السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحامل خارج النص

تحامل خارج النص
30 نوفمبر 2011 23:25
“نيلوفر حائري” استاذ اللغويات والانتروبولوجيا بجامعة جون هوبكينز بالولايات المتحدة، جاءت إلى مصر وعاشت فترة بمدينة القاهرة، كي تتعلم اللغة العامية وتصدر كتابها “لغة مقدسة وناس عاديون.. معضلات الثقافة والسياسة في مصر”. دفع حائري إلى هذه الدراسة كونها إيرانية الأصل، ولدت وعاشت طفولتها في طهران، وكانت والدتها تعلمها قراءة القرآن الكريم باللغة العربية، ومن ثم كان لقاؤها بالعربية من خلال القرآن الكريم، لكنها لاحظت أن العرب لا يتكلمون هذه اللغة، أي اللغة الفصحى، أو ما يسمى العربية الكلاسكية، ويتم التعامل بين المواطنين بالعامية. الباحثة تتناول القضية التي أطلق عليها في الادبيات العربية العامية والفصحى، ودارت حولها سجالات عديدة منذ نهاية القرن التاسع عشر، لكنها هي تتناولها من منطلق آخر تماما، يقوم على المقارنة بين تجربة التحديث في أوروبا والتحديث في مصر تحديدا، في أوروبا كانت اللغة اللاتينية لغة الكنيسة ولغة الكتاب المقدس ومن ثم فهي لغة مقدسة، وحين بدأت تجربة النهضة الأوروبية لم تستمر هذه اللغة مقدسة، فقد ظهرت اللغات الاوروبية الحديثة، وصار الكتاب المقدس يكتب بتلك اللغات، وتقام الصلوات في الكنائس بها، وفرضت الحداثة لغة جديدة تماما، ولم يحدث هذا في مصر منذ القرن التاسع عشر ولا حدث في غيرها من البلدان العربية، ومن ثم فإن اللغة العربية الفصحى عندها هي اللغة المقدسة، تقام بها الصلوات والقرآن الكريم لا يكتب بغيرها، بل انها تعود بذكرياتها إلى أيام طفولتها في إيران، حيث كانت تقرأ القرآن باللغة العربية وتعلمها امها الصلاة باللغة الفصحى، وتلاحظ كذلك أن الكثير من المسلمين ومن الفقهاء لا يستريحون إلى ترجمة القرآن الكريم، ويتحدثون عن ترجمة معاني القرآن لأن الفصحى مقدسة ولا يجب ان يفقد القرآن قدسيته بالترجمة أو ان يقرأ بغير اللغة الفصحى. الدولة المصرية الحديثة نصت في دساتيرها على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، هذا النص ليس في الدستور المصري فقط، بل في معظم الدساتير العربية، بينما الدستور الأميركي ليس فيه مثل هذا النص بالنسبة للغة الانجليزية، وذلك موضع دهشة الباحثة. خلال اقامتها في مصر، لاحظت ان الفصحى هي لغة الكتابة والحديث الرسمي، وليست لغة التعامل اليومي، ورغم التشابه بين الفصحي والعامية بنسبة أكثر من 90 في المئة والحروف نفسها لكنها تصر على ان تعتبر العامية لغة مستقلة بذاتها، وفي الواقع هي ليست إلا لهجة، والفارق كبير بين اللهجة واللغة، لاحظت الباحثة كذلك ان تفاسير القرآن الكريم كلها بالفصحى، لكن يستوقفها ان الشيخ محمد متولي الشعراوي كان يقدم تفسيره للقرآن في وسائل الاعلام باللغة العامية لذا شاع وانتشر بين الجمهور. ومع ذلك، فقد انعكست الحداثة على اللغة الفصحى، حيث يتم تقديم ما عرف باسم “اللغة الثالثة”، وكان ذلك تعبير توفيق الحكيم، وهي اللغة التي تقدمها الصحافة المصرية، منذ القرن التاسع عشر، حيث لم تستعمل الصحف اللغة العامية، كما لم تلجأ إلى اللغة القديمة، لكنها توصلت إلى مستوى أو منزلة بين المنزلتين وتنتهي إلى ان الفصحى صارت لغة مقدسة لا يجوز المساس بها ولذا تلاحظ ان كبار الكتاب والمفكرين الحداثيين في مصر من رفاعة الطهطاوي إلى لطفي السيد وطه حسين تمسكوا باللغة الفصحى ودافعوا عنها، لانهم لم يخرجوا عن قداسة تلك اللغة، بل ان القوميين العرب الذين قدموا تصورا جديدا للحكم وللمجتمع العربي تمسكوا ايضا بالفصحى دون العامية، وتلك واحدة من معضلات الثقافة المصرية وكذلك السياسة والسياسيين. وتحتفي الكاتبة بعدد من الكتاب الذين طالبوا في وقت من الأوقات بالاحتفاء بالعامية واعتبارها اللغة الرسمية او لغة الكتابة، كتابة الوثائق الرسمية والأعمال الادبية، لكنها لم تشر إلى تراجع بعضهم عن تلك الدعوة، مثل د. لويس عوض الذي كتب “مذكرات طالب” بالعامية ثم اقلع عن ذلك نهائيا واتجه إلى البحث في فقه اللغة العربية وظل يكتب بالفصحى طوال حياته. وتتحامل الباحثة على العربية الفصحى وكأنها اخترعت وبدأت مع الاسلام ونزول الوحي، بينما هذه اللغة كانت قوية وناضجة قبل الاسلام وأمامنا الشعر الجاهلي والمعلقات السبع، كما ان احدا لم يعتبر الفصحى لغة مقدسة، والا ما جرى التطور بها في المفردات والكلمات والاهم اضافة مصطلحات وكلمات جديدة لم تكن معروفة بها منذ ظهور الاسلام، وفي كل عام تضيف المجامع اللغوية الى الفصحى مفردات جديدة تماما. وهناك عدة ملاحظات تبديها الكاتبة، منها انه لا توجد مدرسة واحدة في اي مدينة عربية تقبل التدريس بالعامية سواء في مصر أو في غيرها، بينما لا توجد غضاضة في ان يدرس الطلاب اللغات الاجنبية، لغة المستعمر، وتتوقف أمام احد كتاب الجزائر الذي كتب اعماله بالفرنسية، ولكن تقديم عمل له باللهجة الجزائرية قوبل بهجوم عنيف داخل الجزائر، وتتوقف باندهاش امام نجيب محفوظ الحائز نوبل ومع ذلك كان يرفض تماما الكتابة بالعامية، حتى الحوار داخل اعماله الادبية كان يكتبه بالفصحى، رغم ان اعماله عرفت من خلال تحويلها إلى افلام أي عرف عبر العامية وليس الفصحى. الذي يدهش الكاتبة ان المصريين لم يكونوا عربا قبل الاسلام وكانت لديهم دولة قديمة ولغة خاصة ثم تركوا لغتهم من اجل العربية لانها لغة القرآن، وتذهب إلى ان التعريب واللغة فرضا على مصر، والواضح انها تفتقر إلى الكثير من المعلومات حول تاريخ مصر والمصريين، ومنها ان اقباط مصر يتحدثون العربية ويتعاملون بها، بل إن الصلوات في الكنائس المصرية تقام باللغة العربية، ومن ثم فالامر اعمق من التبسيط المخل الذي ترى منه الباحثة ذلك الموضوع. الكتاب به جهد حقيقي، خاصة على المستوى الميداني، فقد التقت عددا من الكتاب المصريين والعرب، وادهشها ان شعراء العامية يكتبون اي شيء غير الشعر بالفصحى، وتذهب الى ان هناك “شوفينية” عربية تجاه العامية المصرية، وهذا ما حال دون انتشارها في العالم العربي، ولو صح ذلك لانتشرت الكتابة في البلدان العربية بالعاميات الخاصة بها. هل تغيير اللغة ضروري للدخول في العصر الحديث، كما جرى في اوروبا؟! هذا ما تتبناه الكاتبة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©