السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وقع الحافر على الحافر

وقع الحافر على الحافر
10 نوفمبر 2011 12:05
كانت العرب تقول “وقع الحافر على الحافر”، وكنا نظن أن الأمرَ فيه من المبالغة الشيء الكثير، وهو ضرب من الخيال أن يتطابق قدم على قدمٍ ولكن اسمعوا ـ أو اقرأوا ـ هذه الحكاية الغريبة حقاً: يقول مبارك بن لندن (الاسم العربي) أو ويلفرد ثيسجر (الاسم البريطاني): “بعد أيام من عبور رملة غنيم في الجزيرة العربية، مررنا بآثار أقدام، ولم أكن مقتنعاً بأنها آثار جمال، لأن الرياح كانت قد شوهت معالمها، والتفت سلطان (مرافقه في الرحلة) إلى رجل ذي لحية غزاها الشيب معروف باقتفاء الأثر، وسأله عنه، وانحرف الرجل جانباً، وتتبع الآثار لمسافة قصيرة، ثم قفز من على ظهر ناقته، ونظر حيث كانت الجمال عبرت أرضاً صلبة، وكسر بعض روثها بين أصابعه ثم ركب ناقته ليلتحق بنا، وسأله سلطان: آثار من كانت. رد عليه قائلاً: إنهم من العوامر كانوا ستة أشخاص أغاروا على (الجنبه) في الساحل الجنوبي، وأخذوا ثلاثة جمال، وجاءوا إلى هنا من (سحما) بعد أن تزودوا بالماء في (مقشن). لقد مروا من هنا قبل عشرة أيام، أما نحن فلم نر عرباً منذ سبعة عشر يوماً، بل، ولم نر أحداً منذ سبعة وعشرين يوماً، ولدى عودتنا قابلنا بعض رجال بيت كثير قرب جبل (قرا) وعندما تبادلنا معهم الأخبار، أبلغونا بأن ستة من العوامر أغاروا على (الجنبه) وقتلوا ثلاثة أشخاص وسلبوا ثلاثة من جمالهم”. ويضيف مبارك بن لندن: “هنا في إمكان كل شخص أن يعرف أثر جماله، وبعضهم يتذكر أثر كل جمل سبق أن شاهده، ومن نظرة واحدة على عمق آثار خف الجمال يمكن أن يعرفوا ما إذا كانت الناقة محملة أم لا، وعما إذا كانت حاملاً، ومن خلال دراستهم للأثر الغريب يمكنهم أن يقولوا من أين قدم الجمل، ويستطيع البدوي أن يتعرف على جمال القبائل لأن القبائل المختلفة تمتلك جمالاً من فصائل مختلفة”. تلك هي مقدمتي عن عالم الصحراء، حيث يتعقب البدوي آثاراً لبدوي آخر، يشم رائحته، يقبض على روح نقلة خف جمله، يعرف زمانها وشكلها وجوع الجمل وعطشه وارتواءه. ارتحل ويلفرد ثيسجر في الجزيرة العربية، وعبر الربع الخالي “الرمال” كما يطلق عليها الأعراب البدو في الصحراء مرتين، وذلك في أعوام 1946 و1947 و1948 مع اثنين من البدو رافقاه في جوعه، وحزنه، وخوفه، ومصيره الذي كان مجهولاً، هما سالم بن كبينه وسالم بن غبيشه من قبيلة الرواشد. وقد تعرف سالم بن غبيشه على مبارك بن لندن بواسطة سالم بن كبينة وكانا بعمر واحد إذ هما في السابعة عشرة تقريباً، كان ذلك في ممر كسميم ويترافق الثلاثة رجال لعبور الربع الخالي ثانية ولرحلتهم من صلالة إلى العين وليوا وأبوظبي. زمن ماضٍ. وحوافر الجمال لاتزال باقية بين صفحات كتابه “الرمال العربية”. وفي زمن جديد حاضر، تعيد هيئة أبوظبي للثقافة والتراث تلك الرحلة من أجل أن “يقع الحافر على الحافر” كما تقول العرب، أو تحت عنوان “على خطى مبارك بن لندن” الذي اختارته الهيئة لهذه الاستعادة، وبثلاثة شخوص هم البريطاني أدريان هايز والإماراتيان غافان محمد الجابري وسعيد راشد المسافري، وذلك في محاولة جادة لإعادة ذكرى رحلة مبارك بن لندن وصاحبيه ابن كبينه وابن غبيشه من صلالة في سلطنة عُمان إلى أبوظبي مروراً بواحة ليوا ومدينة العين باستخدام الجمال ومشياً على الأقدام. سيصل هذا الفريق الثلاثي بعد أن يقطع 1500 كم إلى أبوظبي في العيد الوطني الأربعين لتأسيس الدولة، ولمدة 40 يوماً حيث انطلقت الرحلة في الأول من نوفمبر الجاري من صلالة في سلطنة عُمان لتمر بمدينة العين ومن ثم ليصل الفريق إلى وجهته النهائية في العاصمة أبوظبي في 9 ديسمبر المقبل. “على خطى مبارك بن لندن” الذي سجل رحلته في أشهر عبور على الجمال لصحراء لم تطأها قدم أوروبي من قبل: سجل شجاعة العربي، وكرمه. سجل إثرته وصفاء وجدانه. سجل خوفه وغضبه. أول تجربة نزل مبارك بن لندن إلى بئر مع أصحابه بعد عطش قاتل وكان معه سلطان ومسلم ووصل إلى البئر بعد أن قال الآخرون معه إنهم سيلحقون به، وانزلت السروج عن الجمال وسقيت، ولم يرد بن لندن أن يكون أقل صبراً من صاحبيه فيشرب من الماء بالرغم من عطشه المميت: “لكنني في نهاية الأمر طلبت ماء”. قدم شربة إلى سلطان وإلى (طميطم) الشخص الرابع معهم، ولم يشرب في غياب رفاقه الآخرين. “لكن هذا الامتناع بدا لي مبالغاً فيه، فالآخرون لم يصلوا إلا بعد خمس ساعات”. “وفي غضون ذلك كنت أشتاط غضباً وأزداد عطشاً، ومع أن الماء كان يبدو بارداً ولذيذاً ونقياً، فإن طعمه كان كطعم جرعة قوية من الملح الإنجليزي”. أخذ جرعة كبيرة وبصقها مكرهاً. وكانت تلك أول تجربة له مع مياه الصحراء وإثرة الآخر على النفس. ثاني تجربة “كان طموحي اجتياز الربع الخالي”. هكذا كان يقول مبارك بن لندن حيث تعرف على سالم بن كبينة وكان معروفاً بـ”بن كبينة” نسبة إلى والدته، فالشائع في أجزاء أخرى من الجزيرة العربية أن يسمى الرجل بأبيه، وهنا العادة الأكثر شيوعاً أن يستخدم اسم أمه، وصار رفيقه في كل رحلاته، يقول بعد أن خيما: “بعد يومين وصل إلى مخيمنا رجل عجوز يعرج ويبدو فقيراً يرتدي مئزراً ممزقاً، شاحب الوجه، أشيب، يحمل بندقية قديمة كبندقية بن كبينة، هرول الرواشد إليه وهم يرحبون: “أهلاً وسهلاً يا بخيت.. طال عمرك.. يا عم.. أهلاً وسهلاً مائة مرة”. فتعجبت لحرارة استقباله، بينما أسرعوا يشعلون النار لإعداد القهوة، كانت عيناه دامعتين، وأنفه طويلاً، قلت في نفسي: “إنه متسول عجوز ولا بد أن يطلب شيئاً” وقد فعل ذلك في المساء وأعطيته خمسة ريالات، لكنني بعد ذلك غيرت رأيي به”. سأل مبارك بن لندن صاحبه (سالم بن كبينة): ? من الرجل؟ قال سالم بن كبينة: ? إنه من بيت يماني وهو رجل مشهور. وسأله ثانية: ? بماذا؟ فرد عليه: ? بكرمه، إنه لا يملك شيئاً الآن، وحتى بلا جمل ولا زوجة، كما أن ولده قتل على يد إحدى القبائل قبل عامين، وكان في الماضي من أغنى رجال قبيلته، إنه لا يملك الآن إلا بضعة رؤوس ماعز. وسأله بن لندن: ? ماذا حل بجماله؟ فيرد بن كبينة: ? إن كرمه أهلكه، فما حل عليه شخص إلا ذبح له جملاً، والله إنه كريم”. ويقول بن لندن: “لقد كنت اسمع الغيرة في صوته”. ويعبر مبارك بن لندن الربع الخالي في عام 1946. ثالث تجربة أحضر مبارك بن لندن كيس نوم ليرافقه في رحلته بعبور الربع الخالي.. ويعدد ما كان لديه: “كنت أضع النقود في أكياس من الخيش مربوطة بخيوط ثخينة، وكان الخرج مفكوكاً، ومع أن رفاقي كانوا في فقر مدقع، فإن النقود ظلت في أمان كما لو كانت مودعة في أحد المصارف”. يضيف مستغربا: “لقد أمضيت خمس سنوات مع البدو، ولم أفقد مليماً واحداً أو حتى رصاصة مع أن قيمتها تفوق في نظرهم قيمة النقود”. رابع تجربة صادف مبارك بن لندن رجلاً كهلاً سأل عنه رفاقه فأجابوا: ? إنه مجنون. وسألناه ماذا يريد فقال: ? جئت لأرى المسيحي (ويقصد مبارك بن لندن). ضحك الجميع.. وتساءلت هل يرى هذا الرجل الأشياء أكثر وضوحاً مما يراها رفاقي، واكتشفت أن الصحراء ستفقد روحها في يوم كانت تضيء كل هذه الأصقاع كما الشعلة. خامس تجربة يقول مبارك بن لندن: “تحدى سلطان (أحد مرافقي مبارك بن لندن) عربياً أن يدعو ناقته لتأتي إليه، فالجمال تعيش جماعات، ولا تحب الافتراق عن بعضها، ولكن حالما ناداها صاحبها، اندفعت في اتجاهه، وما زلت أذكر جملاً آخر كان متعلقاً بصاحبه كما يتعلق الكلب بصاحبه، وخلال الليل، كان يأتي إليه وهو يرغي بلطف، ويشم رائحته حيث يرقد قبل أن يعود ليرعى، وأخبرني رفاقي أنه لا يسمح لغيره أن يمتطيه من دون أن يأخذ معه قطعة من ثياب صاحبه”. البدوي والنخلة في زمن غابر بعيد يسمع مبارك بن لندن حكايات تقوده إلى أن يرى رجال آل بوفلاح حيث روى له الأعراب: “إن آل بوفلاح يستطيعون طلب مساعدة القبائل عند الحاجة، وقال العوف مرافق ابن لندن، لقد تلقيت أمراً من أحدهم، حتى ولو كان طفلاً فمن الصعب أن أرفضه”. ويؤجل مبارك بن لندن رحلته ليلتقي بالشيخ زايد رحمه الله في المويجعي بالعين إلى زمن آخر بعد أن يعبر الربع الخالي. كان من عادة العرب ألا يحرقوا نبات “التريبيولوس” إذا ما عثروا على وقود آخر لأن الزهرة كما يسمونها تعتبر أفضل طعام لنياقهم، ولها حرمة شجرة النخيل تقريباً. ويروي مبارك بن لندن حكاية عن حرمة النخلة وثمرها يقول: “كنت آكل تمراً أمام موقد نار فقذفت نواة في النار فانحنى (طمطيم) العجوز والتقطها. شعر ابن كبينة كانت ليلة مقمرة ورأى مبارك بن لندن خسوفاً أخفى نصف القمر، فلاحظه بن كبينة في الوقت نفسه، وأخذ ينشد مع الآخرين: الله دائم أبداً والإنسان لا يدوم الثريا فوقنا والقمر بين النجوم قصة السرج دخل مبارك بن لندن ورفيقاه “ليوا” في رحلته الأولى إليها وكان هناك نخيل، وكثبان فوق المنبسطات الملحية والبيوت مصنوعة من الحصير وسعف النخيل وجميع السكان من المناصير أو من بني ياس. يقول بن لندن: “لاحظ أحد الخدم أن الحشايا تحت سرج ناقتي كانت مصنوعة من ألياف جوز الهند وليس من ألياف النخيل فصرخ قائلاً: “هذا الصبي من الجنوب ولا ينتمي إلى نفس الجماعة كالإثنين الآخرين”. دعاء اعرابية يروي مبارك بن لندن أنه في إحدى المرات مر ورفاقه بأكثر من عشر نياق ترعاها امرأة مع ولدين صغيرين فذهبوا إليها ونزل رفيقه وحيا الإمرأة وكانت عجوزاً تلف نفسها بثوب أسود تحول إلى اللون الأخضر لتقادم الزمن عليه، وأخذ الوعاء الذي ناولته إياه وتوجه نحو النياق ونادت ولديها “اسرعا.. اسرعا.. واحضرا الحمراء.. أهلاً بالضيوف”. وجلس الجميع يشربون حليب النوق وسألتهم العجوز عن وجهتهم فأجابوا بأنهم كانوا ذاهبين لنصرة آل بوفلاح فقالت العجوز بحماس: ? “الله ينصركم”. عشق بن لندن يقول مبارك بن لندن: “كانت هناك فتاة جميلة تعمل مع الآخرين عند بئر (منوخ) في منطقة عيوة الصيعر، وكان شعرها على شكل ضفائر صغيرة تتدلى حول عنقها وتضع حول عنقها حلياً فضية متنوعة، وتلبس رداء أزرق اللون، وحالما لاحظت أنني أريد التقاط صورة لها عبست وقطبت جبينها، ومدت لسانها لي، فقام أحد رفاقه وطلب منها ألا تتحرك وشرح لها ماذا أفعل، وخلال الأيام التالية ظل رفاقي يمازحانني عندما أكون ساكتاً بقولهما إنني أفكر بفتاة (منوخ)”. ويعلق بن لندن: “وكان ذلك صحيحاً في الحقيقة”. ومن الجكايات التي يرويها مبارك بن لندن، عن حياته في الصحراء العربية، هذه الحكاية: “سمعت عند الصباح صوتاً وأخذت الجمال الخائفة تشد أزّمتها وهي تلتفت إلى الوراء صوب أعلى المنحدر، ثم توقف الصوت عندما وصلنا إلى الأسفل، كان الصوت “غناء الرمال” ويسميه العرب زمجرة، وخلال الأعوام الخمسة التي قضيتها في هذه الأرجاء لم أسمع هذا الصوت إلا ست مرات. كما يروي حكاية أخرى عن بدوي، جاء فيها: كان شيخ بدوي يعرف باسم “مضيّف الذئاب” لأنه كلما سمع ذئباً يعوي حول خيمته، أمر ابنه بإخراج عنزة إلى الصحراء قائلاً: ? إن أحداً لا يأتي إليه للعشاء. الحياة المتساوية في الصحراء، تقاسم البدو مع ثيسجر، أي شيء لديهم: الماء الآسن، والخبز النيئ، ولحم الجماال القاسي. ويعلق ثيسيجر بأن قانون الصحراء كان يقضي بتقاسم الطعام، بغض النظر عن ضآلته، بالتساوي بين رفاق السفر، وقد حدث مرة أن اصطادوا أرنبا بريا صغيرا، وبعد تقسيمه إلى الأجزاء المتساوية، استدرك ابن كبينه، الرفيق المقرب لثيسيجر، قائلا: الله! لقد نسيت تقسيم الكبد، لكن الآخرين أصروا على أن (امبارك) ينبغي أن يأخذه، وقد قبله أخيرا بعد الاعتراض أن الكبد كانت يجب أن تقسم أيضا، وفي مناسبة أخرى، عندما أُسِرَ ثيسيجر من قبل الجنود في منطقة (السليل) في الأراضي السعودية، فإن جون فيلبي الذي لعب دورا رئيسيا في تحريره، أعطى رفاق ثيسيجر بعض النقود، وحين تركوا السليل، أعطى محمد، دليل القافلة ثيسيجر حصته من مال فيلبي، وقال له: هذا خمسه لك، نصيبك، نحن رفاق سفر وينبغي أن نتقاسم كل الأشياء على حد سواء. يتحدث ثيسيجر بشكل مدهش أكثر عن كرم البدو. يصور “حفاوتهم السخية” كأسطورة. في الصحراء، رأى الشيخ الذي بدا فقير جدا وجلده ارتخى متغضنا على تجويف بطنه من الجوع. وقد كان الانطباع الأول لثيسيجر أن الرجل ربما كان عجوزا شحاذا حقيقيا، لكنه علم فيما بعد أن العجوز كان أغنى رجل في قبيلته، وقد أفقره كرمه، لأن أحدا لم يأت إلى خيمته في أي وقت إلا نحر جملا لإطعامه. وقال ايضا أن كلمة “انا” لامكان لها فى الصحراء بل “نحن” هي الكلمة التى يعترف بها قانون الصحراء. من السليّل إلى أبوظبي عبر طريق الساحل في حضرة الشيخ زايد: عينان ثاقبتان وذكاء حاد خطط ويلفرد ثيسجر لرحلته من السليل إلى أبوظبي وزار “ليلى” ولم يحصل على دليل فقاد صاحبيه “بن كبينة” و”ابن غبيشه” مع بوصلة وخارطة فغادر السليل في يوم 29 يناير متوجهاً إلى “ليلى” ثم إلى أبوظبي التي تبعد 600 ميل، ويغادر ليلى يوم 7 فبراير وفي 8 فبراير يصل إلى ليوا حيث صرخ “بن كبينة”: ـ أستطيع أن أرى رمال ليوا. ويتركون ليوا يوم 7 مارس وعلى بعد 150 ميلاً كانت أبوظبي، ويتبع مبارك بن لندن الساحل شرقاً متوجهاً برفاقه إلى أبوظبي ويصل إليها يوم 14 مارس ويدخل أبوظبي ويمكث فيها 20 يوماً وكانت كما يصفها: “بلدة صغيرة تضم حوالي ألفي نسمة”. ويغادر أبوظبي يوم 12 أبريل برفقة الرواشد. ويقترب مبارك بن لندن مع ابن غبيشه وابن كبينة إلى المويجعي وكان المغفور له الشيخ زايد رحمه الله يعيش في هذه القرية. وقدسجل الرحالة الانجليزي ويلفرد ثيسيجر (أو مبارك بن لندن) في كتابه “الرمال العربية” انطباعاته عن أول لقاء له بالشيخ زايد في مجلس بقرية المويجعي من أعمال العين سنة 1948 فقال: “ان زايد رجل قوي البنية، لحيته بنية اللون، ووجهه ينم عن ذكاء حاد، وعيناه ثاقبتان قويتا الملاحظة، وهو يتميز بسلوك هادئ وشخصية قوية، وكان بسيطاً في لباسه يرتدي ثوباً من النسيج العماني رمادي اللون وصدرية مفتوحة، وكان يتميز عن مرافقيه بعقاله الأسود وبالطريقة التي يرتدي بها الكوفية فقد كان ينشر طرفيها على كتفيه بدلا من لفها حول الرأس كما هي الطريقة المعروفة هنا، وكان يضع خنجراً وجناداً للرصاص إلى وسطه وإلى جانبه على الرمال بندقيته”. “لقد كنت متشوقاً للقاء زياد فله شهرة واسعة في أوساط البدو الذين أحبوه لسلاسة أسلوبه غير الرسمي في معاملته لهم ولعلاقاته الودية معهم، واحترموا فيه نفاذ شخصيته وذكاءه وقوته البدنية، وكانوا يعبرون عن اعجابهم به فيقولون: زايد بدوي مثلنا فهو يعرف الكثير عن الهجن ويركبها مثلنا وهو ماهر في الرماية ويجيد القتال”. ووصف الرحالة أسلوب زايد في إدارة دفة الحكم فقال “وزايد رب أسرة كبيرة يجلس دائماً للإنصات لمشاكل الناس ويحلها فيخرج المتخاصمون من عنده بهدوء وكلهم رضا من أحكامه التي تتميز بالذكاء، والحكمة والعدل”. وقال مرافق مبارك بن لندن له: ـ “إن أي بدوي على استعداد للتضحية بكل شيء حتى يقول إنه ركب “غزاله” ذلك ما نقله بن لندن حينما أعار الشيخ زايد “غزاله” إليه وهي أشهر ناقة عرفت ذاك الوقت وربما كانت أجمل ناقة في الجزيرة العربية كلها. ويروي مبارك بن لندن عن مجلس الشيخ زايد فيقول: “أحضر أحد الخدم بساطه لنجلس عليها، وكان الشيخ زايد جالساً على الرمل ثم قدم الخادم القهوة والتمر اللذين لا بد منهما. سألني الشيخ زايد عن رحلتي، والمسافات والآبار التي صادفناها، وعن (جبرين) وعن السعوديين الذين التقيناهم في (ليل) و(السليل)، كان كثير الاطلاع على الصحراء، وأبدى اهتمامه عندما أخبرته بأنني عبرت أراضي (الدروع) خلال العام الماضي، وأبدى دهشته لأنهم سمحوا لي بالعبور، فأخبرته بأنني تظاهرت بأنني تاجر سوري، فقال ضاحكاً: “كنت سأعرف فوراً أنك لست كذلك”. ويتابع بن لندن انطباعاته عن الشيخ زايد فيقول: مكثت عند الشيخ زايد حوالي الشهر. في كل صباح، وبعد أن نتناول الفطور من الشاي والخبز كان خادم يدخل ويخبرنا أن الشيخ زايد جالس.. فكنا نخرج وننضم إليه، كان الشيخ زايد يجلس أحياناً على المقعد في الممر، وفي أكثر الأحيان تحت شجرة خارج الحصن، كان يطلب القهوة ونجلس هناك نتحادث حتى وقدت الغداء.. وكان الزوار الذين يتوافدون يقطعون علينا الحديث مراراً، بعضهم بدو من الرمال أو من العربية السعودية وقبليون من عُمان، أو ربما رسول من الشيخ شخبوط في أبوظبي، وعندما يقتربون كنا نقف لكل شخص.. فيدعوهم الشيخ زايد إلى الجلوس، وكنت أستمع لأخبارهم، ولدى اقترابهم كنت أحاول أن أتكهن من أين أتوا، وذلك من خلال ملاحظة طريقة ارتدائهم ملابسهم وتسريح نياقهم. وقد يقوم عربي من الحلقة، ويجلس أمام الشيخ زايد مباشرة، ويضرب الأرض بعصاه كي يلفت النظر، ويقاطعنا ونحن نتحدث معاً، ويقول: “الآن يا زايد، ماذا بخصوص تلك النياق التي أخذوها مني؟ فيتوقف الشيخ زايد عن متابعة حديثه ويستمع إلى شكوى الرجل، كانت معظم الشكاوى عن النياق”. عن وعول جبل حفيت.. وأحوال الشارقة ودبي تنقل ويلفرد ثيسجر في أرجاء الإمارات ووصل إلى الشارقة ودبي، وخلال تنقلاته هذه يروي مشاهدات تدل على وصف متيقظ للبيئة وللحالة الاجتماعية، ومن ذلك ما يقوله عن الوعول والسفن وحال البيوت والطرق: خلال وجودي في المويجعي كنت أصطاد الوعول على جبل حفيت، حيث خيمت أسبوعاً تحت الجبل مع بن كبينة، وبن غبيشة، واثنين من مستخدمي الشيخ زايد، لم يكن أي أوروبي قد شاهد الوعول من قبل، مع أن تسميتها جاءت من جلدين اشتراهما الدكتور جياكار في مسقط عام 1892، كانت تشبه الماعز وقرونها سميكة جداً وقصيرة، وصيدها كان عملاً مرهقاً، إذ كانت الجبال على ارتفاع أربعة آلاف قدم فوق مخيمنا، والانحدارات شديدة في كل مكان وعمودية عادة، لا ماء فيها ولا عشب، وكانت الوعول تقتات ليلاً عند أسفل الجبل، لكننا لم نشاهد إلا تلك التي كانت بالقرب من رأس الجبل، اصطاد العرب اثنتين من الإناث، كما التقطنا جمجمة أحد ذكورها، وكنا صنعنا لأنفسنا صنادل من الجلد الأخضر، ولولاها لما كان في إمكاننا أبداً تسلق هذه الصخور الكلسية الصلبة. وصلنا إلى الشارقة 10 مايو، وسرنا بمحاذاة المطار العسكري، ومررنا بأكوام من العلب الفارغة والزجاجات المهشمة ولفائف من الأسلاك الصدئة وقطع صغيرة من الأوراق المتطايرة، وكان هناك صوت مولد كهربائي يدوي من بعيد، وصوت سيارة يهدر وهي مسرعة على الطريق تاركة وراءها رائحة كريهة من دخان العادم، اقتربنا من قرية عربية صغيرة عند ساحل مكشوف، كانت متداعية بلا معالم مثل أبوظبي، ولكنها أكثر قذارة، فقد كانت ملأى بالنفايات المهملة، وكان هيكل سيارة مهترئ تحت أشعة الشمس أكثر بشاعة بكثير من جيفة ناقة مررنا بها بعد مسافة قصيرة. أقمت عند نويل جاكسون الضابط السياسي في الساحل المتصالح، مرتاحاً في غرفته الهادئة، فنسيت لبرهة من الزمن الاستياء الذي شعرت به في الصباح، وقد رافقني فيما بعد إلى مطعم سلاح الجو الملكي البريطاني واستمعت إلى أحاديثهم، بينما كان جهاز الراديو يدوي في إحدى الزوايا والنادل يقدم المشروبات، وأدركت أن هؤلاء الضباط كانوا يجهلون حياة البدو، تماماً كما يجهل بن كبينة وبن غيشة حياة هؤلاء الضباط، كنت أستطيع أن أنتقل الآن ومن دون عناء من عالم إلى آخر بسهولة تامة، لكنني كنت أدرك خطر الانتماء لأي منهما، فعندما أكون مع أبناء جلدتي تبقى إلى جانبي شخصية غير واضحة المعالم تراقبهم بعينين ناقدتين غير متسامحتين. ودعت رفاقي في الشارقة على أمل أن أكون معهم ثانية في غضون أربعة أشهر، ثم ذهبت إلى دبي ومكثت عند ادوارد هندرسون، لقد كنا معاً في سوريا خلال الحرب العالمية الثانية، وهو يعمل الآن مع شركة نفط العراق ويعد للتطوير المنتظر هناك الذي لم تبد ملامحه بعد والحمد لله، كان يقيم في بيت عربي كبير يطل على الخور الذي يقسم البلدة وهي أكبر البلدات على الساحل المتصالح، وتضم نحو خمسة وعشرين ألف نسمة، وكانت مراكب محلية كثيرة راسية في الخور أو مائلة على جنبها في الوحل بمحاذاة الشاطئ، وهناك سفن البوم من الكويت والسمبوك من صور، والجلبوط وحتى البغلية الكبيرة المهيبة ذات المؤخرة العالية والمحفورة، وكان في إمكاني تمييز ما عليها من أحرف HS وتعني (سوف تنتصر) محفورة على إحدى اللوحات المزخرفة بنقش بارز، كان واضحاً أن هذا النقش نسخ عن سفينة برتغالية قديمة، وتساءلت كم مرة نسخ منذ ذلك الوقت بأدق تفاصيله، يعتقد الربان آلان فيليبر الذي أبحر بسفينة بوم من زنجبار إلى الكويت، بأنه لم تعد هناك إلا بغلتان أو ثلاث فقط في الخدمة، أما بالنسبة للإنجليز فإن كل هذه السفن تدعى الدو، وهو اسم لم يعد العرب يتذكرونه، غير أن الدو كانت في زمن ما السفن الحربية لهذا الساحل، وكانت تحمل عدداً يصل إلى أربعمائة رجل، وبين أربعين إلى خمسين مدفعاً وقد شاهد مايلز ما تبقى من هذه المراكب في البحرين وعليها خطان من منافذ المدافع رسماً بالدهان. ويلفرد ثيسيجر.. من الحبشة إلى الجزيرة العربية ولد ويلفرد ثيسيجر في اوائل القرن الحالي في الحبشة، حيث كان ابوه موظفا في وزارة الخارجية البريطانية. عاش صباه هناك ونما في نفسه الإعجاب العميق بالامبراطور الراحل هيلا سيلاسي وشخصيته الزاهدة والصارمة. وبدأ ثيسيجر يكتب ويصور في الثلاثينات من القرن الماضي، الثلاثينات التي شهدت تتويج الامبراطور الراحل. الا ان غرام الرحالة بالكاميرا لم يتوطد ويتعمق الا عندما زار عرب الأهوار وأقام بينهم فترة طويلة. ومعها سافر الى ايران وافغانستان ومعظم رحلاته كانت على ظهور الجمال، وكان خلال رحلاته يتعرض للجوع ولفحات الشمس القاتلة والرياح الرملية التي تكاد تعمي الابصار. ولثيسجر تلميذ تعلم على يديه وأصابه هو الآخر حب الأهوار والإعجاب بسكانها وهو غافن يونغ Gavin Young الذي التقى ثيسيجر في البصرة في الستينات واراد ان يرافقه في رحلاته، الا انه في السبعينات ذهب الى الأهوار مع مصور بريطاني ممتاز هو نيكولاس ويلر، وألف عنهم كتابه “العودة الى الاهوار”، ولم يقتصر المؤلف المذكور على تصوير الحياة الاجتماعية لعرب الاهوار، بل تطرق ايضا الى الجانب التاريخي والسياسي لهم. والكتابان “عرب الأهوار” و”العودة الى الاهوار” يكمل أحدهما الآخر. وهما يشكلان صورة كاملة التفاصيل عن جنوب العراق، مهد الحضارة الاولى، و”جنة عدن”. ولم يتوقف ثيسيجر عن الكتابة عن العرب شعبا وعن الأرض العربية جغرافية، ففي السبعينات بعد صدور كتابه الاشهر “الرمال العربية” و”عرب الاهوار”، صدر له كتابان هما “رؤى البدوي” و”حياة من اختياري” وهما ايضا معززان بالصور الفوتوغرافية التي التقطها بكاميرته العتيدة “لايكا” والتي بقيت معه حتى مماته، وقد كان معجبا بالحياة العربية ويعد اصدقاءه من العرب الأكثر حميمية في حياته التي عاشها متنقلا في الاهوار والصحراء العربية ضمن مجتمع عذري يعيش بفطرة الانسان ونقائه. نصف قرن من الترحال والاشتياق الى تلك الحياة الفطرية، من يد وعين هذا الرحالة الذي كان يعيش في كوخ بسيط في افريقيا، هذا الرحالة الذي رفض الحضارة الغربية المعقدة وفضل عليها حياة البداوة بالرغم من قسوتها وشظف العيش فيها. ثيسجر صرح أكثر من مرة بأنه يفضل العيش في كينيا وانه لا يزور بريطانيا الا في حالات الضرورة، بل انه قبل عدة سنوات من وفاته صرح بأن زيارته الى بريطانيا ستكون الأخيرة، الا ان المرض أجبره على البقاء فيها. كان يملك شقة متواضعة في لندن يحتفظ فيها بذكرياته وما مجموعه 65 البوما من الصور، الا انه لم يكن يستطيع ان يبقى في بلد متحضر وفضل حياة الترحال والبداوة في صحارى العالم العربي والآسيوي، حياة لا مثيل لها، حياة التقشف التام والابتعاد الكامل عن مغريات المجتمع المتداخلة، وهذا التفرد جعل منه شخصية اسطورية لا مثيل لها في التاريخ الحديث. ويروى ان الشخصيات الكبيرة من السياسيين والصحافيين ومحبي الأسفار عندما كانوا يزورونه في كوخه المتواضع في كينيا يفاجأون به وهو يقدم لهم حليب الماعز والتمر بدلا من وليمة تليق بمقامهم العالي. ومعروف عن ثيسجر انه عزوف عن النشر وكتابه الاول “الرمال العربية” لم يصدر الا بعد سنوات من تأليفه. وهذا الكتاب جعل منه واحدا من كبار كتّاب أدب الاسفار الكلاسيكية. معلومات عن الرحلة ? تتكون رحلة “على خطى مبارك بن لندن” من 6 جمال وفريق الدعم ? الطريق: صلالة، مغشن، ام زمول، ليوا، العين، ابوظبي ? مسافة الرحلة: 1500 كم ? المسافة اليومية: 30 كم ? بداية الرحلة: صلالة نهاية اكتوبر/ بداية نوفمبر 2011 ? نهاية الرحلة: ابوظبي 9 ديسمبر 2011 ? مدة الرحلة: حوالي 40 يوم في الصحراء ? اللباس: الوطني ? الطريق: سينطلق الفريق من صلالة ليدخل في جبال القرع ومن ثم أراضي نجد جنوب ظفار ومن ثم ركوب الجمال قبل الوصول إلى رمال الربع الخالي، ومن ثم سيقوم الفريق بالعبور من خلال أصعب التضاريس الصحراوية في العالم حيث ترتفع التلال الرملية إلى أكثر من 250 مترا وتصل درجة الحرارة إلى 50 درجة مئوية. ? التحديات: الحرارة العالية وقلة المياه وأصعب التضاريس الصحراوية التي عرفها الإنسان، وخطر العواصف الرملية والرياح العاتية وإبقاء الجمال على قيد الحياة والبقاء على الأوقات المحددة للرحلة والمشي على الرمال المتحركة، والمشي على السهول الحصوية والمسطحات المالحة. ? المعدات: سيقوم فريق الرحلة بإبقاء المعدات التقنية في حدها الأدنى حيث لن يأخذ الفريق معه إلا الضروريات كما فعل ثيسجر خلال فترة الأربعينيات وهي: بوصلة، سكين، بندقية صيد، طعام ومياه، معدات طبية، بطانيات. ? الجمال: تم اختيار 9 جمال (مدربة) لاستعمالها خلال الرحلة، من المعروف أن الجمال (المدربة) والتي تستعمل لتدريب جمال السباق لا يتم اختيارها بسبب سرعتها بل بسبب قدرة التحمل العالية التي تتمتع بها. هايز: سنوات من التفكير ادريان هايز هو رحالة ومستكشف بريطاني، متحدث ومحاضر للشركات ومدرب وسفير بيئي، دخل أدريان موسوعة جينيس العالمية للارقام القياسية مرتين، الأولى لوصوله الى أقطاب الأرض الثلاثة (القطب الشمالي والقطب الجنوبي وقمة جبل ايفرست) عام 2007 في أقصر زمن في التاريخ، والثانية لقيامه بأطول رحلة جليدية غير مدعومة في التاريخ، والتي قام بها بقطع جزيرة جرينلاند المتجمدة الأكبر في العالم في 2009 بالاشتراك مع زميليه الكنديين ديفون ماكديرميد وديريك كرو. يتحدث ادريان، وهو جندي سابق في القوات الخاصة في الجيش البريطاني، العربية بطلاقة وهو ليس غريباً على البيئة الصحراوية بعد ان خدم في صلالة خلال فترة خدمته العسكرية. يقول أدريان هايز عن مشروع رحلة “على خطى مبارك بن لندن”: “لقد قمت بالتفكير في رحلة على خطى ثيسجر لسنوات عديدة وخاصة في فترة العامين الماضيين بعد رحلتي الأخيرة لاستكشاف جزيرة جرينلاند المتجمدة، والتي حصلت من خلالها على مكان في كتاب جينيس العالمي للأرقام القياسية. الرحلة التي ستنطلق في بيئة صحراوية صعبة، والتي ستظهر جمال تراث البدو ودولة الامارات العربية المتحدة وعمان بشكل عام”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©