الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مخاطر العولمة.. وآليات المواجهة

مخاطر العولمة.. وآليات المواجهة
21 مارس 2019 01:07

تلقيت دعوة كريمة من معالي وزير الإعلام العُماني الدكتور عبد المنعم الحسني للمشاركة في الفعاليات الثقافية لمعرض الكتاب الذي انعقد مؤخرًا بمسقط في محله الجديد وفي حُلته الأكثر بهاءً وتنظيمًا. كان موضوع محاضرتي في اليوم الأول للمعرض بعنوان «العولمة وتأثيرها في العالم العربي»، وهو الموضوع الذي اقترحته اللجنة المنظمة للمعرض. وعلى الرغم من أن موضوع «العولمة» في حد ذاته يبدو مستهلكًا بفعل كثرة الكتابات التي تداولته عبر العقود الماضية، فقد رأيت أنه لا يزال هناك شيء مفيد يمكن أن نقوله في هذا الصدد، حينما نعيد النظر في مفهوم «العولمة» من خلال وضع العالم الراهن وما طرأ عليه من تحولات عبر العقود العديدة المنصرمة، لنكتشف علاقات جديدة بين هذا المفهوم والنظام الذي يحكم عالمنا الراهن. وهناك ملاحظات جوهرية حول حقيقة هذا المفهوم، ينبغي أن ننتبه إليها.

معنى العولمة
يُقال عادةً إن العولمة هي نظام عالمي جديد يجعل العالم أشبه بالقرية الواحدة: فالناس في جميع أنحاء العالم يشربون الكوكا كولا، ويستهلكون الوجبات الغذائية التي تقدمها لهم شركة ماكدونالدز، مثلما يرتدون أحذية ريبوك الرياضية التي رفعت شعارًا لها هو: «على كوكب ريبوك لا وجود للحدود». وهم يتابعون عمليات الاندماج التي تحدث بين الشركات العالمية الكبرى، وخاصة في مجال تصنيع السيارات والسلع التي يستهلكونها. ويحاكي كثير من الشباب في أرجاء المعمورة بعض السلوكيات اليومية في المجتمع الغربي وخاصة الأميركي، فيرتدون ملابس الجينز والـ«تي شيرت»، ويستمتعون بموسيقى الديسكو وغيرها مما يستجد في الغرب. والناس في أرجاء المعمورة يتابعون في اللحظة ذاتها كل ما يجري أمامهم من أحداث سياسية واقتصادية وفكرية وفنية ورياضية، بل ويتابعون خطوط الموضة، عبر الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت. فهذا الفيض من البث الإعلامي ينتقل إليهم أيضًا على الفور بلا رقيب وبلا حدود عبر الأجهزة التكنولوجية التي يملكونها في منازلهم أو حتى التي يحملونها في جيوبهم أو سياراتهم ، فمثل هذه الأجهزة تجعل العالم مفتوحًا أمامهم بلا حدود.
غير أن أول ما ينبغي أن نحتاط منه هو ذلك التصور الشائع والساذج للعولمة على أنها نظام جديد يعمل على توحد البشر ومشاركتهم في هوية واحدة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. وسذاجة هذا التصور لا تكمن فحسب في حسن ظنه الواهم بالعولمة، أعنى في غفلته عن آثارها السلبية وتحدياتها بالنسبة لبلدان العالم الثالث، وإنما تكمن أيضًا في سوء فهمه لمعنى الهوية بتصورها على أنها نظام واحد يسود البشر على المستويات كافة، دونما تساؤل عما إذا كان هذا النظام أو ذلك التوحيد نابعًا من الذات أم مفروضًا عليها. حقا إن الهوية تفترض دائما حالة من التوحد لدى شعب أو أمة ما، ولكنه توحد يكون نابعًا من الذات القوميــة ويكمــن خــلفه مسار طويل من التراث والتاريخ الذي تشكلت عبره تلك الهوية أو الملامح الخاصة التي تميز شعبا أو أمة ما. فالهوية تعني الشخصية، والشخصية تعني الخصوصية، والخصوصية تعني الاختلاف؛ ومن ثم فإن الهوية Identity تكمن دائمًا في الاختلاف Difference. فحالة التوحـد التي تميـز أمة ما لا تعني على الإطلاق التوحد مع «الآخر»، بل تعني العكس تمامًا: التوحد في مقابل «الآخر»، والاختلاف عن «الآخر»، وتأكيد خصوصية الذات واستقلالها في مواجهة «الآخر» (وهو ما يصدق على شخصية الفرد مثلما يصدق على شخصية الأمة). والعولمة بالمعنى الذي تقدم من شأنها طمس هذه الخصوصية؛ وبالتالي طمس وتفتيت الهوية.
كما أننا ينبغي أن نحتاط عند استخدامنا لكلمة «العولمة»، بحيث لا نفهمها على أنها مجرد اسم جديد لظواهر قديمة عبر التاريخ. فالعولمة ليست مجرد شكل جديد من الحركات الاستعمارية أو التوسعية عبر التاريخ التي كانت تسعى إلى السيطرة على العالم وتأسيس امبراطوريات عظمى تخضع لحاكم واحد، ويحكمها نظام وقانون واحد، وتدين بديانة واحدة.. إلخ. فمثل هذا التصور سيكون تبسيطًا مخلًا لظاهرة العولمة من حيث نشأتها وآلياتها. فالعولمة -بخلاف الإمبريالية التقليدية- لا تنطلق في توسعها وانتشارها العالمي أو الكوني من مركز واحد، وإنما تنطلق من مراكز متعددة قابلة للتغيير ومنفتحة أمام انضمام ومشاركة مراكز جديدة باستمرار. وفضلاً عن ذلك، فإن ظاهرة العولمة نفسها قد أصبح لها نوع من الاستقلال النسبي عن الدول التي ساندتها ومكنت لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها.

مخاطر العولمة
إن الملاحظات السابقة ملاحظات محايدة أو شبه محايدة، بمعنى أنها تكتفي برصد تجليات ظاهرة العولمة وآلياتها، ولكنها مع ذلك تؤهلنا لاستخلاص أحكام تقويمية فيما يتعلق بنتائجها وآثارها.
ويمكن أن نقرر منذ البداية أن العولمة ليست كلها شر كما يتصور البعض: ذلك أن الظواهر المصاحبة للعولمة مثل: ظواهر التطور التكنولوجي الهائل، وثورة الاتصالات والمعلومات، وحرية حركة رأس المال .. إلخ ، كل هذا من شأنه أن يكفل سهولة الحركة والانتقال والانفتاح على العالم، وتوسيع الآفاق أمام الإنتاج، ويُسر عملية التلقي للثقافات المختلفة، وتحفيز الإبداع على كافة مستوياته. ومع ذلك، فإن كل هذه المزايا التي تكفلها الظواهر المصاحبة للعولمة لا تمتد إلى كل أفراد وشعوب العالم، وإنما تمتد إلى بعضها دون بعض. أعني أن أفراد وشعوب البلدان التي تشارك في صنع ظاهرة العولمة أو تكون في سبيلها إلى المشاركة فيها، هي التي يمكن أن تجني بعض ثمار العولمة، أما بلدان العالم الثالث -ومنها بلداننا العربية- التي لا تشارك في صنع الظاهرة، فإنها ستواجه تحديات قوية تصبح بمثابة مخاطر شديدة مختفية وراء سطح هش من المنافع الظاهرية العابرة. وهذه المخاطر يمكن إجمالها فيما يلي :

1- إن الرأسمالية الكوكبية نظام يسعى إلى السيطرة على اقتصاد العالم ويتخذ من الربح هدفًا وحيدًا في ظل أسواق جشعة يحكمها قانون التطور والبقاء للأصلح: إما أن «تأكل أو تؤكل». ومن ثم، فمن الوهم تصور أن خلاص بلدان العالم الثالث وإنعاش اقتصادها يكمن في إفساح المجال فحسب للشركات الكوكبية: فمثل هذه الشركات لا تقوم بضخ الأموال بهدف الاستثمارات في أسواقها العالمية، وإنما تقوم على جمع المدخرات ورؤوس الأموال من هذه الأسواق. كما أنها لا تفتح مجالاً حقيقيًا للعمالة في هذه الأسواق؛ لأن مراكزها في الأسواق هي مصانع متخصصة قابلة للفك والتركيب في أي لحظة وتعول على التكنولوجيا والقلة من الكفاءات المدربة.

2- وإذا أضفنا إلى هذا أن هذه الرأسمالية الكوكبية هي التي توجه سياسة الدول العظمى من خلال المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وصندوق النقد والبنك الدوليان، ومنظمة التجارة العالمية، أدركنا مدى الخطورة الواقعة على الدول الأخرى، وخاصة دول العالم الثالث. فعنـدما تصبح السياسة أداة في يد المصالح الاقتصادية تصبح الدعاوى السياسية هشة وغير حقيقية. فالديمقراطية الليبرالية للغرب الرأسمالي التي بشر بها فرانسيس فوكوياما باعتبارها «نهاية التاريخ»، تصبح مزيفة عندما تخضع لازدواجية المعايير: وهذه الازدواجية تبدو في التفرقة في المعونات الاقتصادية بين الدول، وفي توقيع العقاب الاقتصادي على بعض منها، وفي التدخل في شؤونها الداخلية بحجة تطبيق مبدأ «حق التدخل الإنساني».

3- تقليص مفهوم الدولة القومية: وهو من أشد تحديات العولمة. فالرأسمالية الكوكبية كما لاحظنا تستخدم شركات ليست متعددة الجنسيات أو القوميات بقدر ما هي متعدية للقوميات أو معادية لها، فهـي لا تعـترف بالحـدود الإقلـيمية: فعملاؤها ليسوا مواطني أمة بعينها، وإنما هم قبيلة كوكبية من المستهلكين تحكمهم الحاجات والرغبات التي إن لم تكن مصنوعة بفعل الطبيعة، فسوف تتكفل أجهزة الدعاية والإعلان الجبارة بصنعها. وبذلك يتم تهميش كثير من الوظائف التقليدية للدولة سواء في مجال الخدمات الحكومية مثل: المرافق العامة والبنية الأساسية من طرق وشبكة تليفونات واتصالات وخــدمات البريـد وسكك حديدية وشركات طيران، أو حتى في مجال القضاء الذي أصبح تتدخل فيه مؤسسات قضائية دولية. ولا شك أن تقليص سيادة الدولة يهدد مسألة الهوية؛ لأنه يجعلها في مواجهة خطرين يمثلان تحديًا قويًّا: أحدهما يتمثل في انتزاع سيادة الدولة لمصلحة كيانات دولية أكبر وأكثر هيمنة، والآخر يتمثل في تفتيت الدولة إلى كيانات عرقية ودينية وعصبيات إقليمية. ففي مواجهة طغيان العولمة الكاسح في إطار دولة قد تقلصت سيادتها، تبحث شعوب بعض البلدان عن مرفأ تتشبث به لتأكيد هويتها، فلا تجد سوى العرق أو الدين أو العصبية. وهذا هو الحال بالنسبة لأكراد العراق والصرب في كرواتيا والنزاع العرقي الديني في السودان والعصبيات الإقليمية في أفغانستان وغيرها من بلداننا العربية، ومجازر التصفية العرقية والصراعات القبلية في كثير من بلدان أفريقيا ليست ببعيدة عن الأذهان. والواقع أن الحركات الأصولية في عالمنا الراهن هي مجرد رد فعل على ظاهرة العولمة التي تعمل على انكسار الذات القومية، وتضخيم الصراعات والنزاعات المناوئة للدولة بهدف تفكيكها، وتحويل العالم إلى قرية مالية تفتقد علاقات القرية وتقاليدها الإنسانية. وكل هذا يؤدي إلى استجابة انفعالية تبحث عن حضن دافئ في عراء العولمة، وتسعى إلى التفتيش عن جماعة أولية أو مرجعية تكون بمثابة الأصل والملاذ معًا.
ولا شك أن ظواهر التقوقع والنكوص والارتداد التي تتمثل في الحركات العرقية والانفصالية وحركات المد الديني الأصولي الذي يسعى إلى الاستيلاء على السلطة -هي كلها ظواهر تعبر عن استجابات سلبية فاشلة إزاء تحدي العولمة. فليس هناك سوى استجابة واحدة ناجحة في مواجهة العولمة، وهي: الاعتراف بالظاهرة نفسها والدخول فيها، لا بالخضوع السلبي لها، وإنمــا بمواجهة آلياتها بآليات مغايرة قادرة على كفالة الحماية من مخاطرها. ويمكن إيجاز أهم هذه الآليات فيما يلي:

* المطالبة والضغط الجماعي من قبل بلدان العالم الثالث -بما في ذلك البلدان العربية- من أجل إقرار قوانين دولية لها قوة سياسية كوكبية قادرة على إحداث توازن في الثقل إزاء القوة الاقتصادية الكوكبية. ولا شك أن هذه المطالبة والضغط المستمر سيلقى قبولاً، خاصة أن بعض الدول الكبرى نفسها بدأت تستشعر مخاطر ظاهرة العولمة على سيادتها، وعلى إمكانية خلق أزمات اقتصادية عالمية تمتد إلى هذا الدول نفسها، باعتبار أن هذه الظاهرة بدأت في دخول مرحلة الانفلات.
* تكوين التكتلات الاقتصادية والتعاون في مجال التنمية الشاملة بين الدول المتقاربة في مستوى تطورها. وفي هذا الصدد يتعين على خطاب أهل الفكر والسياسة في عالمنا العربي طرح قضايا التنمية والتكـامل عـلى مستـوى الدول العربية بدءًا من إنشاء سوق عربية مشتركة، وتكتل اقتصادي قوي يمكن من خلاله استثمار موارد هذه الدول وتوزيع عائداته توزيعًا عادلاً.
* بناء نظم ديمقراطية قوية تحكمها سيادة القانون والحياة النيابية والتعددية السياسية، لأن هذا من شأنه حماية الدولة واقتصادها من النزعات الانفصالية والعرقية ومشكلات الأقليات التي يمكن أن تعجل بانهيار سيادة الدولة من الداخل، وتقضي على هويتها.
* تأكيد مفهوم الذات القومية من خلال الحفاظ على الهوية الثقافية في سائر تجلياتها في التراث والفكر والفن والأدب. وهذا التأكيد للذات القومية يستدعي أيضًا طرح قضية الإبداع الذاتي القائم على استثمار وتنمية الموارد الذاتية، باعتباره من أولويات العمل السياسي في المرحلة الراهنة، وهذا الإبداع الذاتي لا يمكن أن يتحقق بدوره إلا من خلال مراكز ثقافة وتعليم وبحث علمي وتكنولوجي قادرة على خلق كوادر علمية عالية التأهيل، وعمالة مدربة تفي بمتطلبات التطور التكنولوجي في عصرنا الراهن.
* تأكيد الهوية من خلال الثقافة والتعليم، فالحقيقة أن التغيير في العقل والروح، وهو أمر لا يتوقف على تغيير سياسي راديكالي في شكل الحكم، وإنما يتوقف على إرادة سياسية تسعى إلى تغيير حقيقي من خلال التعليم والثقافة، فبهما معًا يتغير وجه العلم والمعرفة، الذي يتحول إلى إبداع علمي وتكنولوجي في النهاية؛ ويتغير وجه الفكر والثقافة الذي يُفضي إلى الإبداع في الفكر والآداب والفنون.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©