الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نبي خَزَري: الشعر سفرٌ نحو الخلاص

نبي خَزَري: الشعر سفرٌ نحو الخلاص
19 مارس 2020 00:00

أوّل من عرّف به عربياً، ونقل له باقة من أشعاره من الفرنسية إلى العربية، كان الشاعر اللبناني الراحل ميشال سليمان. كان ذلك في نهاية السبعينيات من القرن الفائت، وكان الشاعر الأذربيجاني الكبير نبي خَزَري على وشك زيارة بيروت، بناء على دعوة من زميله اللبناني للاحتفاء بصدور أول نسخة بالعربية لمنتخبات من أشعاره، لكن الزيارة لم تتم لأسباب أمنية مفاجئة، فرضتها وقتها ظروف الحرب الأهلية اللبنانية المؤسفة.

كنت شخصياً متحمساً للالتقاء بالشاعر نبي خزري في بيروت. وكنت سألت الشاعر الصديق ميشال سليمان وقتها عن طبيعة شخصية صديقه الشاعر، فغمرني بسيل من المدائح له ولأخلاقياته النبيلة الرفيعة، وتفاعله الإنساني مع الشعراء والكتّاب الذين يزورون بلده.
أما سبب سؤالي، فدافعه أنني كنت في تلك الأيام (مارس 1979) على سفر إلى باكو عاصمة أذربيجان تلبية لدعوة أدبية، وكان في بالي أن ألتقي بالشاعر نبي خزري. وفي الخلاصة، التقيت بالرجل واستقبلني في منزله أحسن استقبال وأكرم وفادتي وكرّس من وقته ما يتجاوز 3 ساعات، دردشت خلالها معه حول شعره ومسرحه ومواقفه النقدية والفكرية.

في معنى الشعر
ما أتذكره من ذلك اللقاء أنني سألته: لماذا كتبت الشعر؟ وما الذي قادك إلى هذه الورطة «الوجودية» و«الجمالية»؟.. أجابني: ربما لأسجل موقفاً أجابه به تحدّيات الحياة من حولي في هذا العالم، ويكون لي في هذا التحدي معنى الحضور، المثول، التشكّل والتكامل مع معايير الحقيقة التي لا تتكامل البتة. ومن هنا مثّلت القصيدة لي سلاحاً فعّالاً من أجل نفسي ومن أجل الآخرين أينما كانوا، اجتهاداً للخروج من دوائر الحروب والشرور والدخول في دوائر السلام والخير النهائي.
باختصار، يمثل الشعر عندي جسر التعارف العميق مع الآخر، والسفر معه نحو ضفاف الخلاص البشري ببعديه الواقعي والمثالي.
سألته.. لكأنك واقعي سياسياً بنكهة فلسفية مثالية يا سيد خزري. ومن هنا أسألك كيف توفّق بين الفكر المادي والعلماني الصارم لديك وبين الشعر الذي هو بالضرورة مؤسسة نقيضة؟.. أجاب:
لا أحد يستطيع مهما بلغت «حكمته الواقعية» ونفاذ رؤيته السياسية والإيديولوجية، أن يمتلك قياسات دقيقة لحركة الواقع والتاريخ وصراع الطبقات.. ويتكلم بموجبها الكلام النهائي «العلمي» القاطع.. إلخ. ومن هنا فالشعراء الحقيقيون الملتزمون بالإنسان (وأنا أدّعي أنني من جنسهم)، يمتلكون شجاعة الاستقلال الشعري، قولاً ورؤية. كما يمتلكون عنصر الحرية التي تدخل في تكوينهم النفساني لتعزّز من منطلقهم الإبداعي.
هكذا، فالشعراء الحقيقيون، هم عبارة عن كائنات «سياديّة» متجدّدة وخارجة بالضرورة عن سائر الكيانات المغلقة أوالمحدّدة سلفاً بأدوارها ووظائفها، ومهمّتهم دوماً الدفاع عن حلم تغييري أكبر منهم، وأكبر من سيكولوجيتهم المتمردة على الرتابة والنمطية.

الحب والحياة الفطرية
ثم انتقلت بالكلام مع شاعرنا الأذربيجاني إلى فضاء الحب وتفاصيله متسائلاً: مثلما الفقر يصنع لصوصاً فالحب يصنع شعراء.. أليس كذلك؟.. أسألك هذا السؤال لأن قصائد الحب تكثر في مداراتك الشعرية، وقبل أن أنهي سؤالي أجاب:
- نعم، الحب عندي عنوان أثيري يتزايد. إنه ما تبقى من طبيعة الحياة الفطرية التي يجب أن نحافظ عليها ولا نعلبها أو نمأسسها؛ بل يجب أن يمتزج دمنا الطبيعي بها في إطار دوراتها المتناوبة. فالحياة هدية مقدمة للإنسان، ويجب عليه أن يرعاها ويصونها. والشعر هو في طليعة الأدوات التي تمكّننا من حفظ إكسير الحياة الطبيعية يانعاً فينا.
باختصار يا صديقي، نحن لا شيء من دون الحب، فلنكن معه، إذاً، كل شيء.
جميل للغاية كلامك هذا، ولكن عن أي حب تتكلم هنا؟ عن أي عشق؟
- أتكلم ببساطة عن حبّي للمرأة وللحياة الجميلة في كنفها. وحبيبتي دائماً موجودة، حتى وإن ارتقت في الغالب إلى درجة المستحيل. كما أتكلم عن حب الأم، أمي العجوز التي صارت مثل ورقة ذابلة متآكلة.. أمي المقوّسة الظهر الآن بحكم سلطة الزمن، ولكن عندما أفكر فيها، يتلاشى حزني ويتبخّر كل يأسٍ فيّ؛ وأصير أقوى وأنضر من أي ربيع.. أمي العاجزة هذه، أراها تسندني بقوة أين منها قوة كل جبال أذربيجان الراسخةّ!

المرأة.. الحضارة
«المرأة حضارة إنسانية بأكملها».. هذا ما قاله أمامي يوماً صديقك الشاعر اللبناني ميشال سليمان.. فبماذا تعلق؟
- هذه أجمل عبارة منصفة للمرأة أسمعها في حياتي. وهي تشكّل رداً ضارباً ونافذاً على كل من أهان المرأة أو حطّ من شأنها عبر التاريخ، منذ الإغريق إلى اليوم.
أطرق مُحدّثي الشاعر نبي خزري بعض الشيء ثم انتفض قائلاً: أنا لا أفهم هذه الهجمة الشرسة، الضالّة والمضلّلة على المرأة من أسماء فلسفية ودينية كبرى ما زالت الحضارة الغربية إلى اليوم تضجّ بها: سقراط، أفلاطون، القديس بولس (في العهد الجديد)، توما الأكويني، كانط، روسو، هيغل، كيركيغارد، وبطبيعة الحال شوبنهاور ونيتشه، وهما الأشد عداوة من بين الجميع للمرأة.
هنا قاطعت محدثي بالقول، إنه وعلى الرغم من شراسة هذه الميزوجينية (كره النساء)، فإن عصر الأنوار، وتحديداً مع الفرنسي ديكارت وتلاميذه، قالوا بالفصل بين العقل والجسد، داحضين بذلك الفكرة الأرسطية القائلة بأن الجسد والروح هما واحد. وتوصلوا إلى التوكيد على مفهوم علمي حصري واحد يقول بأن العقل البشري لا جنس له، وبالتالي فإن دماغ الرجل مساوٍ لدماغ المرأة، وكلاهما يعمل بالطريقة عينها، ما يعني ذلك إنصافاً جليّاً للمرأة والاعتراف بإبداعيّتها وبالكائن البشري العظيم الذي يؤلّفها.
أجابني نبي خزري من فوره: هذا لا يكفي يا صاحبي.. لا يكفي أبداً. ومن حق المرأة أن تطالب اليوم بنقد كل الفلسفات الغربية بوجهيها القديم والحديث، وإعادة النظر الجذري في كل أطروحاتها، وخصوصاً منها تلك التي تتناول ظاهرتها.
ومن هنا أنا أدعو نفسي أيضاً، وأدعو كل شعراء العالم، وكل فلاسفته، إلى الاصطفاف الجدّي مع المرأة في موقفها الجذري هذا؛ ولا ينبغي أن تعترضنا في ذلك أي شخصية رمزية فلسفية أو دينية هنا؛ لأنه وبمجرد أن نقرأ، مثلاً، كلاماً مهيناً جداً للمرأة ساقه نيتشه وشوبنهاور وتوما الإكويني.... إلخ، يدفعنا الأمر للقول بأن هؤلاء وغيرهم لم يكونوا مصابين بشلل رؤيوي في البصر والتبصّر فقط، وإنما في التهاب بسحايا الدماغ لديهم.
وسألت الشاعر نبي خزري: ألا ترى معي أن الشعر قد يكون في بعض وجوهه لغة الأنثى في الأشياء؟
- الشعر دائماً لغة الأنثى في الأشياء.. نسقاً وصورة ولغة وصوغاً مركزياً للهوية البشرية الجامعة. والشعر بترجمة أخرى هو حوار، ولكنه ليس حواراً مطلوباً لذاته وإنما لنتائجه ونبل مقاصده ومخرجاته الضمنية الفاعلة.
وليست الحكمة مع الشعر العظيم أن نعرف طريق الحياة المفارقة الجميلة، بل أن نمشي فيها ونعيشها.

حصان قره باغ
ثم قلت لنبي خزري: أذربيجان بلادك، هي بلاد الجبال الأسطورية المهيبة والأنهار الساحرة المتفجرة والبحيرات النقية العميقة؛ كما هي أيضاً أرض التنويع النباتي الطبيعي المذهل والممتد على مدّ العين والنظر.. كيف تتجلى أذربيجان هذه في شعرك؟
- أذربيجان هي أنا حارس جمالياتها التي لا تنقطع بالتدفق عليّ: غابات خضر داكنة، جبال ووديان زرقاء تبث السحر والنشوة الجسدية والروحية. هكذا، أذربيجان هي حشد تعاوني من ألوان مألوفة وغير مألوفة. وأنا فيها أعيش دوماً بوجه انتمائي واحد، ولن أعيش بوجهين البتة. لأن من يعيش بوجهين، يموت بلا وجه. وفي المحصّلة، ما أجمل أن تلهو بي أحلام الآخرين من أبناء بلادي وكذلك من أبناء كل بلدان المعمورة.
والآن، هل تحدّثني يا سيّد خزري عن حصان قره باغ، حصان السهوب والبراري في أذربيجان، وهل صحيح ما يقال بأن هذا الحصان لا وجود له إلا على أرض أذربيجان؟
- جميل سؤالك هذا. والطريف أن هذا السؤال سألني إياه كل من الشاعرين العملاقين بابلو نيرودا ويانيس ريتسوس، وها أنت الصديق الثالث الذي يسألني هذا السؤال.
نعم، حصان قره باغ، معجزة سهوب أذربيجان، لا يعيش إلا على أرض أذربيجان ولا يقتات إلا من عشبها الذي لا يعرف مادته وأسرار مركباته الغذائية سوى أجدادنا الذين أورثوها بدورهم إلى أبنائهم وأحفادهم من بعدهم.
حصان قره باغ الذي يسابق الريح أكثر مما يسابق أقرانه في السهول والسهوب، هو رسول الإحساس فيّ أيضاً. هو السهم اللذيذ لضوء الامتداد العابر. إنه أعظم «نص كائناتي» أبدعه خالقه. وهو يشكّل نوعاً من الأخيلة المزدحمة التي تصنع واقعاً متحركاً من شأنه أن يُحبّب العاصفة إلى أعماقك، ويجعلها دائماً على حق.
ونبي خزري الذي ولد في قرية كيردالان في العام 1924 ومات في باكو في العام 2007، هو وريث كل الأساطير والمرويات والأغاني الشعبية التي يتجلّى بها التراث الأذربيجاني العريق، يوظفها في نصوصه الشعرية والمسرحية. كيف لا وهو من القائلين بأن الأسطورة تحمل دلالة عقلانية ولدت من فعل الإناسة المدركة لضرورات الخلق الفني للشعوب.

الـ«تشوخا» والـ«باباخي»
يلمّ نبي خزري بالموسيقا التقليدية لشمال بلاده وجنوبها، فهذه الموسيقا «تمدني بكل ما يُنشّط الحياة في مدركاتي الحسية، وتجعلني أعبّ فرحاً جديداً أستعيد معه كل خزين فرحي السابق».
كما يرتدي شاعرنا أحياناً، وبكل زهو وفخر الـ«تشوخا» والـ «باباخي»، وهما من الأزياء الأذربيجانية الوطنية التقليدية.
من جانب آخر، يتحصّل الرجل على ثقافة حديثة هائلة التشبيك والتنويع، كما هو ناقد ملمّ بالنظريات الشعرية الحديثة التي نشأت في أوروبا والعالم، منذ حراك الدادائية والسوريالية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الفائت، وصولاً إلى قصائد الكلمات لذاتها، وقصائد ما بعد الحداثة اليوم.

مختارات من شعره
خضراء داكنةً
تلكم الجبال خضراء داكنة/ ومعها أيضاً تلكم الوديان/ خطواتي إليهما/ امتداد بصري عليهما/ التقائي بهما/ كله يبدو أخضَرَ داكناً/ من أنت أيها الأخضر الداكن؟/ قل لي من أين أتيت؟/ ولماذا اخترت «غابالا» مدينة لك؟/ لقد أنهكتِ بأخضرك الداكن حتى الجمال/ ولم ينهكك الجمال/ إذاً أنت الجمال الحقيقي/ وغابالا لباسك المتمادي/ عليّ وعلى الآخرين.

أجمل الطيور
طيور جبال القوقاز/ لها إيقاع خاص في طيرانها/ وكذلك وهي تكرج على الأرض/ إنها طيور لا تخاف الشعراء/ تقترب منهم بشغف/ لتعلمهم فن التحليق المرئي والمخفي/ وترشدهم إلى النهايات قبل أوانها/ تطلب منهم أن يلتحقوا بها/ فهي تنتظرهم خلف السموات أيضاً/ ولا تنساهم أبداً/ بل هي من تستقبلهم بالطيران فوق رؤوسهم/ متى انتقلوا من هذه الدنيا/ إلى الدنيا الأخرى/ وتطلب منهم ألا يخافوا/ تحيطهم بأمان ظليل عميق/ إحاطة الشيء بكماله/ طيور القوقاز تشرب من ماء قمة بازادورا/ وتتنفس هواءها/ ولذلك هي طيور لا تفسد روحها/ ولا يبلى عزمها/ على اجتراح المعجزات المفيدة/ طيور القوقاز هي المعجزات المفيدة/ التي لا تستقيم الحياة/ من دون أضوائها المفاجئة.

فاكهة لا يمحوها نهمي
بسببك أنتِ/ يلقي النوم عليّ غواياته/ وتسطع روحي من داخلها/ سأعرفك أكثر أيتها المرأة التي تعرفينني/ سأتألق بك حتى اللمعان البعيد/ عذبة أنت إذاً/ عذبة أكثر من العذوبة/ تتسلل منك أزهار غير مرئية/ لتظل ألوانك حيّية مرئية/ أنت فاكهة لا يمحوها نهمي/ أنت ما يمكن أن يولد فيّ ولا يموت/ أمامك أنا بالتأكيد لا أشبه نفسي/ أنا أشبهك أنت.

فضاء الشمال
كريستال الكلمات/ يكسر فضاء الشمال الأذربيجاني/ ويسري بين أشكاله المتكسرة بالضوء/ فجأة يرفرف الساحر المجوسي/ ملتقطاً الأشكال المتكسرة/ لاحماً إياها بعناق خصوصي/ عناق لا يفصله انتهاء النشوة عن نشوتها/ كريستال الكلمات/ كلماتي/ هو دائما على فوضى مرتبة/ فوضى أسائلها في تأملي الكثيف لها/ وتجيبني بجمالها كالعادة قائلة:/ أخرج من عزلتك أيها الشاعر/ وافتح نفسك على الآفاق/ باتساع هذي الآفاق كلها.

أمي أقوى من جبال أذربيجان
أمي العجوز التي صارت مثل ورقة ذابلة متآكلة.. أمي المقوّسة الظهر الآن بحكم سلطة الزمن، عندما أفكر فيها، يتلاشى حزني ويتبخّر كل يأس فيّ؛ وأصير أقوى وأنضر من أي ربيع.. أمي العاجزة هذه، أراها تسندني بقوة أين منها قوة كل جبال أذربيجان الراسخةّ!.

هجمة ضالّة ومضلّلة
لا أفهم هذه الهجمة الشرسة الضالّة والمضلّلة على المرأة من أسماء فلسفية ودينية كبرى ما زالت الحضارة الغربية إلى اليوم تضجّ بها: سقراط، أفلاطون، القديس بولس (في العهد الجديد)، توما الأكويني، كانط، روسو، هيغل، كيركيغارد، وبطبيعة الحال شوبنهاور ونيتشه، وهما الأشد عداوة من بين الجميع للمرأة.

حق المرأة
من حق المرأة أن تطالب اليوم بنقد كل الفلسفات الغربية بوجهيها القديم والحديث، وإعادة النظر الجذري في كل أطروحاتها. وأدعو نفسي وأدعو كل شعراء العالم، وكل فلاسفته، إلى الاصطفاف الجدّي مع المرأة في موقفها الجذري هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©