الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تناقضات الحرية والتمييز

23 نوفمبر 2011 21:24
كانت الولايات المتحدة الأميركية، قبل منتصف القرن العشرين، ملهمة لخيال عدد من الكتاب والمفكرين العرب، هاجر إليها جبران خليل جبران وأمين الريحاني، وأشاد بها قاسم أمين في كتاباته، والهمت مبادئ الرئيس ويلسون ثوار مصر سنة 1919 في المطالبة بالحرية والاستقلال، ولعل هذا ما دفع محمد لبيب البتنوني الى رحلته الطويلة الى الولايات المتحدة سنة 1927، وبعث برسائل صحفية من هناك نشرت في جريدة “الاهرام”، وقتها ثم طلب منه صاحب مكتبة الخانجي ان يصدر هذه الرسائل في كتاب، وكان الكتاب الذي بين ايدينا، الذي نشر اول مرة عام 1930 وها هي دار الكتب والوثائق القومية المصرية تعيد نشره بعد 71 عاما على طبعته الاولى وقدم لهذه الطبعة د. عبادة كحيلة استاذ التاريخ الاسلامي بجامعة القاهرة. لا نعرف الكثير عن البتنوني، غير انه كان احد المقربين من الخديو عباس حلمي الذي حكم مصر بين عامي 1892 ـ 1914 وخلعه الانجليز عن الحكم مع قيام الحرب العالمية الاولى، فقد كان ولاؤه لهم موضع شك، خاصة انه كان يتمتع بعلاقات طيبة مع الالمان، وقد رافقه البتانوني في رحلته الى الأراضي الحجازية عام 1910 لاداء فريضة الحج، واصدر عنها كتابه “الرحلة الحجازية” عام 1912 وهي الرحلة التي هرب منها امير الشعراء احمد شوقي لاسباب عديدة. أدب الرحلات البتنوني كان مولعا بالرحلات، ففي العام 1901 اصدر كتاب “رحلة الى اوروبا” وفي عام 1927 اصدر “رحلة الى الاندلس” بعد زيارة قام بها الى اسبانيا، بالاضافة الى رحلته الحجازية ورحلته التي بين ايدينا الى اميركا، وكانت هذه الرحلات جميعها على نفقته الخاصة، ولم يكن لها من هدف سوى التعرف على هذه البلدان ونقل مشاهداته وملاحظاته الى القارئ المصري والعربي عموما، فضلا عن انه يواصل تقليد ادب الرحلات الذي عرفته الثقافة العربية والإسلامية، وقد فتح العصر الحديث الباب واسعا امام هذا الادب، فعرفنا رحلة الطهطاوي الى فرنسا “تخليص الابريز في تلخيص باريز” وهكذا اتسع ذلك الادب مع سهولة الترحال في عصرنا الحديث. ويكشف الكاتب الرحالة عن انه منذ زمن بعيد كان يود زيارة ذلك البلد “كنت امني نفسي منذ زمن بعيد بالسفر الى الولايات المتحدة لاشاهد بها حقيقة ما كنت اطالعه في الجرائد والمجلات، مما كان يستعصي على الخيال تصويره وتصديقه من طفرتهم في المدنية وسرعة عروجهم في درجات الحضارة وعدم ارتكازهم على مدنيات قديمة في تلك البلاد التي لا يرجع تاريخ حضارتها ومدنيتها الحاليتين الى اكثر من قرن ونصف القرن تقريبا، وهو عمر قد يتجاوزه عمر الافراد”. لكن حالة النهوض الاميركي السريع التي يلاحظها البتنوني اضيف اليها عامل جديد، هذه المرة عامل سياسي وهو “ان الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الاولى صارت صاحبة المنزلة المحترمة في دول العالم والكلمة التي لا ترد في سيادة العالم، والقرار النافذ في إشقاء الامم واسعادها”. وفي عام 1927 كانت هناك دعوة عامة لحضور مؤتمر عن التربية الزراعية في واشنطن بدءا من 13 يونيو 1927 فسافر بالباخرة من الاسكندرية الى فرنسا ومنها الى لندن ثم الى الولايات المتحدة حيث طاف بالعديد من ولاياتها وكان معه عدد من المصريين سافروا بحكم التخصص لحضور المؤتمر. ولم تكن الرحلة بهدف الترحال فقط أو قضاء وقت ممتع في اماكن جديدة وغريبة، بل الشعور الوطني موجود لديه والرغبة في تحقيق النهضة ببلادنا قائمة “لقد رأيت كما على عادتي في رحلاتي ان اشرك بني قومي معي في مشاهداتي وفي كل ما كنت احس به من تقدم في تلك البلاد ونقص في بلادي”. معلومات وانطباعات والحق ان الكاتب كان حريصا على ان يزود قارئه بمعلومات وافية عن ذلك البعد، فيتحدث عن قصة اكتشاف اميركا وما جرى مع الهنود الحمر، سكانها الاصليين ويتحدث ايضا عن السفينة تايتنيك وما حدث لها والكتاب مزود بارقام احصائية عن الانتاج في الولايات المتحدة والاستهلاك لديهم في المواد الغذائية والصناعات وغيرها. وقارئ الكتاب يشعر بالفارق بين المصطلحات والمفردات في لغتنا العربية بين نهاية العشرينيات وزماننا، لندن وقتها اسمها لندرة، واشنطن تسمى واشنجطن اما تمثال الحرية فهو يطلق عليه تمثال السيدة الحرية، والكاتب منبهر بمستوى الحرية في المجتمع الاميركي “تلك الحرية التي هي شعار هذه البلاد والتي قامت عليها حيويتها”. ثم يتساءل “هل قامت الامم في طريق مدنيتها وعظمتها إلا على الحرية الصحيحة كما ان الاميركي المتحضر انما وصل بحرية الى مدنية هي ارقى المدنيات، والى حضارة لم يسمع بمثلها فيما فات”. وإيمان هذا الرجل بالحرية جعله يتابع الطوائف الدينية في الولايات المتحدة بلا حرج، ويرصدها للقارئ بلا توتر وبلا تشنج، حتى الطوائف التي لا تؤمن بالله الواحد، وهو كذلك يبدي دهشته واعجابه بالمرأة الاميركية وقدرتها على العمل وصلابة ارادتها وملابسها الحديثة، ورغم انها ملابس قصيرة ومكشوفة لكنه يلاحظ التزامهن بالطابع الاخلاقي العام، اي ان التخفف في الملابس ليس مصدرا ولا مدعاة للتهتك الاخلاقي كما قد يتصور البعض. ولم يفت البتنوني ان يتوقف عند المصريين الذين هاجروا الى الولايات المتحدة ويرصد انهم في نيويورك وحدها حوالي 30 الفا وكم كانت دهشته حين وجد مهاجرا مصريا اسمه “احمد حسنين” مقيما بالقرب من شيكاغو وحقق ثروة ضخمة وكان حسنين يتخاطب مع القنصلية المصرية هناك لارسال ابنه الى مصر ليتعلم بمدارسها ويتقن اللغة العربية، مصدر دهشته من وجود احمد حسنين هناك يبدو في قوله “كنت اظن ان اخواننا المصريين ابعد الناس عن الهجرة، وانهم لا يحبون الرحلة ولا يميلون الى الاغتراب”. ورغم اعجابه بالحرية في اميركا الى حد الغاء الرقيق، لكن لا يحبذ المعاملة غير العادلة للسود هناك ويقول “الحواجز كانت ولا تزال بين اللونين في مرافقهم الحيوية، حواجز لاتزال مع كثرة ما في اقوالهم من ذكر كلمات الحرية والمساواة ملموسة محسوسة، خصوصا في ولايات الجنوب التي لاتزال تعتبر الملون الاسود اقل الدرجات الانسانية وله فيها تشريع خاص..” ويعدد اوجه التمييز بين البيض والسود في التشريع الى حد حرمان السود من الانتخاب والتوظف في وظائف حكومية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©