الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سواد داخلي

26 ديسمبر 2011 22:48
كم رهيباً أن تحس في أعماقك أنك تفتقد شخصا حد الألم، مع اليقين الثابت بأنك لن تحضنه أبدا، كم رهيباً أن تشعره جانبك في الطرقات، في الشوارع الفسيحة، وفي كل الامتدادات الجغرافية للزمان، لكن تفصلك مسافات بعيدة جداً عنه، هكذا قالت وهي تداري دموعها، وأضافت: قررت استئصاله كعضو ينخره المرض لتستمر الحياة، لم أذكر يوما أصابعه تداعب خصلات شعري، ولا رأيت الفخر في عيونه عند استلامي أولى شهاداتي المدرسية، مرارة الفراق لازالت في حلقي رغم مرور السنين. وهي تحدثني، كنت أبحث عن كلمات تبلسم جراحها، لكني لم أستطع قهر سوادها الداخلي إلا بابتسامة تهدئ من روعها، وكلمات تغير مفهوم الأبوة عندها، وقلت إن للحب معاني كثيرة، قد يكون أنانياً مرات. استرسلت في حديثها، يكاد الغيظ يحجب رؤيتها: انفصلا عن بعض، وكل منهما تزوج، وأصبح لهما أطفال آخرون، ولم يعد هناك بيت يأوي غضبي وشغب أخي ودلاله، سرقت منا لحظاتنا. أنينها يعلن أننا لا نشفى من طفولتنا، أحسست بموجة حزن تخترقها، حاولت خلق تواصل بيني وبينها بسؤالها عما تقوم به الآن، وبالحديث عن أخيها الذي يقاسمها مشاعر الأسى من فراق أب على أم، وهاجر للبحث عن مكان لا برودة فيه، وعن حضن آمن فتزوج أجنبية من عمر والدته، يسكب آلامه في كأس النسيان. عبرت غيمة تقاسيم وجهها وهي تواصل: أمي أنانية، وأبي لا يعيرنا أي اهتمام، فعندما تأخذ الأم مصباح النور الذي يضيء قلب الزوج، تصبح دهاليزه معتمة فلا يجد الأولاد إلا السواد، يبعدهم عنه محاولاً مسح ذكراها، وأصبح قلبه معتاداً على الظلام، لم يسأل عنا يوماً، وانصرف لعوالمه مع امرأة أخرى يبعثر أمواله، بينما هي ربطتنا بها أمومة فاترة، وحديثنا عتاب دائم. شعرت بحسرتها تتسرب إلى قلبي، فسرحت بي لحوادث أطفال، مراهقين وكبار، جروحهم كبيرة، من جراء انفصال أب وأم، حين تجالسهم، تكاد ترى في عيونهم الحسرة والأسى، يضمدون جراحهم بردات فعل قاسية على أنفسهم، نلومهم أحياناً وهم لا يستحقون ذلك. فالآباء لا يدركون أن حوادث الطفولة تخلق ندوباً وإعاقات مستديمة قد لا تمحوها السنين، تظهر انحرافات وتدخيناً، وعصيانا حد المعصية، وجلدا للذات، يصاحب هؤلاء الضحايا. رغم الأعوام لم تشف من سوداويتها، ربما الألم والعنف منعاها من رؤية صورة والديها بعين موضوعية، ولم تحتفظ إلا بصورة الأب المجهضة في أعماقها، تحمل كلماتها من السوداوية ما شدني لطريقة تعاملها مع والديها وتنكرها لهما، صباها البعيد حيث كانت تعاني يغرقها في الألم، ويخفي ابتسامتها، أسئلة تساقطت كحبات المطر: لماذا أنا؟ لماذا أولادهم ينعمون بفيض حبهم؟ لماذا المعاناة؟ الحياة قصيرة؟ الأمومة تولد مع الأنثى، وأمي أنثى ولماذا هي ليست أما؟ هاجرت هربا من ذكراهما، وشكل ذلك شبه قطيعة بينها وبين والديها ولا تتبادل الأخبار معهما إلا لماما. lakbira.tounsi@admedia.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©