الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تنتعش في أجواء التعصب.. الشعبويّة وبيعُ الأوهام

تنتعش في أجواء التعصب.. الشعبويّة وبيعُ الأوهام
27 فبراير 2020 02:41

في تعريف «موسوعة تريكاني» الإيطالية لظاهرة الشعبويّة، تذهب إلى أنّ هناك خطوطا جامعة بين الحركات الاحتجاجية غير المنضبطة تصبّ في هذا المفهوم. تتلخّص في ادّعاء التمثيل الممَثْلَن للشعب، بوصفه يختزن القِيم والمثُل العليا، التي عادة ما تكون مشترَكات يتقاسمها طيفٌ واسع من الناس، فضلاً عن طرح الشعبوية نفسها بديلا للنُّخب القابضة على زمام الأمور. هذا وقد تَرافَق تطوّرُ الشعبويّات في أوروبا الحديثة بتشكيك في الديمقراطية التمثيليّة، وانحياز إلى الديمقراطية المباشِرة، كتعبير عن الإرادة الشعبية من دون واسطة، مع ميْل واضح نحو «دكتاتورية الأغلبية» واعتبار الشعب هو المحور والصانع للعملية الثورية. تسعى الشعبوية في ذلك إلى دفع وجوهٍ جديدة على ركح المسرح الاجتماعي، تقف على نقيض الفاعلين الحقيقيين، بما يُخلّ بتوازن المجتمع المعهود، وفي مسعى يستهدف الانحراف بمقاصده، واستدراج جموع الناس بوسائل دعائيّة مكثَّفة تشكّك في كلّ ما هو قائم.
في تاريخنا الحديث انجرّت دولٌ وراء سياسات شعبوية مغامِرة، لم تجنِ منها سوى الوبال. ارتهنت فيها إلى خطابات ساسة حرّكوا فيها نزواتها ودغدغوا فيها مطامعها، الثاوية في الذاكرة البعيدة، وذلك بالاعتماد على خليط من المُثُل الوهميّة والأسطورية والرومانسية.
كانت مجمل الدول الاستعمارية بارعةً في توظيف الاندفاع الشعبويّ، لِحثّ الناس نحو خيارات خارجية بدعوى توسيع المجال الحيويّ، والتطلّع إلى النجوم، كما كانت تردّد الفاشية للتمدّد نحو أفريقيا، بدعوى أحقيّة تاريخية سالفة، أو بموجب رسالة حضارية راهنة ينبغي أداؤها وترويجها.
خطاب الرسالة التحضيرية (من حضارة)، الذي عادة ما يستخدِمه المستعمِر والغازي، هو خطاب شعبويّ صرف. لخّص فحواه الوزير الأول الفرنسي جول فيري (Jules Ferry) في خطاب بالغ الشهرة أمام برلمان بلاده، سنة 1885، مع توطّد أركان الاستعمار الفرنسي في أفريقيا بقوله: «يملي الواجب على الأجناس الراقية العمل للنهوض بالأهليّ المنحطّ، وفرنسا في مقدّمة الدول المطالِبة بذلك الحقّ لترقية الشعوب التي بقيت في طور البربرية...». وعلى ذلك النحو أوهمت الشعبويّةُ الفاشية في إيطاليا الناسَ، من خلال هذين العنصرين، باسترداد مجد روما السالف، بوصف إيطاليا الفاشية المهد والوريث، فضلا عن القيام بدورٍ تحضيري يخلّص الآخر مما يرزح تحته من تخلّف وجهل. فقد كانت اللافتات الدعائية الفاشية تصوّر الرجل الإفريقي والمرأة الإفريقية، على أتمّ الاستعداد للترحيب بالوافد الحضاري، المتمثّل في شخص الدوتشي بنيتو موسوليني، ليخلّصهما من أوزار التاريخ.

الشعبوية شعبويّات
ليست الشعبويّة ظاهرة خاصة بعصرنا، بل هي ظاهرة متكرّرة على مسرح التاريخ الحديث. فعادة ما يذهب المؤرّخون إلى أنّ أوّل أشكال الشعبوية الحديثة ظهر في منتصف القرن الثامن عشر، وتحديدًا في روسيا مع «حركة نارود (الشعب) الطلّابية» التي استهدفت تغيير المجتمع بشكل مندفِع، وذلك بالتوجه رأسا إلى الشعب –على حدّ زعمها- بتشييد المدارس في القرى والأرياف، في روسيا الإقطاعية عصرئذ، في مسعى لنشر العلم والمعرفة بين المزارعين، وبهدف أن يعوا بالاستغلال الذين يرزحون تحت نيره. لقد تميزت النظرة الشعبويّة الروسيّة في ذلك العصر بطابع رومانسي، معتبرة شعب المزارعين قوّة ثورية دافقة، بانتظار إيقاظه من غفوته لإسقاط القيصر.
لا شكّ أنّ هناك عدّة أصناف للشعبويّة من أبرزها الشعبوية القوميّة، وهي خليط من القومية والروح النضالية، على غرار الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، وبشكل مشابه أيضا البيرونية الأرجنتينية، نسبة إلى الجنرال الأرجنتيني خوان دومينغو بيرون (1895-1974). ففي عالم قسّمته الحرب الباردة بين معسكرين بارزين، ما كان بيرون راضيا بأن يكون في صفّ الرأسمالية أو الشيوعية، إلى أن انتهى به المطاف محافِظا سلطويّا. كما نجد شكلا آخر من الشعبوية يتمثّل في الشعبوية الثورية، وهو نزوع يساريّ ذو طابع سلطويّ قومي أيضا. عادة ما عبّر عن هذا الشكل «اليعاقبة» في فرنسا، زمن روبسبيار الذي عدَّ نفسه «محامي الشعب»، وباسم ذلك الادّعاء أبدع «مفهوم الرعب» وأقام «محاكم الشعب»، التي كانت تقاضي «أعداء الشعب» وتنكّل بهم، بغرض التحكم في رقاب الناس وبثّ الخوف بينهم.
ومن الملاحظ أنّ الشعبوية تنتعش في أجواء اللايقين، حين تفقد الجماهير بوصلتها، ويدبّ ارتباك في مسارها التاريخي. بما يخلّفه ذلك الوضع، الشبيه بالدُّوَار الجماعيّ، من استعداد سيكولوجي جماعيّ للانزياح نحو المغامَرة. لسوء الطالع أنّ التوجهات الشعبويّة سرعان ما تطلّ لالتقاط الفرصة، في محاولة للاستيلاء على المسار العامّ. بما تَعِد به من خروج من الأزمة وبلوغ ما يُشبِه الخلاص والزمن الألفي. والملاحظ كذلك أنّ المدّ الشعبويّ غالبا ما يترافق مع تراجُعٍ في الفكر النقديّ. تغدو الكتل الاجتماعية مجرورة نحو وعودٍ ظاهرها صادق وباطنها زائف. لِيجد المدّ الشعبوي تقدُّمًا كلّما حصل انكماش في التروّي والاعتدال، وسيطرت الأحاسيس الجارفة والعواطف الجيّاشة، ولذلك يصاحب النزعات الشعبوية السياسية ضمورٌ في الثقافة وتطوّرٌ في الديماغوجيا. فقد اعتبر أرسطو الديماغوجيَّ سبب كلّ الشرور.

وعود الخلاص الزائفة
ضمن هذا الإطار المتحكِّم بالفوران الشعبويّ، تُمثّل لحظات الهشاشة الاجتماعية فرصةً سانحة لانتشار خطابات الخلاص، بما تَعِد به من خروج من التّيْه ووصول إلى برّ الأمان. الواقع أنّ العمليّةَ في عمقها تنطوي على مراوَغَة تتخفّى وراءها النزعات الشعبوية، بما توظّفه من رصيد هائل من الزيف تبني عليه وعودها. فيتحول الزعيمُ الشعبوي إلى منقذٍ ومخلّص للجماهير من أوضاعها المأزومة، وإلى مرشدٍ فذّ إلى خريطة الطريق. لذلك أوّل ما تحارب الموجات الشعبوية المثقّفَ النقديّ، لكونه يصعب التغرير به وانجراره وراء الحشد. بما يسعى إليه جاهدًا لبيان أنّ الخروج من الأزمات، ليس بالانسياق وراء الدعوات المضلِّلة التي تلغي الشعوب فيها عقلَها، لأنّ مسائل التغيير الاجتماعي، وببساطة، هي أصعب من أن تتولاها قيادات فوضوية أو تعبّر عنها رؤى عاطفية خيالية.
من هذا الباب تعمل التوجّهات الشعبويّة على إزاحة منابع الثقافة التحليلية، واستبدالها بثقافة هزيلة سطحية تستند إلى التهويل، وإلى نشر التوصيف الكارثي للأوضاع. وبناء على ما تهدف إليه يتسنّى للزعيم الشعبويّ أن يستفزّ غرائز الناس أكثر مما يخاطب عقولَهم، وأن يثير عواطف الجماهير أكثر مما يفي لقِيمَهم أو يشحذ أفكارَهم. معتمدًا في ذلك التهويل، والتعويل في مسعاه على رهان العدوى الاجتماعية، كأحد العناصر المهمة المعتمَدة في البروباغندا الشعبوية.
وفي غمرة الاندفاع لركوب موجة القلق الاجتماعي، ثمة قدرة للبهلوان الشعبويّ على تجميع ما يطفو على سطح المجتمع من مظاهر القلق والامتعاض، وتبنّي تلك التذمّرات وتحويلها إلى قضايا جماعية بقصد تعميق الاستياء العامّ، أي بتوظيف الأحداث لغرض كسب موقف أو بلوغ مأرب. لكن الشعبوية، ما لم تتعرّض إلى نقد بنيوي، يكشف طبيعة تفكيرها وخطورته على المجتمع، فهي تتحول إلى سلوك ملازم لِلَفيف من ممتهني هذا الفعل، يرى فيها الشعبويّ السبيل لكسبِ أنصار جدد، ولحشدِ الجماهير ودفعها نحو مغامَرات جديدة.
واللافت أنّ التوجهات الشعبوية، السياسية منها والدينية، قبل أنّ تحقّقَ أهدافها، فهي لا تعوّل على شخصية محورية، تكتفي بسحرها وجاذبيتها، بل غالبا ما تستعين بجملة من العاملين في مجال الأدْلَجة أيضا لترويج الصورة المنشودة، وهو ما يمكن أن نطلقَ عليه بالعنصر الإضافي في العملية. يلحّ فيه مروِّجو الشعبوية على اعتبار الشعب خزّان الفضائل السياسية والاجتماعية، التي يزعمون الدفاع عنها وحمايتها من الخُدَع الميكيافيلية للطبقة المهيمِنة، ثمّ يعملون على تقديم بدائل لذلك. حيث تتوسّل الشعبوية الدعاية للرواج، وهي عبارة عن خَلْق آلة إعلامية موجَّهة، يُرَاقَب فيها الخبر والمعلومة بقصد إيجاد توجّهٍ عامٍّ، يأتي ذلك بعكس السير الطبيعي في إنتاج المعلومة من خلال المقارَنة بين المصادر وتمحيص الأخبار. ومن هذا الباب تُميّز الشعبوية ريبة تجاه التكنوقراط والخبراء، لإدراكهم عمق القطاعات التي يشتغلون فيها، متّهمة إياهم بالاصطفاف جنب النخبة ومساندة السلطات.

الانشغال بالظاهرة وتشريحها
لا تصوغ الشعبوية رؤيةً عقلانيةً في إصلاح الواقع، بهدف تنقيته ممّا قد يشوبه من تعكّرات، وإنّما عادة ما تَركب موجة القلق الاجتماعي. وهو السمة الغالبة في تعامل الحركات الشعبوية في الغرب مع ظواهر البطالة، وتراجع المقدرة الشرائية، وانتشار التخوّفات الأمنية، لتغدو الهجرة عنوان التأزم البارز وما تجلبه من كوارث. إذ يتحول المهاجر إلى مهدّد للنظام الاجتماعي، في وقت أمسى فيه العالم يتحدث عن المواطَنة الكوسموبوليتية التي ما عادت حكراً على الأهليّين، بل تمتدّ إلى كلّ من تتوفّر فيه شروط المواطَنيّة المطلوبة، بعيدا عن المعايير المتصلّبة المرتبطة بقانون «حق الدم» -ius sanguinis-.
صحيح تتلوّن الشعبويات بحسب الأوضاع، وتتّخذ طابعا يمينيا طورا ويساريا تارة، لكن يبقى الخيط الجامع بينها في حشد الناس باعتماد الأساليب الديماغوجية.

الأكثر تداولاً
خلال 2017، تمّ اختيار عبارة الشعبويّة عبارة العام الأكثر تداولاً، من قِبل «قاموس كامبريدج»، ويورد الباحث باولو غراسيانو في كتاب منشور لدى «منشورات إيل مولينو» في إيطاليا بعنوان «الشعبويات الجديدة» (2018)، أنّ محرك البحث «غوغل سكولار» يحصي أكثر من مئتيْ ألف منشور حول الشعبويّة، ظهر منها ستّون ألفاً بعد العام 2000، أي بما يزيد على الثلث، وهو ما يعبّر عن انشغال لافت بالظاهرة أمام تطوّرها الحثيث.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©