الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

طفيلي.. مساءلة الأخلاق في عالمنا المعاصر

طفيلي.. مساءلة الأخلاق في عالمنا المعاصر
21 فبراير 2020 03:05

عبير زيتون (دبي)

ولد المخرج بونغ جون في رابع أكبر مدن كوريا الجنوبية، وهي دايغو سنة 1969. وهو بروفيسور ومصمم تخطيطي وصناعي، وله حضور قوي على أكثر من جبهة داخل بلاده. يشتغل أفلامه بعناية كبيرة ويحرص على تحقيق أفلام تنتمي إلى «نوع بعينه» لكنها لا تلتزم به كلياً؛ ففي حين أن غالبية أعماله جادة إلا أن هناك تلك المشاهد التي يبدو فيها كما لو كان يمازح مشاهديه، وينتقد نفسه وجديته.
يقول إن ما يهمّه هو «نقل صورة الناس الذين يحيطون بي، ولكن في سياق وأسلوب جديدين. عندما نحفر في الشخصيات، نكون قد تكلمنا عن المجتمع بأكمله. حتى إذا صوّرنا شخصاً يعيش على جزيرة نائية، ففي لحظة من اللحظات لا يمكن إلا الحديث عن المجتمع. في كوريا، لا يمكن التمييز بين المجتمع والفرد لأسباب لها علاقة بتاريخها».
سأله أحد أصدقائه ذات يوم: «لا شكّ أنك تتحلى بقدر عال من الثقة في الذات لتنجز شيئاً كهذا! فمن أين لك هذه الثقة في الذات؟»، فردّ قائلاً: «لديّ طبع عجيب بعض الشيء، يذهب في كلّ الاتجاهات. أجد صعوبة في المحافظة على إيقاع واحد طوال مدة الفيلم».

هل الأخلاق الإنسانية أمر أصيل فينا؟ أم مجرد وهمٌ ورياء وخوف مزدان بالفضيلة؟ وهل هناك «أخلاقيات» تعود إلى طبيعة تربة المجتمع، أو إلى روح العصر الذي نعيش فيه؟ وهل بوسعنا حقاً معرفة الإنسان من دون معرفة عالم الإنسان ذاته؟ والأهم هل مجتمع التفاوت الطبقي، صناعة بشرية، أم من إنتاج الطبيعة ذاتها؟
هذه ليست تساؤلات بقدر ما هي افتراضات، ومقاربات فكرية، يزجنا في قلب عتمتها المكثفة المخرج المبدع الكوري الجنوبي بونغ جون هو وتحفته السينمائية (طفيلي - Parasite) الذي نال مؤخراً جائزة «أوسكار» عن أفضل فيلم، بعدما دخل تاريخ الفن السابع، كعلامة فارقة بحصوله على أربع جوائز كبرى في سباق الأوسكار 2020، كـ(أفضل فيلم، ومخرج، وسيناريو أصلي، وفيلم دولي) متخطياً بذلك أفلاماً عملاقة مثل (1917) و(الإيرلندي) و(جوكر)، و(قصة زواج)، و(حدث ذات مرة في هوليود) وغيرها.

جمالية الصنعة وعمق الفكر
ولكن كيف استطاع هذا الصوت القادم بكاميرته من «سيؤول» المعاصرة، أن يقنع أرباب هوليوود النيوليبرالية، بسرديته الفيلمية التراجيدية السوداء التي تتناول في ظاهرها، قضية التفاوت الطبقي بين الفقير والغني، وما ينتج عنها من مآس وشرور، وتحمل في باطنها ما هو أعمق من ذلك بكثير، وبتكامل فني رائع بين جمالية الصنعة السينمائية، وعمق الرسالة الفكرية؟
يُسائلنا الفيلم عن طبيعة أخلاق المجتمع الإنساني المعاصر، وطبيعة الإنسان الحي فينا، وقد انزاح عن طبيعته البشرية، وتحول إلى كائن طفيلي بائس، يعتاش على استغلال الآخرين، وعلى ضعف مقدراتهم كي يعيش وينجو بأحلامه، في زمن السوق الرأسمالية المتغوّلة بشراسة في روح عصرنا، والمسؤولة، برأي المخرج، عن تضخيم الثنائيات الفجة بين أغنياء وفقراء، أسفل وأعلى، عبيد وسادة، وما ينتج عنها من القهر والعبودية، والاستبداد، والشقاء، جراء التنافس/‏‏‏‏‏ والكذب/‏‏‏‏‏ والأنانية/‏‏‏‏‏ والجشع/‏‏‏‏‏ والرياء المقنع/‏‏‏‏‏ بحيث نتحول فيها كلنا ودون أن ندري أغنياء وفقراء إلى/‏‏‏‏‏ ملوثين وفاسدين/‏‏‏‏‏ ومدانين أيضاً، نعيش في منطقة ملتبسة وضبابية بين معيارية الخير والشر، بعدما تعطلت أحكامها الأخلاقية المطلقة، وكأنه بذلك يناقش قول «روسو» في كتابه «العقد الاجتماعي»: «ولد الإنسان حراً طليقاً، ومع ذلك، فهو مثقل بالقيود في كل مكان. ورُبَّ رجل يتوهم أنه سيد الآخرين، وهو لا يني يرسف في أغلال من العبودية هي أثقل من أغلالهم».

الكل مدان
وهنا نعود للسؤال الأساسي في الفيلم «انطلاقاً من عنوانه: من هو «الكائن الطفيلي» المقصود في هذا الفيلم، الموزع في البداية بين فضائيين متناقضين كلياً، وتفصل بينهما حدود قاهرة مصطنعة، وهما عائلة (كيم كي تك) التي تعيش في قبو تحت مستوى الأرض، مظلم ورطب في منطقة شعبيَّة في مدينة «سيؤول» عاصمة كوريا الجنوبية، والمكونة من الأب والأم وابن وابنة، يجمعهم طموح الحصول على عمل يعتاشون منه، مع حالة العطالة الجماعية. أما الثانية والتي يتعمد الفيلم تصويرها من الأعلى، فهي عالم الطبقة الغنية التي تمثلها، عائلة «بارك» الواسعة الثراء، وتعيش في قصر ضخم مهيب في جماله، وسط جبل عال تتوسطه حديقة خلفية فسيحة، مع طفلهما. أما العائلة الثالثة والتي يفاجئنا المخرج بطرحها في منتصف أحداث الفيلم، فهي عائلة مديرة المنزل بالغ الفخامة، والمكونة من الخادمة وزوجها فقط، وهما أيضاً من الطبقة الفقيرة جدًّا كما حال العائلة الأولى، لكنَّها مختلفة في تركيبتها النفسية، والفكرية رغم انتمائها للطبقة نفسها. فالخادمة هنا تتسم بالقناعة والرضا المطلق وبصفات النظام والترتيب، وقد اكتسبت ثقة أهل البيت الثري قبل تغيير قواعد اللعبة نفسها من قبل المخرج !!!
فمن هو الكائن «الطفيلي» هنا، الذي يعتاش على الآخرين، ولا يُرى بالعين المجردة؟ ويعتاش من مفرزات البيئة الفاسدة، والغذاء الملوث؟ هل هو الفقير أم الغني؟ أم هي الحدود، والفوارق المصطنعة التي تحجب بينهما؟ أم هي كل هذه الأطراف معاً؟ وما هو الحل لهذا المأزق الإنساني «برأي المخرج» للتخلص من النتائج الارتكاسية المترتبة على جوهر الإنسان المعاصر، وقد تحول بفعل القوى الضاغطة المحيطة به إلى طفيلي في الحياة، يقتات من فضلات غربته عن نفسه وزمنه، بما يُهدد من صيرورة الوجود الإنساني ومعايير قيمته كقيمة أخلاقية وإنسانية عليا.

مخرج «باراسايت»: لم أسع إلى ,«تجميل» الواقع
قال بونج جون- هو مخرج الفيلم الكوري الجنوبي باراسايت «طفيلي» الحائز جائزة أوسكار، أمس الأول، إن انعدام المساواة الصارخ بين عائلتين كوريتين يدور حولهما الفيلم، ربما أثار شعوراً بعدم الراحة لدى المشاهدين، لكنه كان «السبيل الوحيد» لكشف الواقع القاسي.
وأضاف بونج خلال مؤتمر صحفي مع طاقم الفيلم في سيؤول: «قد تشعرون بعدم الراحة، وتكرهون هذه المشاهدة، لكنني لم أكن أريد أن أجملها. أردت أن أكون صادقاً قدر المستطاع بشأن هذا العصر من عدم المساواة... كان هذا هو المسار الوحيد الذي يمكن لهذا الفيلم أن يسلكه».
وقال بونج إنه يعمل الآن في مشروعين، وصف أحدهما بأنه مقتبس عن واقعة «مخيفة» في سيؤول بينما سيتولى مسؤولية إنتاج مسلسل قصير مأخوذ من فيلم باراسايت على شبكة هوم بوكس أوفيس (إتش.بي.أو).

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©