول من أسئلته، يتنبأ هنا بما سيعرفه فكره في ترجماته الفرنسية، أقول الترجمات، لأن نصوص هايدغر ما فتئت تترجم وتعاد ترجمتها.
إن كانت الترجمات تعلق بالأصل ولا تقدر أن تحيا من دونه، فلأنه هو أيضاً في أمسّ الحاجة إليها، على الأقل لكي تشخص أمراضه، وتكشف عن أعراضها. هذه العلاقة المتبادلة، هذا الديْن المتبادل، هذه الحاجة المتبادلة لابد وأن تجرنا، شئنا أم أبينا، إلى العودة إلى الأصل حينما نكون في الترجمات، وإلى الخروج إلى الترجمات حينما نكون في النص. فكما لو أن المعاني هي في حركة الانتقال trans-lation، وفي لعبة الاختلاف بين النصوص وبين اللغات.

الأصل والنسخة
على هذا النحو تبدو المنشورات مزدوجة اللغة، حيث يسكن النص المترجم بجوار الأصل، وحيث يتواجه النصان ويقف أحدهما أمام الآخر ويرى نفسه في مرآته، تبدو هذه المنشورات، لا نشراً للنص ولا نشراً لترجمته،وإنما نشراً لحركة انتقال لا تنتهي بين «أصل» ونسخة. فهي إذاً لا تتوجه نحو قارئ لا يحسن اللغة الأصل، ولا نحو ذاك الذي يجهلها، وإنما نحو قارئ يُفترض فيه لا أقول إتقان، وإنما على الأقل استعمال لغتين يكون مدعواً لأن يقرأ النص بينهما، قارئ لا ينشغل بمدى تطابق النسخة مع الأصل، وإنما قارئ مهموم بإذكاء حدة الاختلاف حتى بين ما بدا متطابقاً، قارئ غير مولع بخلق القرابة، وإنما بتكريس الغرابة، قارئ يبذل جهده لأن يولّد نصاً ثالثاً بعقد قران بينالنصين واللغتين.
لعل هذا الولع بتوليد الإشكالات، وإحداث البون، هو الذي سمح لصاحب مهمة المترجم ألا يقتصر على القول بأن النسخة لا تستغني عن أصلها، وإنما أن يذهب حتى التأكيد بأن الأصل ذاته لا يُغني عن ترجماته. إنه لا يكتفي بالقول إن كل كتابة في لغة أخرى تحنّ إلى الكتابة الأولى، وإنما إن كل كتابة تتجدد في غربتها وبغربتها. كل كتابة في لغة أخرى هي كتابة أخرى. في هذا المعنى كتب امبرتو إيكو: «عندما أقرأ ترجمة شاعر كبير لقصيدة شاعر كبير آخر، فلأنني أعرف الأصل وأريد أن أعرف كيف آلت القصيدة عند الشاعر المترجِم». أو لنقل نحن بلغة دريدا: لأنني أعرف الأصل، وأريد أن أعرف كيف ارتقى.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©