الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضوء خافت

ضوء خافت
2 نوفمبر 2011 21:16
غريباً عن المكان.. لم أقرأ ذلك على جبينه، لكنه يداري خطواته وحتى نظراته، يحمل مع وحدته حقيبة متواضعة تكاد لا تتسع لبضع تفاصيل من الذاكرة، ويحضن بإجهاد مجموعة كتب ممزقة الأغلفة لا تحمل أي عناوين، كما لو أنه لا يألف غيرها. حين وصل حيينا الصغير، بدت عيناه حائرتين تنطقان بشيء من ضياع أعرفه كلما أطلت النظر في مرآتي. مشتت لا يعرف بالضبط من أين أتى؟ هكذا شعرت منذ المرة الأولى التي رأيته فيها، بينما كنت عائدة من المدرسة، حيث لفت انتباهي بتقاسيم وجهه وتفاصيل حركته، فلم أمنع نفسي من أن أتتبعه بنظراتي، ربما لأني أخاف على أي أحد من الوحدة، وربما لأني لا أحبذ ترك المتعبين وشأنهم قبل أن أطمئن أنهم أصبحوا بحال أفضل؟ أسيكون أحد باستقباله؟ هل من شخص سيظهر ليلاقيه مرحباً بقدومه ويساعده في حمل أشيائه. كل هذه الأمنيات عادت لذاكرتي بعد مضي يوم بأكمله، لكن الغريب بقي وحيداً ولم يتعرف أو يتقرب منه أحد. الغريب بأمر هذا الغريب أنه يمشي جيئة وذهاباً كما لو أنه يمتهن السير لمسافات طويلة، بلا وجهة معينة، يواظب تدخين سجائره بشراهة لا يعرف متعتها إلا المدخنون ممن يعتقدون أن سجائرهم هي الأكثر إخلاصاً ووفاءً لهم بحجة أنها تحرق نفسها لأجلهم. كنت أراقبه من بعيد، يمشي بوجل بحثاً عن موطئ قدم بجوار الأسوار العالية للبيوت ذات الشبابيك الأشبه بالثقوب محكومة الإغلاق منعاً لدخول الضوء والشمس والهواء، اليأس واضح في مشيته وحركة ساقيه المثقلة في كل المرات التي شاهدته بها كان في مكان مظلم وكأنه يختار الأماكن البعيدة عن أي شكل من أشكال الضوء، حتى إنه يتفادى الحديث لأي أحد، ولعله يتحاشى بذلك الرد على سؤال الناس المتوقع لأي شخص غريب، من أين أنت؟ ما اسمك؟ ما جنسك وجنسيتك؟ ماذا ولماذا وكيف ومتى؟ وحدها الشرطة تعرف جواباً من خلال أوراق أبرزها لهم، ولكن الشرطة بطبيعة الحال لن تخبر أحداً بمعلومات تخصها ما دام وجوده مشروعاً ويحمل معه ما يثبت شخصيته. وهي كسلطة لا يعنيها أن تعرف أكثر من هويته وضمان حسن سلوكه، ولن تسأل عن حاله ومزاجه وأهوائه؟ لكني أعتقد أنه كلما سار في مكان يبدو غريباً أكثر مع محاولته حفظ أي شيء عن اسم وملامح المكان، وبمواعيد غير منتظمة يسترق طعامه خلال ثوان معدودة حتى يكون جاهزاً حين يأتيه ما ينتظر، وأي شيء ينتظر لست أدري، وهو ليس بأحسن حال عني؟ فلم يظهر بشخصية المفكر أو الراغب في أن يتعب نفسه في التفكير، ولعله يخاف فكرة أطلقت ذات يوم “أنا أفكر إذاً أنا موجود”، إذ قد يكون التوقف عن التفكير شرطاً لازماً وكافياً للزوال، وبذلك توقفت داخله كل رغبة في الحياة. لحيته المهملة خطاها الشيب رغم وقوفه كل الوقت في الفيء، ويبقى الزمن كفيلاً بملء سلة المهملات بأشياء بالغة الأهمية، لكننا لا نتمكن أبداً من استرجاعها، وحيث فضولي لم يتوقف لحظة لمعرفة سر البؤس والمرارة الباديين على خطوط جبينه ودورانه في الشوارع ليل نهار، بدأت أعلل له بكثير من المقاربات المنطقية المتخيلة.. فربما تعرض للضرب والحرمان، أو أرغم على ترك أسرته.. أو أن أسرته تخلت عنه؟ أو أصابه الجنون أو الضجر أو رغب في الهروب من شيء ما.. احتمالات كثيرة، وكم تكثر الأجوبة حين تطرح السؤال على نفسك وتعجز عن إيجاد إجابة لو كان السؤال مطروحاً عليك من غيرك، وكأن احتمال وجود أكثر من إجابة مرهون بعدم المعرفة الكافية. كل هذا يدور في رأسي، بينما هو يدور ويدور، في حياة بت أشاهدها أمامي كمسرح أشبه بحلقة مفرغة للبطل، دون أن يؤدي مشهداً واحداً ينقل به إحساساً بالألم، لم يكن مضطراً لذلك فليس هو بممثل ولم ينتظر مني التصفيق ولا حتى الانتباه، أنا تبرعت أن أراقبه وأن أتألم لأجله رغم ثقتي بأنه لا يتألم طواعية، ليس هذا وحسب، إنه لا يشعر بأي شيء على اعتبار أن ردود أفعاله لم تتناسب أو تتعاكس مع أي فعل من حوله حتى ولو كان “هطولاً غزيزاً للمطر”، ولعلها نتيجة منطقية، فالمرء حين يتعرض لكم هائل من الحزن والضيق في حياته يتصالح مع فعل الألم نفسه، ويفقد ذلك الإحساس القدري، يفقده تماماً، ويصبح كالدمى التي يحركها الأطفال، كل ما يفعله هو الاستجابة لأوامر توجه إليه مباشرة مع اقتناعه بأن هناك من يقع على كاهله مسؤولية تنظيم الحياة، وهناك من هو مطلوب منه التنفيذ فقط حتى ولو كان يتعذب بذلك، لكن هذا الغريب لا يرغب أن يكون ضمن مجموعة القياديين؛ لأنها تضع فوق كتفيه مسؤولية تتطلب وجوده بشكل آخر، بينما لا يزال يشكك في وجوده، فهو شبه ميت يمشي ويتحرك، ويعد أيامه على أصابعه بانتظار أن تنتهي. تعرفت مصادفة على غرفته الكائنة تحت درج البناء الخلفي المقابل لنا، والتي تدل عليها أكوام من الجرائد والمجلات موضوعة أمام باب خشبي كُتبت عليه ذكريات قديمة لساكنين قدامى، أما جدران غرفته فهي مرتبة بشكل عشوائي بصور ومقالات لا تبدو فيها أي عناوين أو “مانشيت”، وكنت كلما اقتربت من غرفته، أقف باهتة أمام هذا المشهد، أتمنى لو أعرف أي نوع من البشر هو؟ وأنا هنا لا أدعي العلم بصنوف كثيرة من الناس لكنه صنف مختلف، هذا ما شعرت به مراراً وأنا ممن يؤمنون بأن أشياء كثيرة نحتاج أن نشعر بها أكثر من أن نفكر بها، أشعر بنفسي مشتتة وأنا أراه جالساً في الظلام أمام نافذته يراقب البنايات، أتوقع أنه أحب غرفته، وتعلّق بها واعتاد الجلوس في زاوية واحدة بنظراته، أصبحت وكأنها جزء من شخصيته الساكنة التي تميل إلى الحزن والعزلة، كيف لا وهي لن تتسع لغيره، ولن يرتاحها أي أحد آخر بعدما حفظ أبعادها وحفظت تقاسيمه. أيام مرت والغريب يراكم فوق فضولي استغراباً أكبر مع مكوثه الطويل في غرفته في سكون شبه تام، وكورق نبات ينتظر ضوء الشمس ليصنع خضرته ونضارته، هناك ما بدا يحييه بغتة، وراحت عيناه تلاحظان شيئاً ما، ثم تلحقان بخيوط نور مشع، لبث طويلاً يتأمل ذلك النور المقبل من الشقة المجاورة، كما لو كان سيعيده وينتشله من غرفة في الظلام، سقط الضوء على ذراعيه، وعلى وجهه الشاحب فجعله يستيقظ ويلتفت حوله، شيئاً فشيئاً كان الغريب يحاول أن يعرف مصدر النور الآتي إليه، فما لبث أن توجه إلى النافذة ينظر خلسة إلى مصدر النور، وإذا بفتاة تقف في الجهة المصدرة للضوء. بدت تلك الصبية جميلة ومغرية بما يكفي، بيضاء البشرة، بعينين سوداوين، تجلس على أرجوحة معلقة أمام شرفتها وخلفها إضاءة خفيفة تنطلق من داخل الغرفة، تتسع أشعتها وتضيق وفقاً لحركة الستائر التي تحركها الريح، بينما تحمل بين يديها رواية يعرفها جيداً، إلا أنه لم يتعرف لروايتها، بل إن ما استرقه كان شيئاً أكثر وضوحاً، إحساس ولد داخله بات يحتاج إلى الرعاية كي لا ينضم لقائمة الوفيات التي حملها لزمن طويل، وأعطاه مبرراً كي يعيد حساباته ونظرته لما حوله برمشة عين. أيكون عصف الحب بهذه القوة؟ أم أنه رغبة خاطفة في الخروج من عالم الوحدة؟ هي تلك المشيئة والإرادة الدافعة للبحث عن انتماء أو وطن؟ وكم من المرات يحل شخص ما نحبه بديلاً عن الوطن؟ فنصبح بذلك، منتمين لمن نحب فننتخبه وطناً؟ أحاور نفسي وأنا أتابع كليهما على خشبتين بسياق ونص واحد، ووحدة الموضوع تأتي من رغبتنا وبحثنا جميعاً عن الحب كحال الطيور التي تبحث عن مأوى لها حين يحل الشتاء؟ الآن بدأت أطمئن على الغريب الوحيد الذي أعرفه، وهو ما يزرع بنفسي الراحة؟ لكون الأيام التي مضت جعلته مقرباً إلى يستوجب أن أطمئن، إن ارتسمت على وجهه ابتسامة ولو مؤقتة، وقد لاحظت بسمة معلنة على شفتيه أكثر من مرة بعيد وصول ضوء الفتاة إليه، وكيف لا يبتسم، وهو يتأمل ملامحها كل ليلة، حتى أصبحت هاجسه الوحيد، وشغله الشاغل، وبالمقابل لم تلحظ الفتاة هاتين العينين المختبئتين في الظلام، وعندما تنبهت لنظراته ووجوده، حاولت إشغال نفسها بشيء آخر بزاوية مغايرة عن قصد أو بغير قصد، فكانت ردة فعله ارتباكاً جعلني أطمئن لتفاعله مع فعل عفوي؛ لأنثى أول ما يخطر ببالها في هذه اللحظة هو البحث عن مرآة قريبة للتأكد من حسنها، بينما الغريب المترقب يتمنى في قرارة نفسه لو تمارس نشاطها الحياتي في المكان نفسه كي يستعيد أنفاسه وإحساسه بالحياة بوقت أقصر، فالحب وعلى عكس العقاقير والأدوية كلما كبر وزادت جرعته خف الألم وزادت احتمالات الشفاء، لهذا لم يتجرأ أحد على تحديد زمن أو مكان للحب، ذلك النور فتح مخيلته على قصص جديرة بأن تعاش بعيداً عن العزلة، بل وسط ازدحام من الناس والأفكار، فحياته التعسة ويتمه وحرمانه تخضع الآن لمقارنة مع حياة أشد تشويقاً بما فيها من نبض، خاصة والحب بدا يكبر بينهما، وهما يتبادلان النظرات والبسمات. لم يكن شعوري بالسعادة لحالة الغريب مصطنعاً فليس هناك أكثر روعة من أن ترى الضعيف يصبح قوياً والورق الذابل يعود لنضارته والإنسان تتحرك بداخله عواطف نبيلة، تلك الفتاة أصبحت تطيل الجلوس على مقعدها، وهي تنتظره بلهفة غريبة حينما تسبقه إلى الشرفة، أيام مضت، مشاعرهما تكبر وهما يتأملان ببعضهما من الزواية ذاتها وبأوقات أخذت تطول يوماً بعد يوم وبدأ يقرأ حزناً في عيني فتاة يفصله عنها شارع بمسربين، لكن جلوسها الطويل ودخولها للنوم مع إطفاء الضوء لم يمكنه من معرفة حقيقة واقع فتاته المقعدة “لا تقوى على المشي”، هي لم تختر ذلك برغبتها، لكنها اختارت أن تطيل النظر إليه، وأن تغرم بحبه قبل أن تعرف إن كان يقوى على الحركة أم لا، فهو كذلك لم يكن يوحي لأحد بقدرته على النهوض والحركة، لكن حبيبته المقعدة تتمنى الآن لو تجيد الطيران فليس المشي بكاف خاصة في مكان لا يحبذ فيه لقاء حبيبين دون رضا الحي بأكمله. كلاهما مزيج رائع، هو بغربته وبمشاعره التي استيقظت في التو، وهي بمحاولتها الحركة لتقترب منه رغم عجز ساقيها، أصبح ذلك المشهد زاداً يومياً إليّ كمتفرجة ولهما كبطلين، وذات يوم خرجت في التوقيت ذاته، لكني وجدت نافذة الغريب مغلقة، على غير العادة، أسبوع، أسبوعان، شهر، والفتاة تفتح نافذتها، تشعل الضوء، تنتظره، إنها تعلم بأنه سوف يهرع على ضوء شموعها؛ لأنه عاش طويلاً في الظلمة ولم ير ضوءاً سوى ضوئها، ولكن الغريب، كما عرفت في ما بعد، وعلى ذمة جارتنا ترك المدينة دون أي أثر له. كنت أشعر بالحزن عليها وهي تشعل الضوء كل ليلة تنتظره حتى الفجر.. وفي داخلها لهفة بأنه سوف يعود. تمنيت لو كنت كاتبة أو مخرجة لقصتهما لعلي أختار نهاية أخرى أنير بها قلبيهما ولو بضوء خافت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©