الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

ساراماجو و«الكهف».. رواية اللعب بأسطورة أفلاطون

ساراماجو و«الكهف».. رواية اللعب بأسطورة أفلاطون
13 مارس 2019 03:47

معرض: عادل علي

الأسطورة التي اختارها ساراماجو هي نفسها أسطورة الكهف التي فلسفها الإغريقي أفلاطون عندما كان يشرح لتلاميذه المكبلات المعرفية التي تتحكم بمصير الكائن البشري. فقد بسّط صاحب «الجمهورية» فكرته لجمع من حوارييه، على النحو الآتي: لنفترض أن مجموعة من البشر، رجالاً ونساء، ولدوا وعاشوا داخل كهف مظلم. وكانوا طيلة حياتهم في وضعية الجلوس المستقيم، مكبلي الأرجل والأيدي، فضلاً عن الرأس الذي يتجه إلى الأمام فقط. ولنفترض أن ناراً تشتعل خلف هؤلاء الأشخاص، فينعكس ظلها على حائط أمامهم. ثم يتخلل هذا الظل خيالات كائنات غريبة، وأصوات غير مفهومة. وبالتالي، فإن ما يراه هؤلاء المكبلون طيلة حياتهم، سوف يشكل المصدر الوحيد لمعارفهم. ثم لنفترض أن أحدهم قد تحرر وخرج إلى الدنيا، وعاد بمعارف جديدة، أعمق وأوسع وأوضح، فهل سيتقبل المكبلون معارفه على أنها حقائق؟
هذه «الفكرة» رواها أفلاطون في الكتاب السابع من «الجمهورية»، وقد بدت وكأنها نوع من الألعاب والأحاجي الذهنية التي يمكن اللجوء إليها أو استخدامها وفق مسوغات العقل الافتراضي.
لكن في القرن العشرين، أي بعد أكثر من ألفي سنة، سيأتي ساراماجو لكي يمنح الحكاية جسداً وروحاً واقعياً. فقد نفخ النوبلي البرتغالي في كهف أفلاطون ريحاً مبدعة، فارتدّت عملاً سردياً مكتنزاً فكرياً وفلسفياً.
ساراماجو في كهفه لا يلعب بالأسطورة، أو يلاعبها، هو فقط يتكئ عليها لكي يبني كهفاً معاصراً، في مدينة معاصرة، يعيش فيها أناس حقيقيون. سكّان الكهف المعاصر هؤلاء، هم نماذج دالّة على التشكلات الطبقية، في كل مجتمع. إذ هناك الحرفيون، وصغار الموظفين الذين يقتفون أثر «الشرط الإنساني»، بحسب تعبير أندريه مالرو لحماية معاشهم البسيط، في مقابل التجار المستغلّين، والمجمعات الرأسمالية الحاكمة بما تمتلكه من عناصر القوة، وبقدرتها على تشكيل الأمزجة الاستهلاكية للبشر.

سكان الكهف
إذن هناك فارق كبير بين سكّان الكهف عند أفلاطون، وسكّان كهف ساراماجو. فعند الفيلسوف الإغريقي، كان «أهل الكهف» محكومين بالآليات المعرفية التي يستمدها الإنسان من محيطه، فإن بدت صاغت مصيره، وإنْ احتجبت فرضت عليه مقاديره. بينما عند ساراماجو، يخضع سكّان الكهف المعاصرون لسؤال القلق الوجودي.
هنا تصبح المسألة المعرفية، جزءاً من حالات القلق، والفقد، والخوف من المستقبل. لذلك فإن المؤلف الممتلك لعبته السردية يحاول سبر أغوار نفسيات أبطاله: كيف سيعيشون في هذه الحياة؟ وكيف سيتأقلمون مع المكان وتغير الزمان والتطور الصناعي؟
وهذا التأمل يسير مع الرواية في خط مستقيم، يغلب على مسار تطوره الهدوء الذي لا تحرفه منحنيات، ولا تزعزعه مفاجآت. فأشخاص ساراماجو في رواية «الكهف» هم إذن أشخاص معاصرون، يمكن مصادفتهم في كل مدينة أو تجمع سكني حديث. صانع الخزف سيبريانو ألجور وابنته مارتا وصهره مرسيال جاتشو (سوف تنضم إليهم لاحقاً إساورا إستيديوسا، أرملة تربطها المقادير بالخزّاف العجوز).

المفاجأة
ستكون حياة هذه الأسرة تحت رحمة «المركز»، وهو مجمّع مديني عملاق تتضاءل فيه قيمة الإنسان إلى حد الاندثار أمام تعاظم مفردات الحياة التكنولوجية. تتعطّل صناعة الخزّاف، ويضطر إلى السكن مع ابنته وصهره داخل تلك الآلة الجهنمية المسماة «المركز»، حيث يعمل الصهر بصفة حارس.
وهناك سيكتشف صانع الخزف، ما أعدته الحياة المعاصرة للبشر، لكن قدراته الاستكشافية سوف تقوده إلى تحت، إلى أعماق المركز، حيث ستكون المفاجأة: كهف وإضاءة وأشخاص مكبلون، بالوضعية التي شرحها أفلاطون، هم سيبريانو ألجور نفسه، وكل من يعرفهم.
هذا العمل الروائي، الذي يقوده المؤلف باقتدار وهدوء، ويسيطر فيه على شخصيات أبطاله في حالات صعودها وضعفها وتوترها، كانت تتجمع فيه كل العناصر التي يمكن أن تؤدي إلى إحداث صدمة من النوع المدمر. لكن من الواضح أن ساراماجو لم يكن يريد أن يقود سكّان كهفه إلى خوض غمار ثورة على الطريقة التي فعلها أسلافه الروس، مثلاً، حينما كانت المعاناة الاجتماعية عندهم خميرة خلاّقة ينطلق بتفاعلها الفيضان الثوري.

مفتاح الوعي
الوعي، كما أقره أفلاطون في كهفه، وكما ترجمه من بعده ساراماجو، هو المفتاح الذي ستفكّ بواسطته الأغلال، فيتحرر الإنسان من قيده. هنا بالضبط يكمن المعنى الذي أراده أفلاطون وساراماجو على السواء: أي أن يكون الوعي مفتاحاً يفتح المغلق، وليس مطرقة تحطم الأبواب.
من هذا التشابه بين أسطورة أفلاطون ورواية ساراماجو، تبدو مشكلات الإنسان قبل ألفي سنة وبعد ألفي سنة، ما زالت هي هي في أصولها وجذورها، وإنْ تعددت تجلياتها وطرق التعبير عنها.
فقبل المصلحة، وتحقيق الاحتياجات اليومية، يكمن جوهر الوجود الإنساني في الوعي، وهو ما فصّلته الفلسفة الديكارتية التي جعلت من الشك منطلقا لإثبات الأنا والوجود. وبحسب الموسوعة البريطانية، فإن الوعي حصيلة الأفكار والمفاهيم، ووجهات النظر التي يتمتع بها الفرد.
صحيح أن الوعي قد يكون وعياً زائفاً، وذلك عندما تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع من حوله، أو قد يكون وعياً غير واقعي أو جزئياً، وذلك عندما تكون الأفكار والمفاهيم مقتصرة على جانب أو ناحية معينة وغير شاملة لكل النواحي والجوانب والمستويات المترابطة والتي تؤثر وتتأثر في بعضها البعض في عملية تطور الحياة، لكن، في نهاية الأمر، فإن الإنسان في المعنى الفلسفي هو معطى من معطيات الوعي.
من هنا، وعلى المستوى السردي الذي قاده ساراماجو على صفحات روايته «الكهف»، فإن تجنب أن يضع بين أيدي شخوصه سلاحاً نارياً يوجهونه ضد أولئك الذين طغوا على حياتهم، وهشموا أرواحهم، واقتلعوهم من ماضيهم وحاضرهم، فكانت هذه النهاية، لتبدو طبيعية ومتوقعة، في عمل ينتمي إلى مدرسة «الواقعية الاجتماعية» أو الثورية، لكن رواية «الكهف» هي عمل فلسفي يتكئ على أسطورة فلسفية، فجاءت نهاية رواية ساراماجو، بالطريقة التي رمى إليها أفلاطون.
فعند الخزّاف وأسرته كانت الحقائق جلية، والوقائع واضحة، والمفاهيم محددة. والمعرفة باتت قوة هؤلاء، وأصبح تحررهم من سلطة المركز المتمادية هو خروجهم الفعلي من الكهف الذي أراد تكبيلهم فيه، واستثماره تالياً كما يفعل بكل استثماراته المادية. إعلان ضخم يقول: قريباً افتتاح كهف أفلاطون، وسيلة جذب حصرية وحيدة في العالم. اشترِ تذكرة دخولك.
جمع الخزّاف وأسرته حاجياتهم وقرروا المغادرة إلى مكان لا يعرفونه، وفي طريق لم يختبروه سابقاً، لكنهم كانوا أقوياء أكثر من أي يوم سبق. معارفهم أسطع من غياهب الكهف، القابع في الداخل.. داخل كل فرد باسم الحياة المعاصرة وقواها الجلفة.

تاريخ الروائي
ساراماجو حاز جائزة نوبل للآداب عام 1998. ومؤلفاته يمكن اعتبار بعضها أمثولات، تستعرض عادة أحداثاً تاريخية من وجهة نظر مختلفة، تركز على العنصر الإنساني. وقد وصفه هارولد بلوم بأنه «أعظم الروائيين الموجودين على قيد الحياة»، واعتبره «جزءاً مهماً ومؤثراً في تشكيل أساسيات الثقافة الغربية»، بينما أشاد جيمس وود بـ«اللهجة الفريدة في أعماله، حيث إنه يروي رواياته كما لو أنه شخص حكيم وجاهل في الوقت نفسه».
بيعت أكثر من ميلوني نسخة من أعمال ساراماجو في البرتغال وحدها، وتمت ترجمة أعماله إلى 25 لغة. وبما أنه كان أحد مؤيدي الشيوعية اللاسلطوية، فإنه كان عرضة للنقد من قِبل بعض المؤسسات مثل الكنيسة الكاثوليكية والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي الذين عارضهم ساراماجو في كثير من القضايا.
وقد عاش في المنفى في جزيرة لانزاروت الإسبانية (جزر الكناري)، وبقي فيها حتى وفاته عام 2010.
كان ساراماجو أحد الأعضاء المؤسسين للجبهة الوطنية للدفاع عن الثقافة في لشبونة عام 1992، وأسس بمشاركة الروائي التركي أورهان باموك، برلمان الكُتاب الأوروبي (EWP).
وعانى ساراماجو من اللوكيميا، وتوفي في الثامن عشر من شهر يونيو عام 2010 عن عمر ناهز السابعة والثمانين.

لحظة للتأمل
ساراماجو كان يقدم في «الكهف» كل العناصر التي تستحق قيام ثورة، أو حركة تمرد، أو عصيان، حيث يتصادم في لحظة الذروة المسحوقون مع ساحقيهم. لكن تلك اللحظة لا تأتي أبداً، وإنْ أتت فهي تجيء كما أراد لها ساراماجو هادئة، رزينة، كأنها لحظة للتأمل والتفكير، تسبق اتخاذ القرار المناسب. وهنا يعود ساراماجو إلى الأصل الأفلاطوني في الأسطورة. أي إلى الوعي كوعاء فلسفي للمصلحة الإنسانية (أو الشرط الإنساني)، وبالتالي كمحرك ضروري للأفراد والجماعات في سعيهم إلى تحقيق ذواتهم، وحمايتها، والدفاع عنها.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©