الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في التلصص على ما لا نكونه

في التلصص على ما لا نكونه
19 فبراير 2020 00:03

أتتبّعُ خطواتها مأخوذةً بالنّقر الموسيقي لكَعبَيها على الأرض، وفي خفّي القماشي أبدو خلفها كراقصة باليه معتزلة، تحمل بقايا حفلة وداعٍ أخيرة انسكبت فيها عيون المشاهدين على ساتان فستانها كالقهوة. يعجبني ما أكونه، على الأقل اخترتُ ما وصلتُ إليه – ماذا عن القناعة؟ - لا أظننا نختارنا كلياً، نحن معجونون بما حولنا. نحن... محاطون بكل ما نرى ونأكل ونشرب ونسمع، نحن محمولون في داخلنا، بخارجنا.
حسنا، لستُ في جلسة تحليلٍ نفسي، ولكن.. أين رأيتها؟ هذه الملامح لا تبدو غريبةً عليّ. مثالٌ ممتاز لامرأةٍ عصريّةٍ متأنيةٍ في اختياراتها، ليستْ على عجلةٍ من أمرها، كل ما لديها محسوبٌ بدقة، تمشي على حبلِ الزمن بالاتزان المطلوب، بالرغبة التي تُبقيها على صلةٍ بالطرف الآخر، فتصل.

كيف يبدو شكل إنسان لا يقرأ؟ عقله؟ ملامحه؟ يومه؟ آخ! مريعٌ أن أستيقظ فاقدةً كل امتيازاتي الثقافية، بالكاد أتأتئ فلا أفهم ما أقوله. كتب؟ لا كتب! لا أوراق أخربش عليها! في خزانتي تتكدس ثيابٌ ملونة، أحذيةٌ لا قِبَلَ لي بِعَدّها، حقائب منتفخة وأخرى مخزّنة بعناية وترتيبٍ أنا نفسي لا أتذكر متى حظيتُ به أصلا لأنقلَ نعمته إلى حقائبي! أظافري طويلةٌ مطليّةٌ لامعة، شعري مصفّفٌ ومكياجي متقنٌ أُشبِه فيه ممثلاتٍ يستيقظنَ جاهزاتٍ لمَبسمِ الكاميرا. أمدّ ساقيّ وأخرجُ منّي فيتلبّسني جنّي اسمه كعبٌ عالٍ. ومنذ متى أرتدي كعبًا عاليًا رفيعًا كلّما لامسَ سطح الأرض اخترقَ نقرهُ أذنيّ مزعجًا مثيرًا حولَهُ جلبةً لا أطلبها! من أنا!

إنها الحرب! نعلنها على أنفسنا، ثم نحمل على ظهورنا البنادق وننتشر كالجراد في هذا الخراب الذي نسميه أرض المعركة. لا منتصر في الحرب – تقول سفيتلانا أليكسيفيتش – ونحن الجنود ندرك ذلك ولكننا لا نجيب من يرسلنا إلا بجملة واحدة: حاضر سيدي. هنا، أحاربهم بلساني، أترجمُ للعسكر ما يعجزون عن فهمه بلغة القوم، ولو أنني ما زلت أتساءل: أنحتاجُ لسانًا في الحرب والكلمة – نعرفها – رصاصة! يمكنني ارتداءُ ما يسترني، وما زلتُ أشعُرُ بالعُري، بين العسكر لستُ أقتلُ أحدًا، بين المَدَنيّين لستُ أنقذُ أحدًا. ما معنى أن أكون ما لا أكونه*!

الرّكض، تتقنه الغزلان، الأرانب، الأيائل، الكائنات الهاربة من الموت لتشتري الحياة بالسرعة القصوى. تحطّم أرقامها القياسية يوميا وتترك لي الميداليات الذهبية على بساط أحمر مخطط بالأبيض. أحيي الجمهور، أبتسم لعدسات المصورين، يربتُ على كتفي مدربي: أنا بطلةُ الركض بلا منازع. أركض من كل شيء منذ قالت لي أمي: لا تدعيه يلحق بك، فيصيبنا. تقصد العار. أليس العار موتًا هو الآخر!
تتلاحقُ أنفاسي، بالكاد ألملمُ ذرّات الأوكسجين كي أردّد النشيد الوطني الذي يقيني مسألة احتمال ولادةٍ دون مسقطِ رأسٍ محدد. في لحظةٍ ضبابية رأيتها تركض إلى جانبي، ولم أفهم كيف يمكن لمخلوقٍ – أيًّا كان – أن يتمكن من اللحاق بي، والآن أراها نصفًا يتمّمهُ نصفي. كيف للمرء أن يركض حاملًا ما ليس هو! نصفٌ ثقيلٌ متعب. نصفٌ مكبّلٌ لا يميّزُ شريط نهاية السباق من شريط العمر.

هناك احتمال آخر لكل ما يحصلُ لي، تحت سقفٍ قماشيّ تتناوب الرياح على صفعه وحبات البَرَدِ على اختراقه، كان يمكنني أن أنعم بدفءٍ ووجبةٍ ساخنةٍ، وسريرٍ تحيط به دمى ديزني، وحضنٍ عائلةٍ بلا جرحى أو مفقودين. الآن وفي هذه اللحظة الفاصلة من حياتي، في اللا مكان، متجهةً إلى أي اتجاه تختاره بوصلة الأونروا. أعتقدُ أني لم أولد بعد. من قال إن الولادات تحصل بمجرد خروجنا من ظلمةٍ إلى ظلمةٍ موازية! سأولد ساعة أشاء، وبالحجم الذي يناسبني، لعلي سأفتقدُ ثدي أمي ولبنها، لكن مهلا.. هذه الهجرة جفّفت حليبها. في كل الأحوال أنا ابنة علبة نيدو! مسألة النَّسَب هذه برمتها.. مزحة.

الكتابُ بين يديّ، على صفحةٍ مطوية منه اسمٌ لا أميّزه. أبطالٌ يستلقي بعضهم متشمّسًا بين الصفحات، آخر يتخفى بين الأسطر خجلا، ثالثٌ يفقأ الكلمات بالسكّين ويشير إلى عين القارئ: الدّور آتٍ، فانتبه!
ألحظُ أني في غرفةٍ بلا مرايا تؤمن بالظلال على الأرجح. في متحف المرايا وُلدَ خوفي. كل ما قرأتموه عني كان متاحاً للجمهور بين زاوية وأخرى: أنا بالحجم الطبيعي – وأتساءل ما نعني بالطبيعي! – أنا طويلة وممطوطة إلى أقصى نهاية يستوعبها إطار المرآة ألمسُ سقف النجوم، أنا سمينة أتدحرج على الأرض كرةَ مطاط كتلك التي يتقاذفها الأطفال في المسابح الضخمة ويكركرون من السعادة، أنا بيدين ملتحمتين بعنقي كما كنتُ أرسم الأشخاص في طفولتي.. بلا أكتافَ، أنا بقدمين لا ساقين تحملانهما. أكان ذلك متحف مرايا أم متحف ما خلّفَتهُ الحرب! حربي مع ما لم أكنه!

أترى؟ أتعرفُ أنكَ المرآة؟
تعرفُ أن خلف الصورة الأولى الحكاية كلها؟
لا تُكثر التحديق، كلُّ سواكَ ليس عدوّك،
انظرْ، أنتَ في المرآة، لا تكسِر نقيضكَ أو شبيهكَ،
قل له: من أنت؟ وهو بدوره سيقول: من نحنُ؟
ابتسمْ، ستراهُ مبتسمًا**.

لو أنني رأيتني خارجةً منّي، لعرفتني على الفور. لو أنني التقيتني صدفةً عابرةً بين ما أكونه وما كنته، لعرفتني على الفور.
لا شيء يدفعني لإنكاري: جسدًا، روحًا، ظلًّا، شبحًا، كلمةً، ذرّةَ رملٍ تبحثُ عن تكوين جديد مشاغبٍ ومدهش. لو أنني رأيتني ألف مرّة، لا بدّ أعرفني، أبتسم راضيةً، أعانقني، ثم أمضي في طريقي.. طريقها، سيّان! كل النهايات واحدة، كل النهايات تعنيني***.

عرَفتَ؟
سيكسرُ المرآةَ من فيها، ويمشي باحثًا عن صورةٍ أخرى، ليُشبهها.
فلا تتبعهُ.. دعهُ يرى الطريقَ إلى سواكَ**.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©