الخميس 2 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

في كتاب «قصتي» لمحمد بن راشد.. سردية الأم الينابيع الأولى للذاكرة والإلهام

في كتاب «قصتي» لمحمد بن راشد.. سردية الأم الينابيع الأولى للذاكرة والإلهام
24 فبراير 2019 03:57

بقلم: د. علي بن تميم

جميعنا يحب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، قائداً وملهماً، شاعراً وأديباً، لكن المحبة تزداد عندما يُشاركنا سيرته الذاتية، وذاكرته الفذة، وستزداد المحبة والحكمة إذا ما قرأ محبو أمهاتهم ما كتبه محمد بن راشد عن أمه الشيخة لطيفة، ضمن إيقاع وفاء ومحبة لا يتكرران، زمن مضى بعد أن سقطت ساعته ورحلت الغزالة التي أهداها لها، رمزاً للزمن وشمسها الساطعة على حياته.
تكبر محبته من محبتنا للسردية الأمومية التي ينسجها عن أمه الشيخة لطيفة المتوفاة في الشهر الخامس مايو 1983، ولعل ذلك هو ما جعل الشيخ محمد بن راشد يبتدئ حكايته مع أمه في الحكاية الخامسة من كتابه المهم «قصتي»، ليقول بأن الحكاية الخامسة التي أبدأ فيها الكتابة عن أمي تتشاكل مع الشهر الخامس مايو، شهر رحيلها، فكونوا مستعدين لسرد الحكاية، وتذكروا هذا الشهر، الذي كان من أقسى الشهور على حد وصف إليوت لشهر أبريل وأمرها على الابن.

الخيـل الأولى
ينشغل الشيخ محمد بن راشد في سياق حديثه عن أمه بالبدايات، الخيل الأولى والحب الأول، ومن أمه، البداية الأولى للبدايات، انبثقت الصفات الحميدة وتجلت المناقب الرفيعة واتقدت المحاسن، الرفق واللطف والإيجابية والتفاؤل ومحبة الحياة والناس، ثمة جماليات للرفق ومزايا للطف والحكمة النادرة تتحدر من الينابيع الأمومية الأولى التي لا تنضب، ومنها تنبثق الحكم وتتولد العلاقات العميقة مع الأشياء وتبرز الرؤية البعيدة في المقارنة بين بدايات الأشياء التي تتشابه في التجليات: «لا يوجد فرق، الخيل الأولى والحب الأول وجهان لعملة واحدة بالنسبة لي».
تتداخل الخيل في ذاكرته مع الأم، صفاتها النبيلة تمتزج عند الشيخ محمد بن راشد بصفات الأمومة، النداء بالاسم والانتظار على نار، والترقب والفرح باللقاء والممازحة والتحية، يقول:

مِنْ عَلَّمْ الخيلْ أنْ باسمي تناديني
وأنِّي إذا جيتْ مِ البِعدْ إتِّلَقَّاني

تفرَحْ بقربي وتمازحني وتحَيِّيني
وَإنْ غبتْ عنها علىَ نارْ إتِّرَيَّاني

هي الصفات نفسها والأخلاقيات نفسها تكاد تظهر في السيرة «قصتي» عن أمه، ذلك الامتزاج والانسجام بين الشعر والسرد، دلالته واضحة في العلاقة بالأم كما يوضح الشيخ محمد بن راشد في كتاب «قصتي»: «كيف لا أحب الخيل وأمي كانت تستطيع ركوب الخيل دون سرج»، والطفل يحب ما تحبه أمه، كانت الحكمة هي الأم، هي الحب وهي الخيل في الذاكرة التي تظهر بأن أخلاقيات الفروسية، النبل والشهامة والوفاء، جميعها ترتبط بالأم في علاقته بها وذكرياته معها في التداوي بالأعشاب، وهي الخبيرة التي أشارت على الشيخ محمد بن راشد بأن يصبر على خيله المصابة ويعالج «السودا أم حلق» بوصفة لقنته إياها ويدرّبها استعداداً للمشاركة في السباق الأول.
يتخذ الشيخ محمد بن راشد من ذكرياته مع أمه ومحبته للخيل منطلقاً ليفسر لقرائه لماذا صار من أكبر ملاك الخيل، حكايات تراثية كانت تسردها الأم عليه، كعادتها حكايات عجيبة وأخبار غريبة، والطفل يسمع ويتذكر، تربطه بالتدريج بمحبة الخيل والتعلق بها، حتى صار من شدة الارتباط بأم حلج، المهرة المصابة، ينام معها في الإسطبل وتعرف الأم أين تجده إنْ غاب عن فراشه ليلاً، الحكايات والتحدي الأول، المنافسة الأولى وسباق الخيل الأول ربطه أكثر بحكمة أمه ومحبته لها وللخيل، ومن الخيل تولدت أجمل الحكم من أمه، الماهرة بطب الأعشاب والعارفة بشؤون الخيل. لقد لاحظ الفتى محمد بن راشد تلك العلاقة الحميمة التي تربط أمه بالخيل، وذلك التفاعل أو التخاطر بينهما: «لاحظت منذ البداية تفاعل المهرة مع أمي عندما بدأت تعاين قوائمها ومفاصلها»، ومن هنا بدأ المشروع الأول عند محمد بن راشد، الخطة التي وضعتها له أمه وتابعت تنفيذها أولاً بأول في علاجه المهرة المصابة «سودا أم حلق»، وليس من المستغرب أن يبدأ محمد بن راشد مشروعه الأول الصعب، وهو يرى مهرته مصابة وضعيفة ينبغي أن يعالجها في ثلاثة أشهر ويدربها حتى يتمكن من المشاركة في السباق الأول، ولا غرابة أن يقول الشيخ محمد بن راشد عن هذه التجربة بأنها «أهم مشروع في حياتي»، بل هي أول وظيفة اختارها ليبدأ رحلته في السباق والتنافس. وقد ارتبط بالخيل من هذه المهرة المصابة، ارتباطاً وثيقاً، تعلم منها إقامة علاقة حقيقية مع حيوان جميل، علاقة صداقة ووفاء تمكنه أن يتحدث معها وأن يستثمر فيها.
لم أقرأ من قبل سيرة ذاتية تتخذ من المقولة الشهيرة «مستقبل الطفل صنع أمه»، إلا بعد قراءتي لسيرة الشيخ محمد بن راشد الذاتية غير المكتملة «قصتي»، فالأم الشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، حاضرة في ثنايا الكتاب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهي تبرز لتحدد مآلات الشخصية، ويتراجع في أماكن أخرى حضورها، لكنها تظل مؤثرة في بناء الشخصية وتطورها.

لطيفة.. رمزية الأم
إنها الشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، والدة محمد بن راشد التي يبرز حضور اسمها «لطيفة» ليشكل السرد ويقود الحكاية. وهذا الأمر لا يقع كثيراً، فالكثير من السير الذاتية لا تتوقف عند الأم، وتكاد لا تجيء على الأم واسمها إلا على استحياء، رغم أن للاسم مكانة خاصة في الثقافة العربية، فهو يمنح الشخصية ملامحها وهويتها، وهو كما يتجلى في «قصتي» عنوان الشخصية، ومنه تستمد الخصائص الفنية السردية، كما يربط الاسم بين الدال والمدلول، ولذلك يقال اسم على مسمى، والاسم هوية تحتفظ به الذاكرة، وبالنسبة لمحمد بن راشد، فإن اسم أمه، لطيفة، رمز روحي خالص وقيمة فنية رفيعة. إنه مصدر فخر واعتزاز، ولفهم السرد الأمومي عند محمد بن راشد في كتاب «قصتي» علينا أَن ندرك بأن اسم الأم هو العتبة الأولى لفهم شخصية الأم والابن على السواء.
لقد اعتاد العرب، منذ القدم، تأمل الأسماء وربطها بحيوات أصحابها وأقدارهم، إلا أن هذا التقليد قد انقطع، وفي السير الذاتية القديمة ظل هذا التقليد قوي الحضور، إلا أن السير الحديثة، لم تتنكر لعلاقة الاسم بالصفات الشخصية وأخلاقها المتوقعة فحسب، بل إن بعض السير قد تجنبت ذكر الأم، بسبب المواضعات الذكورية، لقد مر طه حسين في سيرته العظيمة المعنونة بالأيام، والتي كتبها بضمير الغائب على الأم واسمها مرور الكلام، وأشار إلى الأب وأبرز حضوره، ويمكن فهم ذلك لأسباب ثقافية، على خلاف سيرة إدوارد سعيد «خارج المكان» الذي تأمل اسمه هو وتوقف طويلاً عند أمه ومر مرور الكرام على أبيه، وتحدث عن اسمه الأول إدوارد الغربي الخالص وسعيد العربي الخالص، وهو ما جعله ممزق الهوية بين ثقافتين وأمتين، وأزعم أن سيرة الشيخ محمد بن راشد، من أُوليات السير الذاتية التي مجدت الأم واسمها وأثرها في حياة الإنسان في السردية العربية الحديثة. ومنذ البداية يجد الابن بأن اسم أمه مبارك، ويمكن من خلاله أن يكتشف هويته اللغوية ومساراته لإتمام السرد الأمومي الذي في صدده، ومحفزاً للذاكرة ومسعى لفهم الذات.

الاسم بين أدونيس ودرويش
ولعل ذلك هو ما قاد الشيخ محمد بن راشد إلى أن يفسر الاسم في اللغة والاصطلاح. ومن خلالهما ينسج الحكاية ليكونا ضفيرة يتكون منها السرد الذاتي لينفذ عبرهما إلى الحياة. وبين اللغة والحياة علاقة وطيدة عند الشيخ محمد بن راشد. وأثر اللغة عليه كما نعرف جميعاً كبير. اللغة بما هي قوة فارقة لفهم الحياة والبحث في ذاكرتها. والاسم له مكانة كبيرة في تاريخ الإمارات. وله معنى ودلالات. وكان الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان من أولئك الذين يختارون الأسماء التي تقدم رؤيته المستقبلية للأمكنة والنَّاس. فالاسم يرتبط بالمسمى، جوهراً وشكلاً غير منقطع عن صاحبه، يرتبط به ارتباط الروح بالجسد والشكل بالجوهر، والذي يتمعن في سيرة محمد بن راشد غير المكتملة (قصتي)، يدرك بما لا يدع مجالاً للشك بأن وظيفة اسم الأم قوية لفهم الحياة. ومن الاسم تتحدد الهوية ومآلات الشخصية.
كان الأدباء يبجلون الاسم، ويحتفون به، فأدونيس عنون به تجربته الصادرة عام 1980. ومحمود درويش كرر علاقته باسمه، وحدد فلسفته للاسم في الجدارية. صوت الممرضة يقول:

فاحفظ اسمك جيداً
لا تختلف معه على حرف
كن صديقاً لاسمك الأفقي
ودربه على النطق الصحيح
واكتبه على إحدى صخور الكهف

وما يشكله الاسم في جدارية محمود درويش الصادرة عام 2000 من هوية ومعنى هو بمثابة تاريخ لا يغيب. هو أهم من الجسد. ربما هو الهوية نفسها التي لا ترحل. الاسم لديه هو اللغة والذاكرة والتاريخ. رديف الشخصية. منه تعرف وتفسر. لكن أدونيس على خلاف ذلك. فاسمه هو الغياب والمحو. يدرك إذن محمود درويش فلسفة الاسم عند أدونيس. ويحاول أن يقدم فلسفة تختلف معه. فالاسم عند درويش الحضور والخلود. أما الاسم عن أدونيس فهو الفناء والغياب. وإنْ كانا قد أوّلا اسميهما.

محمد.. هبة الأم
إن الشيخ محمد بن راشد ليس في صدد ذلك. لكننا نعتقد أنه في سيرته المتممة لقصتي سيقوم بقراءة اسمه، وإنْ كان قد جعله هبة الأم التي حلمت بأن الله قد رزقها طفلاً وأسمته محمداً، لكننا نستطيع أن نشير إلى أن اسم أمه، هو الذي أكسبه فهمه لاسمه، إنْ كان الاسم هو الهوية والذاكرة والتاريخ.
لعل ما يسترعي الانتباه أن الشيخ محمد بن راشد أول ما توقف عند أمه ليس في وصف حضورها ولا ذكرياته معها، وإنما لجأ إلى اللغة ليدخل من خلالها إلى تفسير رمزية الأم في حياته ومكانتها. فالاسم «لطيفة» حسب محمد بن راشد، يمكن فهمه من خلال اللغة والاصطلاح، وهما سيقودان إلى فهمه في الحياة. فـ«لطيفة» في اللغة هي: «المرأة الناعمة الرقيقة الرفيقة النادرة». ولعل الرقة والنعومة والرفق متصلة ببعضها. وتتمم بعضها بعضاً، تجمع الصفات الحسية والمعنوية. فالنعومة والرقة صفتان حسيتهما ترتبط بالملمس. وهما أيضاً صفتان معنويتان مثلهما مثل الرفق والندرة، فهما صفتان معنويتان ترتبطان بالسلوك.
أما المعنى الاصطلاحي لاسم لطيفة، فيقول عنه: (هي المقولة التي تشرح الصدر). والواقع أن المعنى الاصطلاحي هو وقع اسم الأم وحضورها على روحه. فهي تشرح الصدر. وبمعنى آخر، فإن ذكرها هو ما يبعد الهم ويبعث على السعادة والراحة والطمأنينة. وبذلك، فإنه يضيف سبباً جديداً للمسببات التي تشرح الصدر في الثقافة الإسلامية وهو اسم الأم. أما معنى «لطيفة» في الحياة، فهو يجمع بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، أي بين المعنيين. يقول: «لطيفة في الحياة هي أمي وقلبي الذي في صدري وأجمل وأنعم وأرق وأرفق إنسانة في حياتي». لعلنا نلاحظ سطوة اللغة على الشيخ محمد بن راشد في تحديد هوية الأم، ذلك لأن الأم هي اللغة نفسها. والأم أساس اللغة ومنبعها، ومنها يستمد الطفل لغته. والشيخ محمد بن راشد وفيٌ للغة أمه، وإنْ حدد اسم أمه في اللغة والاصطلاح، فلأنه يريد أن يكسبه معنى خاصاً. لأنه يريد أن يحدد معناه، فيرد الجميل لأنها من اختارت اسمه، ووهبته هذا الاسم المملوء بالدلالات الخلقية العظيمة (محمد). فلقد حلمت الشيخة لطيفة بأنها قد أنجبت طفلاً سمّتهُ (محمد) الذي حدد فيما بعد معنى اسم (لطيفة). ومن ثم وهبها المعنى ووهبته الاسم ومعناه.

موئل السرد
ولعل المعنى اللغوي والاصطلاحي سيحدد أيضاً المعنى الوظيفي عند الراحل الشيخ راشد بن سعيد، والده، فلطيفة هي الرفيقة في المعنى اللغوي وهي رفيقة درب الشيخ راشد، وفِي رحيلها يتجلى المعنى الاصطلاحي الذي حدده لها «المقولة التي تشرح الصدر»، ولهذا فإن موتها قد غيّبَ أسباب الانشراح والسعادة عند والده. الذي تغيّرَ ولَم يعد كما كان بعد وفاتها. وهو لم يحدد الحالة التي صار عليها الشيخ راشد بن سعيد بعد وفاة رفيقة دربه. وهكذا فالمعنى اللغوي والاصطلاحي سيحدد طريقة السرد في (قصتي). وتوالي الأحداث التي سوف تدور جميعاً حول دلالات الاسم. فمن لطيفة ينبثق السرد. ومنها تتكون الحكاية وإليها ترجع. إنها الساردة الخفية التي تحدد الأثر النفسي والوظيفة السردية. ومن هنا، فإن كلمة «النادرة» التي وصف بها الشيخ محمد بن راشد أمه في المعنى اللغوي تتشاكل مع المعنى اللغوي الذي يرى بأن اللطف هو التخفي أو اللمحة الدقيقة، والعرب تقول حكاية لطيفة. أي فيها تدقيق ولمح وقبس. من شأنه أن يجلب معنى خفياً نادراً بالتحديق فيه.
ومثلما تغيّر الشيخ راشد بن سعيد بعد وفاة لطيفة. فإن لطيفة قد تغيرت ولَم تعد كما كانت بعد وفاة ابنها الثاني مروان وهو صغير. وفاة مأساوية. لكنها وبمجرد مجيء ولدها الثالث «محمد»، انجبر قلبها وعادت من جديد سعيدة بالشيخ محمد الذي كان بالنسبة لها مصدراً للسعادة والانشراح.
ونلاحظ بأن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في سرده يبتعد عن ذكر كل ما ينغّص ويبعث الألم لدى قارئه. إنه الحريص على انشراح الصدر في قصته. لأن أمه هي مصدر السلام والسكينة. ولعل هذا ما يجعله يتجنب أن يعكر صفو قارئه. فلا يسرد حالة الشيخ راشد بن سعيد وتفاصيلها بعد وفاة زوجته. كما أنه لا يذكر لنا حالة أمه لطيفة بعد وفاة شقيقه مروان. وإنما يكتفي بالإشارة إلى أن مروان «توفي بشكل مأساوي وهو صغير»، بل اكتفى بوصف والدته بأنها بقيت حزينة دون أن يصف المأساة ويصف الحزن. وهو ما يجعل السارد حريصاً على سوق ما يشرح الصدر، ويعزز المتعة في القراءة والسعادة والحكمة، بعيداً عن الحزن والألم والسوداوية.
لعل تعلق الشيخ محمد بن راشد بأمه وهو طفل هو الذي يجعله يكون أول المستيقظين في المنزل بعد أمه التي يجدها قد أعدت الفطور. ولا يكاد ينسى رائحة الخبز وأحاديثهما. لقد اعتاد الشعراء أن يصفوا طعام الأم وشرابها الذي تقدمه. فعلى سبيل المثال، فإن أبا الطيب عندما رثى جدته التي يعدها كأمه لأنها ربته، ظل يحن إلى كأس شرابها. يقول: «أحنُ إلى الكأس التي شربت بها». وكان محمود درويش يحن إلى خبز أمه ورائحته ومذاقه وملمسه. يقول: «أحن إلى خبز أمي.. وقهوة أمي.. ولمسة أمي».

أثر أبي الطيب
ولعلنا لا نجانب الصواب إنْ قلنا بأن محمود درويش قد تأثر بأبي الطيب تماماً مثلما تأثر محمد بن راشد بأبي الطيب، وعلى الخصوص في حنينه إلى خبز أمه. إن الأم لطيفة كما يتجلى علمته الاستيقاظ باكراً، وعلمته لذة الحديث، ولقنتهُ الوفاء لذكريات الطعام، كما لقنتهُ الدروس الأولى في الرماية وامتطاء الخيل حتى وصف مهارتها بأن جعلها قد ولدت على سرجه. وهنا، فإن الشيخ محمد بن راشد لا شك متأثر ببيت أبي الطيب وتقاليد العزة عند العرب: «أعز مكان في الدنا سرج سابح»، كما يقول أبو الطيب. ولذا يجعل أمه قد ولدت عليه لشدة اعتزازه بالخيل، وليؤكد العلاقة بين أمه والخيل التي استلهم منها حب الخيل والعناية بها.
ولا يتناقض وصف الشيخ محمد بن راشد لوالدته لطيفة بأنها رفيقة رقيقة. عندما يصفها بالقوة، فهي لطيفة في معشرها. قوية في الدفاع عن حقوق النساء. ويختم الشيخ محمد بن راشد القصة الأولى عن لطيفة، بمقطع مليء بالشعرية، يقول:
مهما الليالي تدور
حبك ترا في الصدور
إنت يا بدر البدور
لك كل حب وشعور

إن للشعر وظيفة في سرد قصتي، فهو عادة ما يأتي ليصور كثافة المشاعر. والبيتان يمتحان من عالم الطفولة، والبراءة والبساطة. ويريد الشيخ محمد بن راشد بذلك أن يشد قارئه باعتراف يشير إلى أن البيتين قد كتبهما وأمه ما زالت حية، وذلك قد يتأكد أكثر وأكثر في الضمير الذي يستخدمه الشاعر. فهو يوجه الكلام لأمه وكأنه يخاطبها وهي حيّة، ويعدها بأنه لن ينساها مهما توالت الأيام وتغيرت.
وسنلاحظ بأن القصتين الثانية والثالثة ستختتمان بالكثافة الشعرية نفسها. وستكرران بسعي الابن إلى جعل الأم لطيفة فريدة لا يشبهها أحد «ومن مثلك يا أمي.. من يشبهك يا أمي؟». سيظل أسلوب المخاطب كما هو. طفل يخاطب أمه.

«بلقيس» نزار قباني
ثمة مؤثران أسهما في تشكيل السرد الأمومي عند الشيخ محمد بن راشد في «قصتي»، من مثل أبي الطيب ومحمود درويش، لكنه يلجأ إلى نزار قباني ليتخذ من وصف نزار لبلقيس منطلقاً لبناء السرد، خاصة تلك الأبيات التي يقول فيها:
«بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل.. بلقيس كانت أطول النخلات في أرض العراق.. كانت إذا تمشي ترافقها طواويس وتتبعها أيائل».
يتخذ الشيخ محمد بن راشد من أبيات نزار مدخلاً لسرد حكايته مع الغزال الرضيع، أول هدية جلبها لأمه. فبعد أن تركت الأم الغزال رضيعها، وانضمت إلى القطيع، أدرك ابن السابعة محمد بن راشد أن حنان أمه سيعوّض الغزال الرضيع عن فقدان أمه، ولذلك أخذه هدية إلى أمه الشيخة لطيفة.
إن السرد الأمومي عند الشيخ محمد بن راشد يسعى كي يكون طفولياً، لغة تكاد تشبه لغة الأطفال وتخيلاتهم ورمزياتهم وأساليبهم القصيرة المختصرة، وتنقلاتهم من حديث لآخر. أول هدية وأول رحلة وأول حكايات خيالية غريبة، يسعى من خلالها إلى أن يصوّر أسلوب الأم في شرح ما لا يدركه الأطفال. فبدلاً من أن تقول ستسافر في طائرة إلى لندن، تصوّر له بأنه سيسافر في بطن طائر كبير ليقطع به محيطاً ممتداً على مدى النظر. هي محاولة لوصف مقدرة أمه لطيفة على السرد وتقريب الأشياء والمستقبل التي تدق على فهم الطفل بصورة مشوقة مليئة بالمغامرات، وتناسب طبيعة تخيلات الأطفال. ومن هنا ندرك بأنها قد غرست في ابنها التعلق بالحلم والمستقبل وترقبه.
تحاول الأم أن تستخدم الوصف الطفولي المليء بالخيال لتقرب له طبيعة مسكنه في لندن.
الدهشة الأولى
يمتلئ السرد الأمومي في «قصتي» بالأشياء الأولى، وهو ما يتفق ويتسق مع طبيعة علاقة الأم بابنها. فهي مصدر الأشياء الأولى.. الرحلة الأولى.. الدهشة الأولى.. المعلومة الأولى.. والفرس الأولى.. ويجهد في أن يثبت سردياً بأن ما يأتي من الأم يظل عالقاً في الذاكرة ولا ينسى. وهو ما يكرره الشيخ محمد بن راشد.
وهكذا، فالسيرة الذاتية تعتمد على النسيان والسعي إلى التذكر. لكن الطفل محمد بن راشد يؤكد أن ذكريات الأم لا تنسى. إن هذا الإلحاح على عدم نسيان سرد الأم وذكرياتها وحكاياتها متقصّد. لا ينسى محمد بن راشد طفولته تلك المرتبطة بالأم. وهذه النزعة لا تتكرر إلا مع أمه. فالنسيان قد يقع إلا في الأمور التي جرت مع الطفل في ذكرياته مع أمه.

مقاومة النسيان
إن أبلغ اعتراف وأصدق وصف للذكريات وللذات هو ما نجده عند حديث الشيخ محمد بن راشد عن أمه وطفولته. السرد مليء بالشفافية والاعترافات. ولا يتوانى فيها محمد بن راشد عن وصف بيتهم والبيت الذي سيسكنون فيه.. الانتقال من البساطة التي اعتاد عليها إلى عالم شاهق مليء بالتعقيد. والانتقال من الملابس القديمة إلى الملابس الجديدة. ومن البساطة إلى الأناقة. وكأنه يريد أن يقول بأن اكتشاف العالم تحقق من خلال الأم التي علمته المغامرة برعايتها ونقلته من حال إلى حال في المسكن والملبس. بل علمته أن يستغل ما قدُم من أشيائه. إنها قد علمته بمعنى آخر نقل الأشياء من وظيفة إلى أخرى، فالملابس التي لا تصلح للارتداء عليه أن يعيد تشكيلها ويستعملها في ركوب الخيل. ومما لا شك فيه، فإن القارئ لحكايات محمد بن راشد عن أمه سيزداد إعجاباً به ومحبةً وتقديراً وفخراً. فلقد أحسن في وصف أمه بسرد يقوم على الوفاء والحنين والبر، وعندما يفعل ذلك يقدم لقارئه فهماً لشخصيته هو. إن الشيخ محمد بن راشد عندما تأمل المعنى اللغوي لكلمة لطيفة، فإنه لم يشر إلى «البر». لأنه قد استغنى عنه بسرد يقوم على البر بالأم شكلاً وجوهراً.
لعل أول ما يمكن ملاحظته في سرد محمد بن راشد عن أمه، سعيه إلى مقاومة النسيان. فهو يؤكد في كل جملة «ما زلت أذكر» أو «لن أنسى». إنها محاولة منه للحفاظ على ذاكرة الأم. الذاكرة الأقرب إلى روحه. الأكثر حميمية والأكثر صدقاً والأكثر إبداعاً في الوصف. إنها الذاكرة التي قدمت له العالم، وفهم من خلالها الآخر. ولعله بنى السرد كله على جملة قالتها أمه له عند سفرها إلى بريطانيا. كان ذلك في آخر لقاء محمد بن راشد مع أمه. كانت تودعه وتقول له: «ومن مثلك!». وسيستعمل الشيخ محمد بن راشد هذه العبارة لتكون لازمة تتكرر. «ومن مثلك يا أمي!». البر بلغة الأم والوفاء لها يتجلى في إعادة صياغة جمله انطلاقاً من كلمات الأم، وذلك تقديراً للغتها بأساليب تنبني على عالم الطفولة.

الساعة بعد الغزالة والأنثى
تأتي الساعة التي كان يرتديها محمد بن راشد لتكون رمزاً يؤثر على تغير الزمن. فقبل سفر الأم لطيفة للعلاج نظرت إليه، ثم نظرت إلى ساعته. قرر محمد بن راشد بعد عودة أمه أن يهبها هدية أخرى بعد الغزالة الأنثى، وهي الساعة، لكنها لفظت أنفاسها الأخيرة. مشى الابن في جنازة أمه المهيبة التي يحبها كل الناس. نزل معها القبر، ومثلما وهبته الأشياء الأولى، فإنه لم يتوان عن أن يسجيها في مثواها الأخير، وبينما هو يخرج من القبر، سقطت ساعته من يده، وعيناه ممتلئتان بالدموع، لم يحمل الساعة مرة أخرى بل تركها في القبر وأهال عليها الرمل. الساعة هنا هي شيء منه لها. رمز آخر يجسد به الشيخ محمد بن راشد تغير الزمن برحيل والدته. ولذلك فإنه يكرر (شيء مني معها)، ويقصد زمنه وذاكرته التي جسدها بسقوط الساعة في القبر. فقد تغير كل شيء، الزمان والمكان في عين الابن بعد رحيل لطيفة، وإنْ كانت الساعة هي رمز الزمن، فإن الغزالة التي أهداها لها وهو صغير كانت رمزاً للرقة والحب غير المشروط. الرقة في القول والذكر واللمس والقدرة على الاستماع والتقدير، التضحية المستمرة، كانت الغزالة منذ القدم رمزاً شمسياً. والغزالة في اللغة هي الشمس مصدر النور والضوء، وعلى هذا الأساس، ففي السرد الأمومي عند محمد بن راشد رموز يستخدمها كالغزالة والساعة ليهمس بهما بدلالات عميقة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©