الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

زينو بيانو.. قِياسُ القصيدة على النَّفَس

زينو بيانو.. قِياسُ القصيدة على النَّفَس
16 مارس 2020 01:01

محمد نجيم (الرباط)

يُعرف الشاعر الفرنسي زينو بيانو، المولود في باريس سنة 1950، كأحد شعراء فرنسا الكبار، وإن كان اسمه لا يزال مجهولاً في العالم العربي، لسبب واحد؛ هو قلة المترجمين العرب الذين ربما لم يكتشفوا بعد أعماله الشعرية، إلا أن المترجم والشاعر المغربي جمال خيري تمكن من ترجمة عمله الشعري المميز «تشِيتْ بيْكَرْ، مِرْثَاة»، وصدرت الترجمة مؤخراً عن «بيت الشعر» في المغرب.
يلج الشاعر الفرنسي «زينو بيانو» فضاءات لَمْ تَطَأْهَا قَريحَة مَنْ سَبقَهُ وَمن يُزَامِنُهُ، يَغْتَرِفُ مَا يَغِيبُ فِي بَاطِنِهَا دُونَ تَخْطِيطٍ مُسْبَقٍ، يَقْتَرِفُ الْجَدِيدَ، يَتَمَادَى فِي أَبْعَدِ مَا يَحْجُبُهُ المدى وكأنّه صَوْتُهُ حِبَالُهُ تَخُطُّهُ مُمَغْنَطاً بِالْكَهْرَبَةِ يَنْبُرُ الشِّعْرَ مُحَلِّقاً فِي سَمَاءٍ بِأَنَامِلِ الإصاخة. عَصَا لِسَانِهِ تَقْرَعُ طَبْلَةَ أُذُنِهِ فَتَحْمِلُ نَبْضَهُ الْهَادِئَ الْمَوَاقِعُ وَالْمَوَازِينُ إِلَى عَوَالِمَ لَا تَنْكَشِفُ إِلاَّ بِسَنَا الْمُوسِيقَا وَسَنَنِ الصِّبَاغِ. لِذَا شِعْرُهُ يَقْتَحِمُ بِالسَّكِينَةِ، وَيُهَشِّمُ بِالْحِلْمِ.
لَا يُسَائِلُ فَهْمَنَا بِشِعْرِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الشِّعْرُ لِيُفْهَمَ، أَوَ لَيْسَ يُنْبُوعاً يُرَوِّي الْحَاضِرَ كَيْ يُبَرْعِمَ فِينَا الشُّعُورُ بِالْمُسْتَقْبَلِ؟ لا يُسَائِلُ الْفَهْمَ إِذَنْ، بَلْ يَضَعُهُ مَوْضِعَ السُّؤَالِ بِالشِّعْرِ، وَالشِّعْرُ مَعَهُ. ليْسَ بِالْعَوِيصِ وَلَيْسَ بِالْمُطَاوِعِ، كَمَا كَلَامُ الْمَجْهُولِ وَالْمُهَجَّرِ، كَالْهَجِيجِ، يَأْتِي يَلْتَهِمُ مَا مَضَى لِصُنْعِ الْآتِي، مِنْ خَفِيِّ النَّفْسِ وَيَتَجَلَّى خَارِجَ الرَّأْسِ حَاضِراً، لَا يُلْمَسُ إِلَّا بِبُؤْبُؤِ الْحَدْسِ، وَلَا يُرَى إِلَّا عَبْرَ بَصَمَاتِ الْبَصِيرَةِ. يُقْرَأُ بِحُلَيْمَاتِ الْإِصْغَاءِ مِثْلَمَا كُتِبَ بِقَوْقَعَةِ الذَّائِقَةِ.
فالشعر عند زينو بيانو، كما يقول المترجم، لَيْسَ صُرَاخاً فِي الْقِفَارِ، إِنَّمَا هُوَ رَسْمُ الْجُغْرَافِيَةِ الذِّهْنِيَّةِ لِلْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مُخْتَرَقاً بِالشِّعْرِ فَهْوَ خَارِجَ نِطَاقِ الْحَالَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، طَارِئٌ، زَائِلٌ، هَامِشِيٌّ لَيْسَ إِلَّا.
وَكَأَنْ مَنَحَهُ آنْطُونَانْ آرْتو رُقْيَةَ الشِّعْرِ، الْكِتَابَةَ الْقَوْلِيَّةَ... وَاللُّغَةُ عِنْدَ آرْتو كَالرُّقْيَةِ، كِتَابَةً جَهِيرَةً جَاهِرَةً تَعْتَمِدُ النَّفَسَ وَالْإِيقَاعَ بِالتَّحَدُّرِ فِي الدَّوَاخِلِ، بِالذَّهَابِ دَوْماً إِلَى الْقَصِيِّ، بِالتَّغَلْغُلِ فِي الْأَعْمَقِ. فَالشِّعْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، بْيَانُو أَقْصِدُ لَا آرْتو، فِكْرَةٌ تَتَغَنَّى وَلَوْ فِي قَلْبِ فُقْدَانِ مَا كَانَ يُتَمَنَّى. إِنَّهُ قِيَاسُ الْقَصِيدَةِ عَلَى النَّفَسِ حَيْثُ جَسَدُ الصَّوْتِ يَتَجَلَّى.
وَلَيْسَ آرْتو وَحْدَهُ مَنْ سَاهَمَ فِي صَقْلِ شَاعِرِنَا بْيَانُو، بَلْ رَامْبُو كَذَلِكَ وَكِرْوَاكْ، وَمُوسِيقَا الرُّوكْ وَالْجَازْ، وَمَايُو 68، وَشُعَرَاءُ اللُّعْبَةِ الْكُبْرَى: غُنِيه دُمَالْ وَرُجِيهْ جِيلْبِيرْ لُكُونْتْ وَرُجِيهْ فِيُّونْ وَرُوبِيرْ مَيْرَا، ثُمَّ السَّفَرُ إِلَى الْهِنْدِ وَالتِّيِبِتْ، وَرِوَايَاتِ الصِّبَا، رِوَايَاتِ جُولْ فِيرْنْ أَوْ دَانْيَالْ دِفُو مَثَلاً، ثُمَّ الْهَايْكُو وَالتَّشْكِيلُ وَالْمَسْرَحُ وَالتَّرْجَمَةُ، مَثَلاً لَا حَصْراً.
وَتَرَاهُ شَابّاً مِنْ بَيْنِ مُوَقِّعِي الْبَيَانِ الْكَهْرَبَائِيِّ (صَدَرَ عَنْ مَنْشُورَاتِ «الشَّمْسِ السَّوْدَاءِ» سَنَةَ 1971)، الطَّافِرِينَ بِالشِّعْرِ، بِالاِشْتِغَالِ الشِّعْرِيِّ مُمَارَسَةً لَا تَنْظِيراً، بَعِيداً عَنْ صَمْتِ الْقَصِيدَةِ أَوْ قَصِيدَةِ الصَّمْتِ الَّتِي كَانَتْ جَاثِمَةً عَلَى صَدْرِ الشِّعْرِ الْفَرَنْسِيِّ تَخْنُقُ نَفَسَهُ. بِالْقَصِيدَةِ، قَصِيدَةِ الشَّاعِرِ الْوَاحِدِ، أَو الشَّاعِرَيْنِ، أَوْ حَتَى الْأَرْبَعِة، أَلَّفُوا الْبَيَانَ، شِعْراً لَا بِالنَّثْرِ، هُوَ وَصِحَابُهُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ شَاعِراً، يتراوح عُمْرُهُمْ آنَذَاكَ بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ سَنَةً.
لَيْسَ شَاعِرَ الْغِبْطَةِ الْفَائِقَةِ بَلْ شَاعِرُ الطَّاقَةِ، الطَاقَةِ اللَوْلَبِيَّةِ الَّتِي لَا تَنْشُطُ إِلَّا بِالضَّغْطِ الْمُسْتَمِرِّ وَبِالْمَغْنَطَةِ الْجَاذِبَةِ، طَاقَةٍ مُنْفَتِحَةٍ عَلَى الْعَالَمِ مُصِيخَةٍ إِلَى هَزَّاتِ وَاضْطِرَابَاتِ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا وَعَلَيْهَا وَحَوْلَهَا، تَجْعَلُ الْكَلِمَاتِ عَبْرَ الْجِنَاسِ وَالطِّبَاقِ مَثَلاً، وَمِنْ خِلَالِ التَّنَقُّلِ بَيْنَ التَّكْوِينِ السُّونِيتِيِّ وَبَصَمَاتِ الْهَايْكُو وَالتَّقْطِيعِ الثُّلَاثِيِّ، تَجْعَلُ الْكَلِمَاتِ تَقُولُ مَا لَا تَسْتَطِيعُ قَوْلَهُ عَبْرَ تَدَفُّقٍ غِنَائِيٍّ حُرٍّ. إِنَّهُ شَاعِرٌ يُرَفْرِفُ بِزَفِيفٍ دَائِمٍ فِي السَّمَوَاتِ الْجَوَّانِيَّةِ يُسَائِلُ الشِّعْرَ وَالْمُوسِيقَا، التَّشْكِيلَ وَالْمَسْرَحَ، الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ، الْكَوْنَ وَالْإِنْسَانَ.

أَبْعَدَ مِنَ الـمَوْت
لَمْ أَعُدْ أَعْرِفُ إِلَى أَيْنَ انْتَهَيْتُ
مُنْذُ سَاعَاتٍ وَأَنَا أَتَحَدَّرُ
سَاعَاتٍ شُهُورٍ سَنَوَاتٍ
لَمْ أَعُدْ أَعْرِفُ
إِلَى أَيْنَ انْتَهَيْتُ
يَبْدُو أَنَّ السَّمَاءَ قَدْ أَرْتَجَتْ أَبْوَابَهَا
أَتَبَصَّرُ الْأَطْفَالَ
يَرْسُمُونَ فَرَاشَاتٍ
عَلَى جُدْرَانِ الْمُخَيَّمَاتِ
لِيَطِيرُوا مَرَّةً أُخْرَى
أَبْعَدَ مِنَ الْمَوْتِ
طُيُوراً-أَرْوَاحاً
طُيُوراً-أَرْوَاحاً طُيُوراً-أَرْوَاحاً
دُونَ عَيَاءٍ دُونَ فَنَاءٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©