الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الأميركية جين بولز.. اللؤلؤة السوداء السّاخرة

الأميركية جين بولز.. اللؤلؤة السوداء السّاخرة
23 فبراير 2019 00:52

أبوظبي (الاتحاد)

رغم مرور نحو 45 عاماً من رحيلها، تعود الكاتبة والروائية والقاصة الأميركية الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة جين بولز بين الحين والآخر لتشغل مكاناً هاماًّ في الساحة الثقافية العربية، وهذه المرّة من خلال روايتها اليتيمة (سيدتان جادتان)، وهي واحدة من روائع الأعمال الأدبية المفعمة بالسخرية والغموض.. إنها رواية إشكالية ومثيرة للجدل عن تفكك العالم المتداعي لنساء الطبقة المخملية، بميولهن الفوضوية وإحساس الاغتراب الذي يكتنف حياتهن الممتلئة بأخبار الشائعات والمظاهر الزائفة.
الرواية التي تقع في 348 صفحة، ونشرت عام 1943، وصدرت في أول ترجمة عربية للناقد الدكتور وائل عشري، عن دار «الكتب خان» في القاهرة. تسرد بولز في متنها قصة صديقتين تقرران إعادة اكتشاف نفسيهما عبر تجربتين غاية في الخطورة، الآنسة «كرستينا جويرنج» و«فريدا كوبرفيلد»، أولاهما عانس متصابية، تبيع منزلها وترحل إلى إحدى الجزر النائية الموحشة، لتتورط في جملة من العلاقات المرتبكة الفاشلة مع رجال بحاجة في الأصل لحل عقدهم النفسية، والأخرى تعيش حياة تعيسة مع زوجها، ثم تقع في فخاخ (الحب الضائع)، ثم تهجر زوجها، منسحبة إلى عالم من القسوة والأنانية والتقوقع حول الذات.
تلتقي الصديقتان في نهاية الرواية لكي تحصيا خسائرهما النفسية المؤلمة، بعد تجربتين قاسيتين، جعلتهما فارغتين تماماً من الداخل، لكن الرواية التي وصفها الكاتب ترومان كابوتي، بـ«الأسطورة المعاصرة» وقال الكاتب المسرحي الأميركي تينسي وليامز إنها «كتابه المفضل»، هي في الواقع واحدة من الأعمال الأدبية النادرة التي تقوم على بنية سردية محكمة، تحمل طابع النّسق أو النظام السلس الواضح فالكاتبة بولز الملقبة بـ(اللؤلؤة الأدبية السوداء) تعرف كيف تحكي موضوعها أو أحداث روايتها عن طريق قناة خاصة بها هي المشاعر الإنسانية ومفاتيحها وصناديقها المحتشدة أسراراً وغموضاً.
ولدت جين بولز في نيويورك لأسرة ثرية، وعرفت بحسّها السّاخر حيال كل شيء في عالم المتناقضات، كما كان يحلو لها تسميته، حتى يذكر عنها أنه عندما تذكر كلمة «السعادة» في حضورها، كانت عيناها المغرورقتان بدمع غير مرئي تتسعان ضحكاً، وتقول بسخرية: «السعادة ما هي السعادة؟ أين هي السعادة؟»، وكأن لسان حالها يعيدنا إلى فكرة الوجود وعذابات الأرض في مسرحية (أوديب ملكا) لليوناني سوفوكليس، وهي حيث كان أوديب يردد على الدوام: (سعادة الإنسان لا توجد إلا في القبر)، بالطبع كان الجميع يعتبر أن سخرية جين بولز هذه محيّرة، وحتى عند قراءة أعمالها وبخاصة المسرحية، نجد أنفسنا ملزمين بالتناغم والتكيّف مع الجانب الساخط والساخر فيها.
اشتهرت بولز ككاتبة مسرحية من خلال مسرحيتها «في البيت الصيفي»، وموضوعها مستمد من تجربتها الشخصية، مع إنارة كاشفة على أحوال المجتمع الأميركي، والمتناقضات التي يعيشها في ظل العولمة، ولها مجموعة قصصية بعنوان «متع عادية»، وتحمل في ثناياها 12 قصة قصيرة، معظمها لا يخلو من مسحة عميقة من الحزن والألم والخيال والرمزية، حيث كانت بولز تعتبر الخيال هو طريقة غير مباشرة للاقتراب من خبايا الحياة، فمواضيعها التي تقوم على (المفارقة)، مستلهمة من ذكريات الطفولة ومن تجارب الحياة والرحلات ومن الطبيعة التي كانت تعشقها، إلا أن بطلات قصصها المهمشات، دوماً، يحلمن بمتع الحياة المحرومات منها، إنهن غالباً ما يصوّرن كضحايا للتقاليد الاجتماعية البالية والقوانين الميكانيكية المفروضة بحكم العرف السائد.
إن أهم ما في أسلوب بولز الكتابي، هو مهارتها في إطلاق العنان للغتها الراقية الدافئة والحميمية لتغوص في دواخل الشخصيات وهواجسها وبخاصة النسائية منها، ويبدو ذلك واضحاً في روايتها «سيدتان جادتان» التي تعتبر من أهم وأجمل كتاباتها، كونها مبنية بناءً هندسياً فريداً من نوعه، بناء يقوم على قالب دائري في السرد، وإذا تذكرنا هنا أن جين بولز كانت مهتمة جداًّ في شؤون الموسيقى والمسرح والفنون بعامة، ندرك تماماً العلاقة بين منهج التفكير لديها وأسلوبها في كتابة القصص القصيرة وتحديداً قصتها (يد أختها لي) التي تتمتع بتدرج سردي قلّ نظيرة في كتابات تلك الفترة، ومناخاتها ذات النفس الوجودي العبثي، ثم أهم كتبها النثرية بعنوان (تجميع المقالات) الذي صدر في نيويورك ويحمل بين دفتيه 167 مقالة متنوعة في النقد والأدب، وأحوال الدنيا، والسياسة، والسيرة الذاتية، والأشياء العارية القاسية في الحياة، ومقاربات حول العنصرية، واليوميات المعيشة، وأعلام الأدب الأميركي، وغير ذلك من شؤون الثقافة والفكر والأدب، وجميعها في الواقع جعلت منها الأسطورة المعاصرة كما قال عنها كابوتي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©