السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أم البنات

أم البنات
15 ديسمبر 2011 20:29
(القاهرة) - عندما كنت طالبة في الثانوية العامة، فقدت أبي الذي رحل عن دنيانا بعد رحلة مع المرض، وتولت أمنا كل شؤوننا ونحن صغار زغب الحواصل أنا وأخوتي الثلاثة الأصغر مني، ولم يترك لنا أبي إلا المنزل الذي نقيم فيه، فأغلقت أمي علينا الباب واحتوتنا تحت ردائها وهي تضمنا ونحن سعداء بحضنها وحنانها، إلا أننا مع صغرنا لا نشعر بكل ما تعانيه وتقاسيه من أجل توفير لقمة العيش لنا بجانب المصروفات المدرسية التي كانت تقصم ظهرها، وإن كنا جميعا ندرك ذلك فلا نسرف في الانفاق بل لا ننفق إلا عند أشد الضرورات، وقد كنا نحن الأربعة على نفس الشاكلة. بيتنا لا يعرف شيئا اسمه الأثاث أو أي قطع منه فقط ننام على مفروشات قديمة، ونلتحف أغطية من صوف الأغنام الرخيص، في الشتاء القارس نحاول أن نتجمع تحت واحد منها لنستطيع أن نتدفأ، أما اذا أمطرت السماء فلا مفر لنا غير أحد الاأركان، نأوي اليه للاحتماء من القطرات الى تنهمر علينا، وهذا وحده كان كافيا ليكون بيننا وبين الشتاء عداوة أزلية ولم نتصالح معه حتى بعد أن تغيرت أحوالنا، وأحببنا الصيف لأننا لا نحتاج فيه لا الى فراش ولا إلى غطاء وأطلقنا عليه لقب صديق الفقراء، وبطبيعة ظروفنا ليس لنا ملابس للصيف وأخرى للشتاء حسب الجو وكما هو الحال عند السواد الاعظم من الناس، لكن الغريب ونحن نعيش على هامش الحياة، لم نشعر بأي نقص ولم ننظر الى ما في أيدي الآخرين، وكانت لدينا قناعة كاملة، وعرفنا فعلا أنها كنز لا يفني كحقيقة واقعية وليس مجرد شعار يردده المحرومون. المهم أنني كي اختصر الطريق الدراسي رغم تفوقي اخترت كلية نظرية في دراستي الجامعية، لكي أتحاشى المصروفات التي لا قبل لي بها، أما الأهم من هذا فإنني أقمت في المدينة الجامعية التي توفر لنا المسكن والطعام، فلم أكن في حاجة إلا لثمن الكتب والمواصلات، ما جعل المرحلة الجامعية بالنسبة لي أفضل حالا من المراحل السابقة بجانب أنني أتحت الفرصة لامي كي توجه جهدها الى أخوتي الثلاثة بجانب أنهم خرجوا الى سوق العمل في أعمال مختلفة لا تناسب أعمارهم، إلا أن الاضطرار والضرورة كانا أكبر منا، ولم يكن أمامنا اختيار إلا ذلك، ولا بد أن أقول إنهم كانوا على قدر المسؤولية، حتى انهم خففوا كثيرا من آلام أمي بعد ترملها وتحملها تبعات حياتنا كلها، وكانوا على صغر سنهم رجالا نعتمد عليهم واستطاعوا فيما بعد ان يكونوا ناجحين في حياتهم بسب هذه التجارب والخبرات التي اكتسبوها منذ نعومة أظفارهم. ارتديت النقاب أثناء دراستي بالجامعة عن قناعة تامة، فأنا ملتزمة منذ صغري وكنت قبل النقاب محجبة، ويشهد جميع من حولي بحسن خلقي وهدوئي وحكمتي في التعامل مع الامور وفي مختلف الاحوال، وإن كنت أعترف في المقابل انني متوسطة الجمال، إلا أن الحشمة في الملبس جعلت الكثير من الشباب يتقدمون لطلب يدي إلا أن أمي رغم الأعباء المالية عليها بسبب الدراسة كانت ترفض فكرة الزواج إلا بعد أن أحصل على الشهادة الجامعية. لم أكن مشغولة بهذا الجانب لأنني أجد أنني لست أقل من أخوتي في تحمل المسؤولية الأسرية، وخاصة أنني أكبرهم، وكل ما كان يهمني حينها أن يكمل أخوتي تعليمهم ويقفوا على أرجلهم في الحياة ومواجهة أعبائها، لذا كنت مؤيدة لرأي أمي تماما في عدم التعجيل بالزواج، بجانب انني كنت راغبة في العمل أولا حتى اذا تقدم لي شاب مناسب أستطيع أن أساهم ببعض المال في تكاليف الزواج للتخفيف عن أمي، ولا أريد لها المزيد من الأعباء والمعاناة، وكفاها ما لقيت في حياتها، حتى لو بقيت بلا زواج، وقد كنت بجانب هذا أفكر جديا في ادخار مبلغ يكفي لكي تقوم بأداء العمرة هدية لها أراها مناسبة. لم يحدث شيء من كل تلك الأمنيات أو الخطط التي كنت أخطط لها أو أحلم بها لأنني فور أن انتهيت من دراستي، تقدم لي شاب من أقاربي يطلب يدي، لا غبار عليه تتمناه أي فتاه لانه غاية في الالتزام والخلق، ويعمل في وظيفة لا بأس بها، إلا أنه متوسط الحال وظروفه شبه صعبة، واذا كان هذا عيبا، فهو عيبه الوحيد، أما من الجانب الآخر فقد كنت أستريح له وبالطبع عندما تقدم لي تمنيت ان تتم الزيجة، إلا أنني من باب حياء الأنثى لم أستطع أن أبدي رأيي في البداية وتركت لامي- وأخوتي رغم انهم أصغر مني- القرار ولو كان في عكس رغبتي، ولكن وجدتهم يتركون لي حرية الاختيار وأخيرا كان التوافق لانهم يعرفونه جيدا ويرحبون به وتمت الخطبة من دون أن يبدي أي منا شروطا. كنت العروس الأقل «تكلفة وإنفاقا» في الحياة خاصة فيمن هن مثلي، فقد تزوجنا بين جدران الشقة التي استطاع زوجي أن يحصل عليها أثناء فترة الخطبة بالتقسيط ومازال يتحمل عبئا ماليا شهريا، ليس لدينا أي أجهزة تذكر ومن عرفوا ذلك تندروا علينا وكنا مادة للنميمة بينهم، ووصلوا في النهاية الى أنه لا مبرر لذلك بأن أقبل هذه الاحوال، والحقيقة أننا كنا متحابين جدا لكن لا نبوح بالحب وانما يظهر جليا في حياتنا الزوجية فانا لا أشكو هذه الظروف ولا أناقشها مع زوجي وأشعره بانني يكفي أن أكون معه ولا يهم المكان وإن كان صحراء جرداء، وقد كان يقدر لي ذلك ويحترمني الى أقصى حد وأشعر بأنه يريد ان يبني لي قصرا وعشت على الأمل. السعادة ترفرف على عشنا البسيط، لا تواجهنا أي مشكلة، أو لا ندع للمشاكل سبيلا تنفذ منه الينا، وكانت هدية ربنا السريعة لنا أن حدث الحمل بعد شهور قليلة من زواجنا، وكانت الفرحة به عارمة، خاصة من أسرة زوجي التي أقامت احتفالا بهذا الحدث الكبير، وهنا تنبهت لشيء مهم لم يخطر على بالي منذ ارتبطت بزوحي أو عرفته، إنه وحيد أبيه مع سبع بنات، وأبوه وحيد أبيه، وجده أيضا وحيد أبيه، أي أن اباه وأجداده جاءوا «فرادى» لذا فإن أخوات زوجي وأمه وأباه أمنيتهم الأولى أن يرزق بحفنة أولاد ذكور تعوض هذا النقص الكبير في رجال العائلة، هنا أسقط في يدي وشعرت بأنني في مأزق حقيقي لو كان المولود أنثى، فهذا ليس بيدي، وانما هي إرادة الله ولا اختيار لاحد في ذلك، وظللت أترقب أكثر مما يترقبون طوال فترة الحمل، وقد أكون أيضا أكثر قلقا منهم، وجاءت لحظة المخاض وأنا بين ألمين ألم الولادة وألم انتظار «الولد». وجاءت مولودتي الأولى أنثى، ورغم حبي الكبير لها كنت في غاية الحزن ليس اعتراضا وإنما وددت ان أكون سببا في ادخال السرور على نفس زوجي اولا ثم أسرته ثانيا، وللحقيقة فقد كان رد فعله على عكس ما توقعت وجدته سعيدا بالمولودة، يشتري لها أفخر الملابس، واعد لها عقيقة كانت أشبه باحتفالية من احتفاليات الف ليلة وليلة، جعلني بسلوكه هذا أنسى ما كنت افكر فيه من قبل، وايضا من باب الامانة لم أسمع ولم أر من اي من أفراد الاسرة كلمة جارحة أو تعبيرا يضايقني وانما اعتبرت أخوات زوجي انهن زدن اختا وكن كلهن يتبادلن احتضان صغيرتي التي عرفت الدلال كله، والهدايا من هنا وهناك ومن هذه ومن تلك. تكرر الحمل بعد ذلك ثلاث مرات، وفي كل مرة يأتي المولود أنثى، بما لا تشتهي نفوس أسرة زوجي الذين بدأ يظهر عليهم التأفف والقلق، لكن زوجي نفسه لم يتغير في سلوكياته ورد فعله قيد أنملة، وأجده شاكرا لنعمة الله لنا ونحن نعلم ان غيرنا الآلاف يتمنون مثل واحدة من بناتنا الا ان الظروف مختلفة، أنا نفسي وجدتني مذنبة بلا ذنب لا أعرف ماذا افعل، وفي نفس الوقت لا أريد ان أكون عقبة أمام سعادة الجميع وخاصة زوجي الذي أحبه بلا وصف، فكان لابد من التضحية وفاتحته صراحة بانني لن أكون منزعجة ولا رافضة اذا أراد الزواج من أخرى فهذا حقه، فإنني فوجئت بجوابه بانني لا دخل لي في ذلك على الاطلاق فأولا وبعد إرادة الله فان الرجل هو السبب في إنجاب الذكور، كما يؤكد العلم ورغم علمي بهذا فإنني لم أرد ان أجعله حجة للدفاع به عن نفسي، وأكد لي مجددا انه لن يرضى عني بديلا ولن يقبل ان تشاركني أخرى فيه، وراح يعدد لي مميزاتي ووقفتي بجانبه طوال حياتنا وقد تخطيت انا الاربعين وهو يكبرني بثلاث سنوات، رزقنا ربنا خلالها بما لم نكن نحلم به، أصبحت لدينا شقة فاخرة في منطقة راقية، وسيارة فارهة، ونعيش في بحبوحة من فضل الله علينا، وتغيرت حياتنا تماما. بدأ زوجي يلح عليّ من أجل التجريب للمرة الخامسة لعلها تكون الشافية، وبعد جدل شديد وشد وجذب ورفض من جانبي بسبب الخوف من النتيجة التي أشعر بها الى حد التأكد من قبل ان تبدأ، وفي النهاية رضخت لمطلبه وتم الحمل، جاءت المولودة أيضا انثى، وقد اعتدت على ردود الفعل المتوقعة وتبلدت منها ولم أعد أعيرها اهتماما بمعنى انني فوضت الامر لله ولا داعي للبكاء على اللبن المسكوب، وكي أكون منصفة فإن زوجي مازال على موقفه لم يتزحزح، وهذا وان كان يسعدني أو أجد فيه عزائي فإنه أيضا يحزنني عليه. الآن انا في الخامسة والاربعين ليس لدي اي استعداد للحمل وتكرار التجربة، لكن أسرة زوجي تلح عليه بشدة كي يتزوج، وهو أكثر إصرارا على الرفض والقناعة بما قسم الله لنا، وهم يمارسون عليه كل أنواع الضغوط خشية انقطاع «السلالة» فزوجي هو آخر الابناء الذكور والوحيد، اصبح يعيش في صراع مع أسرته يؤرقه، وبالطبع يؤرقني، ولا نعرف الى أين المفر؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©