الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأيام الحمراء

الأيام الحمراء
5 يناير 2011 19:10
تأخر صدور هذا الكتاب طويلاً، ولكن مازال يحتفظ بأهميته وجدته، نظراً لموضوعه المهم وشخصية مؤلفه، أما الموضوع فهو يوميات ثورة 1919 والتي كان المؤلف يدونها يوما بيوم، وهو لم يدون إلا ما رآه بنفسه وسمعه، وكان يحاول التأكد من بعض ما يسمعه، ويثبت ذلك وما توصل إليه، وهو حين يكتب يميز بين الوقائع والمعلومات والشائعات، ولأنه كان يكتب يومياته لنفسه في المقام الأول لم يجد غضاضة في أن يبدي آراءه صريحة في بعض الزعماء وفي الجماهير عموما، بالتحسين والتقبيح، والمفاجأة في هذا الكتاب “الأيام الحمراء” ان مؤلفه هو أحد المشايخ المعممين، وهو الشيخ عبدالوهاب النجار تلميذ الأستاذ الإمام محمد عبده. ولد النجار في 1862 بإحدى قرى طنطا وحفظ القرآن الكريم وهو طفل ونال قدرا من العلوم الدينية على شيوخ الجامع، وفي طنطا تعرف على الشاعر حافظ إبراهيم الذي كان يعمل كاتبا لدى أحد المحامين، وكان النجار يتردد على حافظ وندوته في طنطا ومنه أحب الشعر والأدب. ثم ارتحل إلى القاهرة ليدرس في الجامع الأزهر على علماء عصره، ولينتقل منه إلى مدرسة دار العلوم حيث تتلمذ على الشيخ محمد عبده ودرس على يديه مقدمة ابن خلدون وتخرج فيها عام 1897 ليعين مدرسا ابتدائيا في إحدى المدارس الأميرية بطنطا، وينتقل منها إلى القاهرة مدرسا في مدرسة عابدين. وجد المدرسة الإنجليزية في باب الخلق تمارس التبشير علناً فأسس مع محمد زكي سند جمعية “مكارم الأخلاق الاسلامية” لتقاوم التبشير، ونجحت الجمعية نجاحاً كبيراً وصارت لها فروع خارج مصر في فلسطين وسوريا والهند وإندونيسيا وغيرها. ولما نشر آراءه الصريحة في الصحف والمجلات غضب وزير المعارف العمومية فأصدر قراراً بنقله الى أسوان فرد على هذا القرار بالاستقالة. وطُلب بعدها ليعمل مدرسا للشريعة والآداب بكلية (غوردون) بالخرطوم لمدة عامين، ثم اختير مدرسا للتاريخ الإسلامي بالجامعة المصرية ثم بمدرسة دار العلوم حتى خرج إلى المعاش عام 1928. وأراد الشيخ المراغي شيخ الأزهر أن يستفيد منه فانتدبه لتدريس التاريخ الإسلامي لطلاب كلية أصول الدين بالجامع الأزهر حتى عام 1933، وتوفي في عام 1941 تاركاً العديد من الكتب والدراسات منها: “قصص الانبياء”، و”الخلفاء الراشدين”. كان النجار يكتب بانتظام لبعض الصحف، وفي عام 1933 فاجأت صحيفة “البلاغ” قراءها بأنها حصلت على حق نشر يوميات ثورة 1919 التي دونها الشيخ باسم “الأيام الحمراء” ولم تجمع في كتاب من يومها. سرّ العنوان يحدد الشيخ سر اختياره عنوان “الأيام الحمراء” بالقول: “في اليوم الخامس عشر من شهر مارس سنة 1919. وهو يوم من الأيام العصيبة التي منيت بها مصر، ورزئت بها البلاد رزءاً شديداً بما سال في الأرجاء من دماء الأبرياء من طلاب العلوم الدينية والمدارس العالية، ولا ذنب لهم إلا أنهم يظهرون عواطفهم نحو وطنهم ويبدون شعورهم نحو حريتهم المفقودة واستقلال بلادهم المسلوب بيد الاستعمار الإنجليزي. بسبب سفك الدماء هذا أردت أن أسمي هذه الأيام “الأيام الحمراء”. ويذكر أنه “أراد أن يدون كل اليوميات رغبة منه في خدمة التاريخ والحقيقة عبر تدوين حوادث هذه الأيام على وجه الصواب، متحرياً في ذلك الحقيقة جهد الطاقة، متجنبا ذكر الشائعات الباطلة التي تروج في مثل هذه الأوقات المحزنة. مع حرصه على العودة الى من حدثه الحديث وشرح له الخبر، إن لم يكن رأى ذلك حتى لا يقع الجيل الآتي في عماء وضلال عن صحيح الأخبار”. وكان النجار قد لاحظ الرقابة التي كانت تفرضها سلطات الاحتلال على الصحف، وقال “ان الجرائد المصرية ملجمة عن قول الحق، ممنوعة من الصدق في الرواية”. ويقدم الشيخ رصداً دقيقاً للدور الذي لعبه علماء وطلاب الأزهر في ثورة 1919، وكذلك دور طلاب المدارس العليا. ويذكر اسم الشيخ محمد شاكر من علماء الازهر وكان من كبار المتحمسين والثائرين وعرض الإنجليز عليه مشيخة الأزهر لتهدئة ثورته لكنه لم يبلع الطُعم، كما يقدم وصفاً لمظاهرة النساء المصريات التي وقعت صباح يوم الأحد 16 مارس 1919، ويقول: “السيدات من كرام العقائل خرجن في حشمة ووقار ليعربن عن مشاركتهن للرجال في إبداء العاطفة الوطنية نحو بلادهن وقد ألفن موكبا فخما”. مظاهر سلبية ورغم حماسه الشديد للثورة وسعادته بها وثقته بقدرة المصريين على نيل الاستقلال من بريطانيا التي خرجت من الحرب العالمية منتصرة، فإنه لا يتردد في ذكر بعض المظاهر السلبية التي صاحبت الثورة؛ فعن أحداث يوم الاثنين 10 مارس يقول: “انتهز الفرصة أهل الدعارة والغوغاء وابناء الدروب والازقة وحثالة الناس واندسوا في غمار الجموع ووجهوا همهم إلى تحطيم زجاج الحوانيت وسرقة ما تصل إليه أيديهم من البضائع”. ويعدد أسماء المحال التي نهبوها ولم يتوقفوا عند هذا الحد بل “حطموا زجاج مصابيح الشوارع في كثير من الجهات بالقاهرة كما حطموا كثيرا من عربات الترام فتعطلت عن السير”. ويذكر الشيخ النجار أن المندوب السامي البريطاني مارس ضغوطا شديدة على القنصل الفرنسي في القاهرة وكذلك قنصل إيطاليا كي يعلنا أن الثورة في مصر عمل ديني موجه ضد المسيحيين في المقام الأول.. لكنهما رفضا تماماً وأصر كل منهما على أن الثورة قامت لأسباب ودوافع وطنية طلبا للاستقلال وليس فيها عنصر ديني أو طائفي. ورغم أن المشهور في ثورة 1919 إعلان استقلال مدينة زفتى وقيام ما سمي “جمهورية زفتى”، فهناك تجربة اهم وقعت في المنيا، حيث أعلن استقلال المنيا واختير لرئاستها د. محمد عبدالرازق الذي حمى 65 جندياً بريطانياً كانوا بها وضمن حياتهم. وانتظمت الحياة في المنيا حيث تم اصلاح التلغراف والتليفون والسكك الحديدية وعين القضاة مع حماية أرواح الأجانب في المدينة، وابلغ د. عبدالرازق قيادة القوات البريطانية في القاهرة أنهم إذا أرسلوا جنديا إنجليزيا واحدا فلن يضمن حياته، أما في أسيوط فكان الأمر مختلفا، كان الإنجليز قد أرسلوا 1500 جندي هاجمهم الأهالي وقتلوا معظمهم وفر الباقون إلى المدرسة الأميركية في أسيوط فطاردهم الثوار وقتلوهم جميعاً، وكانت ضربة قاسية للإنجليز. “الأيام الحمراء” مذكرات مليئة بتفاصيل كثيرة، تدقق بعض الأحداث والوقائع وتذكرنا بلحظة مجيدة في التاريخ تستحق أن نعود إليها الآن لنتذكر ما كان وما ينبغي أن يكون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©