الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هجرت بيتي وجلست فوق شجرة

هجرت بيتي وجلست فوق شجرة
4 فبراير 2012
بينما كنت أنقل أمتعتي من شقتي المستأجرة إلى بيتي المملوك لي، استوقفني أحدهم وسألني: وما الفرق، شقة مؤجرة أو بيت خاص؟ بالطبع، هذا السؤال لا يصدر إلا من فم مجنون، لكنه لم يكن مجنوناً، فالشقة التي أعنيها هي مدونة إلكترونية كنت أنشر فيها كتاباتي، والمنزل الخاص هو موقعي الإلكتروني. قلت للسائل: المسألة في الحكم الذاتي وتقرير المصير، فالمدونة ليست ملكي وإنما هي مملوكة لشركة ما وأنا مستضاف فيها. لذلك، فحريتي فيها محدودة، وتغييراتي مقولبة، والسعة المسموحة قليلة، بينما الموقع الإلكتروني مُلك خاص، تماماً كالفرق بين شقة إيجار وبيت ملك. وبعد السكنى في بيتي الجديد، جاءني مهندس إنشاء الموقع باقتراح الانضمام إلى «تويتر» و»فيس بوك»، لكن اقتراحه لم يشدني، فأنا أملك بيتاً أسرح فيه وأمرح، لا يشاركني فيه أحد إلا الضيوف الكرام، بينما في هذه المواقع المخصصة للتواصل الاجتماعي، أنت ضيف مع ملايين الضيوف على السيد «مارك زوكربيرج» وشركة «واضح». لديّ بيتي يا سيد مارك ولا أحتاج إلى كتاباً لوجهي منك، وجهي أجمل من وجهك أصلاً. وكذلك الحال معكِ يا شركة «واضح»، لا أحتاج إلى غصن تافه في شجرتكِ لأقف عليه وأغرّد كأنني عصفور لاجئ. ولحسن الحظ أن المهندس تجاوز عن غبائي وأنشأ صفحتين باسمي في الموقعين. وبدأت أدخل «فيسبوك» من باب الفضول والعلم بالشيء المليء بصور الكائنات الحية الجميلة، وبعد فترة تركته بسبب شعوري بأن خصوصيتي تُنتهك على أيدي «الفيسبوكيين» الذين أعرفهم على أرض الواقع. دخلت بعد ذلك «تويتر» من باب الفضول أيضاً، وإلا ما حاجتي لغصن في شجرة مشاعة وأنا أملك بيتاً خاصاً؟ أنا في هذه المسألة رأسمالي حتى النخاع. لكن حتى الفضول كان صعباً ممارسته، فأنا لست مغرداً ولا أشبه العصافير، خصوصاً في شكل الجسم، كما أنني أكتب في الغالب بأسلوب ساخر ومتهكم، والكائن غير البشري الأقرب لأسلوبي هو النحلة. ولم أعرف أنني أعيش خارج العصر ومغتر ببيتي إلا في معرض للكتاب حضرته للتوقيع على كتابي، وتصادف أن كاتب آخر سيوقع على كتابه، وجلسنا نحن الاثنين على مقاعد وثيرة في جناح دار النشر ننتظر القرّاء، أو بالأحرى أنا الذي كان ينتظر، فالكاتب الآخر كانوا ينتظرونه، قارئ وراء قارئ، وإهداء بعد إهداء، وكدت أضحك على نفسي، وتخيلت أنني ذلك الشخص الذي يسلّم الميداليات لراعي البطولة ليقلّدها للاعبين الفائزين. لم أكن أعرف السبب، وكان الحوار بين الكاتب والراغبين في اقتناء كتابه غريباً، إذ يأتي أحدهم ويقف أمامه ويقول: كنت أتابعك وعلمت بوجودك في المعرض فحضرت لأحصل على نسخة من كتابك. عرفت أنك هنا فحضرت. متابعين دائمين ونتشرف بأن نقتني كتبك. وهو يتبسّم لهم ويبادلهم بعض العبارات الجميلة و.. يوقّع، وأنا متعقد. والنفر الذين وقّعت لهم كتابي كانوا قد قِدموا لاقتناء كتابه، وربما آلمهم حالي واحمرار وجهي وعدم انخفاض مستوى جبل نسخ كتبي الموضوعة أمامي على الطاولة، بينما جبله ينهد في وقت قصير ثم يأتون له بجبل جديد، و»هات يا توقيع». انفردت بصاحب الدار وسألته: يبدو أنك نشرت إعلاناً في الصحف تروّج فيه لكتاب صاحبك، ولم تفعل ذلك لكتابي المسكين. صحيح هو كاتب بارع ومذهل، وكتابه سهل الأسلوب عميق المضمون، لكن كتابي ليس سيئاً كما قلت بنفسك، يا رجل: إنهم يعتقدون بأنني المسؤول عن إمساك قلمه في أثناء ترتيب غترته على رأسه؟ فنظر في عيني وسأل بجدية: كم شخصاً يتابعك في «تويتر»؟ فضحكت من سؤاله الغبي، فما دخل هذا الشيء في كتابي؟ المهم أنني قلت له إنهم على ما أذكر 200 متابع، فقال فوراً: هو لديه 40 ألف متابع، وبتغريدة واحدة منه ذكر فيها إنه سيكون في المعرض، أتى كل هؤلاء، وأمس أيضاً أتى مثلهم، وغداً سيأتون. يا صديقي الموقع الإلكتروني مثل بيت مُلك لا أحد يدخله إلا أهله، والمدونة الشخصية شقة مستأجرة قد تلتقي أثناء صعود البناية والنزول منها ببعض الجيران، أما صفحة «تويتر» فهي شرفة تطل منها على العالم بأسره. خرجت من المعرض وقلبي مليء بالحقد على جهلي، ويشهد الله أنه لم تخرج من عيني أي أشعة حسد تجاه ذلك الكاتب البارع تأليفاً والذكي تقنياً، ولم يكن لدي الوقت حتى لأغبطه، فقد كنت غارقاً في بحر ملامة النفس، والبحث عن عقلي الذي كان يتهرّب من الأسئلة، لأصفعه على فصوصه. وكان موقعي الإلكتروني اللعين يخطر ببالي في الطريق، وتأتيني أفكار سادية: سأدمّر هذا البيت الافتراضي الذي لا يزورني فيه إلا ضيف واحد كل أسبوع. وسألت نفسي: لماذا أكتب؟ أليس للتعبير عن مشاعري وأفكاري وأحلامي وهواجسي؟ ما فائدة الكتابة إن لم تصل إلى القراء؟ نعم هناك قراء للورق، لكن قراء الشاشة يتزايدون، ويستطيعون الوصول إليك من كل مكان، وفي أي وقت، والذي كنت أجهله أنهم يتحاشون أن يكونوا ضيوفاً في بيوت فلان وفلان، إنهم يفضّلون أن يكونوا مع مَن يحبون على شجرة واحدة. أفضّل اليوم الجلوس بالساعات على غصن شجرة يقف عليها آلاف المغرّدين والغربان والدببة الطيبة، أغرّد بصوتي الذي لا يشبه التغريد أبداً. وكلما مرّ شخص، أطلقت تغريدة لعله يقف ويستمع. أما بيتي، فقد عششت العناكب في مداخله، وأصبح بالنسبة لي مجرد أرشيف مليء بالغبار. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©