الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

الطارش والبوسطة والتلغراف.. أصدقاء الأمس

الطارش والبوسطة والتلغراف.. أصدقاء الأمس
22 مارس 2019 03:17

هناء الحمادي (أبوظبي)

«السلام عليكم، حضرة جناب الفاضل الأكرم المكرم، إن سألتم عنا، فنحن بخير وعافية، لا نشكو بأساً إلا من عدم رؤية وجهكم الكريم».. تلك كانت فحوى رسائل زمان، برغم بساطتها وبما تحمل فيها من محبة ومودة إلا أنها كانت تبث روح الأمل والتقدير.. هكذا إن أردنا المقارنة بين وسائل الاتصال القديمة، فإنه في السابق تعتمد على تلقي الخبر، بينما اليوم المشاهد أو المستمع أو القارئ هو من يصنع الخبر.
بين التواصل والتقارب والعلوم والأخبار، ومن الرسائل إلى الطارش والبوسطة، ومن الهاتف الأرضي إلى البريد الإلكتروني، أصبحت أنواع التواصل متعددة وأدواته متجددة، تنقل الأخبار عبر القارات والمحيطات في ثوانٍ، فبعد أن كانت الأخبار تغمرها شبكات المودة والمودة، بلا صحف أو هواتف أو شبكات عنكبوتية فقط أخبارهم على ألسنتهم كأداة تواصلهم الفطرية بات اليوم بـ«كبسة زر أو هاي» تنتقل الأخبار الجديدة والمتجددة بوسائل مختلفة.

رسائل الطارش
يسترجع الدكتور راشد أحمد المزروعي، الكاتب والباحث التراثي، تلك الحقبة، ويبين أن التواصل بين الناس قديماً كان يتم عن طريق الأشخاص، ويقصد بالتواصل هنا ما يطلق عليه الآن «البريد»، حيث لم تكن هناك رسائل أو سيارات لنقل الرسائل بين الناس، وكانوا إن أرادوا أن يبلغوا رسالة أو وصية لأحدٍ ما في منطقةٍ أخرى يرسلون مندوباً معيناً يسمّونه «طارش أو نديب».
وعن الطارش يقول المزروعي: «هذا الطارش أو النديب ربما يكون راكباً على راحلة أو راجلاً، ليصل إلى الشخص المعني، ويبلغه الرسالة أو الوصية شفهياً، ويمكن أن يأخذ معه الرد فوراً أو ربما لا تحتاج الرسالة التي نقلها إلى رد فيغادر بعد ذلك، وقد استخدمت هذه المصطلحات في أشعارهم، وفي الأمثال الشعبية، قالوا «أرسل حريصاً ولا توصّيه» أي أرسل شخصاً ذكياً ونبيهاً ليبلغ رسالتك للغير ولا يحتاج منك الشرح الكامل والتأكيد وغيره، فهو عارف للموضوع وسينهيه معهم، وقد يسمى هذا الشخص «طارش»، أما في مسألة الأفراح والدعوات لحضورها فيسمون الطارش أو النديب في هذه الحالة «الداعي»، وقد جاء هذا المصطلح من الدعوَة للحضور، ويمكن أن يكون هذا «الداعي» راكباً سيارة أو جملاً أو راجلاً أو غيره.
وبمرور الوقت تطور الوضع، وأصبحت هناك سبل أخرى للتواصل التي دخلت مبكراً بين المواطنين والبلدان الأخرى، فكان المواطنون يرسلون رسائل لأهلهم المسافرين مع شخص متفرغ، لذلك يسمونه «الشريطي»، ثم أطلق عليه فيما بعد «بُوسطة»، وهي كلمة إنجليزية معرّبة من «postoffice»، وهو يجمع الرسائل من المسافرين ويسافر بها بحراً إلى الإمارات، ويقوم بتوزيع الرسائل للأهالي، وكل يقوم بذلك لمنطقته، ثم يخبرهم عن تاريخ عودته، فيكتبون رسائلهم وردودهم فيما بعد، ويأتون بها له، ثم جاء بعد ذلك البريد، ورسائله وسمّوه «الميل»، وهو أيضاً كلمة معربه من «Air mail»، أي بريد جوي، وفي هذا الصدد عبر الشاعر ربيع بن ياقوت، وقال في أبياته هات القلم قم هات لسجال.. بندب لهم في «الميل» مرسول». ويضيف: «بعد ذلك جاءت مرحلة «التلغراف» وأدخلته بريطانيا لتسهيل عملياتها في الخليج بالتواصل السريع، وهناك اتفاقية قديمة بين الإمارات وبريطانيا بهذا الخصوص، وقد سمّوا ذلك «التيل» و«الويلس» ثم بعد ذلك جاء التلفون، ثم وسائل التواصل الحديثة، ودخول عصر الإنترنت».

مجالس نقل الأخبار
تقوم العلاقات الإنسانية على القيم والأخلاق والتلاقي في المناسبات، لذا يعتبر هذا التواصل المباشر، هو الذي أنتج الموروث التراثي والثقافي والإنتاج والإبداع في مختلف الجوانب.. وحول ذلك يقول الباحث الدكتور عبد الله الطابور: «في مجتمعاتنا المحلية ساعد التواصل على الإنتاج المادي والمعنوي، وتبادل الخبرات والمصالح، وبناء المجتمع المحلي على أسس من العلاقات، القائمة على العادات والتقاليد والأعراف والضوابط الاجتماعية، وذلك ساهم في ظهور اللهجات واللحن الصوتي والسمات العامة للشخصية، التي تختلف حسب البيئات التي عاش فيها الإنسان الإماراتي، مثل «البحرية والريفية والبدوية والجبلية» التي شكلت هوية المجتمع المحلي وطابعه الثقافي وتكوينه.
ويتابع: «كان التواصل بين عيال الفريج والمناطق الأخرى عبر «المجالس الرجالية والنسائية»، وهي تشبه البرلمانات لأنها تطرح فيها الكثير من القضايا والهموم، وتحل بوجود الوجهاء والحكماء والرجال من كبار السن.

رسائل الشوق
بالرجوع إلى مرحلة الستينيات يمر شريط الذكريات في حياة فاطمة المغني تلك الطفلة التي سخرت أناملها الصغيرة، وهي في الصف الخامس، وبعمر 10 سنوات، أن تكتب الرسائل للأهل والجيران، خاصة النساء اللاتي وجدن فيها البلسم الشافي الذي منذ النظرة الوهلة تعرف ما يدور بخلدهن ومشاعرهن لأزواجهن أو أبنائهن أو احد من أفراد العائلة.
فاطمة المغني خبيرة التراث، لم تكن تدرك أنها من خلال كتابتها الرسائل كانت الإنسانة التي وُجد فيها الأمل، حيث كانت النساء يأتين إلى البيت يبثن لي مشاعرهن لكتابة «المكتوب» أو «البردة» التي تكتب للمبايعات، وهي رسائل للرجال، حيث ترسل البردة من بيت إلى بيت حول خبر معين، أما المكتوب فكان يرسل آنذاك لدولة الكويت والبحرين، ولم يقتصر المسمى على ذلك، بل كانت الرسائل ترسل عن طريق «البُوسطة»، وهو الشخص الذي يقوم بإرسال الرسائل من الكويت إلى الإمارات، حيث يعود محملاً بالهدايا ورسائل الأخبار السارة والمحزنة أحياناً.
كانت كتابة الرسائل أيام زمان تكتب بالخط الكبير، وعن ذلك تقول المغني: «كان حجم الكتابة يصل ما يقارب إلى 3 سم، وكان يكتب بالحبر السائل، خاصة ماركة «باركر» في أيامي، أما فحوى الرسالة فكانت مقدمتها تكتب هكذا:
السلام عليكم، حضرة جناب الفاضل الأكرم المكرم، إن سألتم عنا فنحن بخير وعافية لا نشكو بأساً إلا من عدم رؤية وجهكم الكريم.. أما بعد، فإنه جاءنا فلان لخطبة ابنتنا، ونريد أن نعرف متى بتردون لنرد عليهم»، وتضيف: «هكذا كانت تكتب الرسائل التي كانت على صفحة واحدة بيضاء بحجم A4، حيث ينتظر الرد على الرسالة، والتي تستمر لمدة من 2 إلى 3 أشهر، وتصل مع أي شخص راجع للبلاد».

شو العلوم
بروح الماضي وذكريات الزمن الجميل، تذكر بدرية الشامسي، دكتوراه في علوم التراث، أن أهل الجبال كانوا يأتون إلى المناطق الساحلية لشراء لوازمهم من المؤن كالسمك وبعض احتياجاتهم من ملابس، وغيرها، كل حسب احتياجه، وعندما يأتون إلى السوق، ويجتمعون بالرجال من باعة ومشترين يعرفون الأخبار وينقلون لهم الأخبار، وعندما كان أحدهم يعلم بأن شخصاً ما سينزل مثلاً للمناطق الساحلية أو غيرها يخبره بما يريد أو يوصيه بنقل خبر ما للشخص الذي يريد، وعند عودته يبلغه: «يسلم عليك فلان ويخبرك أن عرس ولده في اليوم الفلاني.، حياكم الله معزومين انتو وربعكم».
وتقول: «أما في ستينيات القرن الماضي فعندما كان الرجال يسافرون للعمل، كانت ترسل الرسائل عبر الرجال الذين يتنقلون من منطقة لأخرى، كالتجار، وغيرهم، وكان يطلق عليه «بُوسطة»، حيث يحمل معه الرسائل والأغراض التي يرسلها الرجال لأهاليهم من المناطق التي يعملون بها، وكان يتم الإعلان عن رحلات القوافل والمراكب بين مختلف المجالس، والتي كانت وسيلة التواصل الرئيسة آنذاك».

طارش خير
ويقول عبيد بن صندل، باحث تراثي: «إن الرسائل في الماضي لها طابع مختلف بداية من الشخص، الذي يوصل الرسالة وحتى وصولها لأصحابها، فالجميع كان في شوق ولهفة للاطمئنان على أهاليهم، لذلك كانوا يستعينون بـ«الطارش» الذي يعرفه جميع أهل الفريج، ويتصف بالثقة والأمانة والصدق وطول البال»، موضحاً أن الرسائل كانت تسمي آنذاك بـ «الخط»، وهي أوراق تكتب عن طريق أقلام الريشة التي كانت تغمر في قارورة تضم الحبر الأزرق، وتكتب الرسالة بخط كبير وواضح، وتوضع في مظروف كان يسمى آنذاك «حفيظة»، وآخرون كانوا يكتبون عن طريق جريد النخل، حيث يقلم بشكل حاد ومدبب ويوضع في الحبر، وتكتب بعد ذلك الرسائل».

نمط الحياة
تشير المستشارة التربوية وداد الشاعر، إلى أنه مع التكنولوجيا الحديثة أصبح هناك تقارب كبير مع وصول الإنترنت إلى الساحة، حيث أضاف إلى الحياة البشرية الكثير من المظاهر، وغيّر نمط الحياة كليّاً، مما أوجد الكثير من الإيجابيات والسلبيات التي ينبغي التخلص منها، ومن المظاهر ما يعرف بالمواقع الإلكترونية متعددة الأغراض، التي ساهمت وبصورة لا مثيل لها في إيصال المعلومات بأسرع ما تكون من أقصى الأرض إلى أدناها بغمضة العين وانتباهها.
وتضيف: أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي قناة فضائية، وإذاعة مسموعة، وصحيفة مقروءة، لم تترك مجالاً لمتعقب، مما ساهم في فتح قنوات الاتصال، والتواصل بين مختلف الجنسيات والأعراق والأعمار بشكل كبير حتى صار العالم قرية صغيرة.

طارش زمان
محمد بن سالم الحولة، من فريج «الميان» شخصية معروفة عند أهل رأس الخيمة، فقد عرفه أهل المنطقة بكثرة سفره المتكرر طوال العام، نظراً لمكانته بين التجار وكرجل يبحث عن رزقه في رحلاته التجارية، وبمجرد معرفتهم بسفره يتسارع الكثير من الأهل والجيران في تسليمه الكثير من الأعراض لأهاليهم في الكويت والبحرين، وهذه الطريقة تسمى «الندبة»، وغالباً ما تكون الأغراض المرسلة هي المال أو بعض الأكلات أو أغراضاً أخرى، وكان ينقلها بأمانة كما سلمت، وكان رحمه الله يستغرق في سفراته 3 أشهر على السفن البحرية، لكن كل أهل المنطقة كانوا على ثقة بأنه سوف يأتي محملاً بالكثير من الأخبار السارة والهدايا الكثيرة من التمر والمير وبعض الأموال التي أودعت لديه.

العلاقات الاجتماعية
يقول خليفة المحرزي، مدرب ومستشار بمجال الأسرة: «تفاعل الأشخاص مع مواقع التواصل الاجتماعي حالياً يؤثر بشكل سلبي على العلاقات الاجتماعية والتواصل البشري، حيث يقضى أفراد الأسرة الكثير من الوقت في تصفح تلك المواقع، مما يحرم أفراد العائلة بالاستمتاع بتمضية الوقت سوياً، وهذا يؤدي إلى ضعف في مهارات التواصل والترابط الأسري، بالإضافة إلى أن الشخص الذي يتواصل مع أسرته أو أصدقائه عبر المواقع لا يستطيع نقل مشاعره أو رؤية الإيماءات غير اللفظية لديهم، مثل لغة الجسد وتعابير الوجه».

مقتنيات أثرية
راشد الشهياري الذي يحتفظ بالكثير من الهواتف النقالة التي بدأت بالظهور في السبعينيات، في متحفة الذي يعرف باسم «متحف بو عمار» بمنطقة أعسمة في رأس الخيمة.. قال إن علاقته بالمقتنيات الأثرية قوية، فكل قطعة أثرية قديمة موجودة تعتبر جزءاً من الماضي، وهذا التراث عزيز على قلبه، ولا يمكن التفريط فيه، يقول كل ما أملكه غير قابلة للبيع، فهي كنز غالٍ عليّ فهي تحمل رائحة وعبق الماضي والأجداد». وأوضح أن جمع المقتنيات التراثية القديمة هواية صعبة، فليس من السهل الحصول عليها، فهي تحتاج إلى البحث والتقصي عنها وشراء البعض منها من التجار بأسعار غالية الثمن. ويضيف: بعد أن كان التواصل ونقل الأخبار بالرسائل ظهرت الهواتف النقالة، والتي تعددت مسمياتها وأحجامها، وبرغم أن الكثير لم يكن يملك المال لشرائها إلا أن البعض استعان بها ليعرف آخر الأخبار في ثوانٍ معدودة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©