حوار: إبراهيم الملا

انطلق شغف المخرجة الإماراتية نايلة الخاجة بالسينما من خلال الفن التشكيلي، وكان منبع هذا الشغف متعلقاً في الأساس بالإمكانات البصرية المذهلة التي يختزنها «الضوء» في دواخله كطيف أثيري مشعٍّ، يتحوّل تالياً لانعكاسات تصنع البريق والفتنة والجاذبية الروحانية سواء في إطار اللوحة أو في الكادر السينمائي، ومن هذا الشغف الضوئي -إذا صحّ الوصف- تدفقت الأفلام الروائية القصيرة التي صنعتها الخاجة في زمن مكثّف، وحازت بسبب اشتغالها الجدّي والمرهف في الوقت ذاته على أعمالها صيتاً نقدياً واحتفاءً فنياً، ونالت جوائز عديدة كانت حوافزها المعنوية أكثر وقعاً وتأثيراً من كونها تتويجاً في مهرجانات وأحداث سينمائية مختلفة، ونذكر من هذه الأعمال، فيلم: «الجارة»، و«الظل» و«عربانة»، و«حيوان»، و«ملل»، وغيرها من النتاجات اللافتة بصرياً وسردياً.
وفي الحوار التالي مع «الاتحاد الثقافي»، تتحدث الخاجة عن مشاريعها السينمائية القادمة والمتجهة بقوة في الفترة الراهنة نحو الأفلام الروائية الطويلة، ورغبتها في تكريس السينما المستقلة في المشهد المحلي، وتأكيد الجانب الفني كأصلٍ لا يمكن التخلّي عنه حتى في صالات العرض التجارية والجماهيرية.
وتشير الخاجة في بداية حديثها إلى أنها تعمل حالياً على الانتهاء من اللمسات الأخيرة على فيلمها الروائي الطويل والأول لها بعد سلسلة من الأفلام القصيرة التي أنجزتها خلال الأعوام الماضية، موضحة أن العنوان المبدئي للفيلم هو «ثلاثة» ويتضمن ثيمات من الرعب النفسي الصادر عن ممارسات اجتماعية خاطئة تهيمن عليها الذهنية القائمة على الخرافة، وعلى سطوة المشعوذين والسحرة والدجالين، حيث يكشف الفيلم عن كذبهم، وجشعهم المادي، وزيف أعمالهم. وقالت إن اهتمامها منصبّ على «الرسم بالإضاءة» في فيلمها الجديد هذا، وفي مشروعها التالي، الذي سيكون فيلماً طويلاً أيضاً بعنوان: «باب»، وهو من كتابة وسيناريو «مسعود أمرالله» الذي ساهم بقوة في انتعاش السينما الإماراتية شكلاً ومضموناً، ومهّد بجهده الفني والتنظيمي لتطوّرها منذ بداياتها المبشّرة في أواسط التسعينيات.

وأضافت الخاجة أن الإضاءة بالنسبة لها هي التي تصنع مزاج الفيلم، وتخلق التأثير الأهم بصرياً وحسّياً ودرامياً، مقارنة بالعناصر السينمائية الأخرى، وقالت إن الإضاءة بألوانها وأطيافها المتنوعة هي التي تمنح المشهد السينمائي قيمته وثقله؛ لأنها تترجم الحالة الداخلية للممثلين المتناوبة بين الحزن والفرح، أو بين الطمأنينة والتوتر، كما أنها تجسّد افتراضياً ما لا يمكن تجسيده مادّياً، مشيرة إلى أن فيلميها الطويلين القادمين سيكشفان عن الكثير من الأنماط التعبيرية الساحرة للغة الإضاءة، وطريقة توظيفها بالشكل الأمثل لخدمة القصة أو التحولات الدرامية في الفيلم.
واعتبرت أن سبب اهتمامها بالإخراج السينمائي هو قدرة الأفلام على احتواء كل العناصر الجمالية التي تعشقها، وجعلها في مكان واحد، فالسينما تحتضن جماليات المسرح والتشكيل والأدب والأداء الجسدي والموسيقا تحت مظلة مشتركة، وضمن نسيج إبداعي رفيع في خطاباته وإيحاءاته ورسائله، سواء على المستوى الفردي عند المخرج وكاتب السيناريو، أو على المستوى الجمعي لدى محبي الأفلام والمتابعين لها.
وحول مرحلة دراستها التخصصية للسينما في كندا، أشارت الخاجة إلى أن هذه المرحلة كانت مهمة جداً ليس على المستوى الأكاديمي فقط، ولكن على المستوى الشخصي كذلك، لأنها مرحلة اعتمدت فيها على ذاتها بشكل كامل، فصارت أكثر إصراراً على نسيان الرفاهية السابقة، وتجاوز الظروف الصعبة للتغير الاجتماعي والحس الطاغي بالاغتراب أو الانفصال عن البيئة التي اعتادتها قبل السفر والدراسة بالخارج. وقالت إن هذه المحطة الحياتية والأكاديمية كانت مفصلية بالنسبة لها، وجعلتها أكثر نضجاً ووعياً وقدرة على التعامل مع الظروف المختلفة، كما جعلتها هذه المحطة أكثر اطلاعاً على التيارات والمدارس السينمائية، بمواضيعها وتقنياتها وآفاقها الإبداعية وأنماطها السردية وطرائقها الفنية.وعن سبب ميلها للسينما المستقلة ذات المواصفات والشروط الصعبة نوعاً ما مقارنة بالسينما التجارية، قالت الخاجة إن الأمر يعود إلى ثقافة المخرج فهي التي تحدد خياراته الفنية وانتقاءه للموضوع الذي يراه محتشداً بالرؤى العميقة والأفكار النوعية والقصص الإنسانية المتقاطعة مع قضايا بحاجة لتفكيك فلسفي وتشريح نفسي وإلى نقد حقيقي للأسباب المؤدية إلى خلق هذه القضايا المقلقة والمؤلمة اجتماعياً واقتصادياً ووجودياً.
وعن الفوارق التي لمستها أثناء إخراجها للفيلم الطويل مقارنة بأفلامها القصيرة السابقة، أوضحت الخاجة أن الفيلم القصير عمره قصير أيضاً، وهو مرتبط أكثر بالمهرجانات السينمائية المتخصصة في عرض هذه النوعية من الأفلام، مؤكدة أنها لمست تغيراً لهذا التصوّر بعد شراء منصات عرض عالمية للأفلام القصيرة القادمة من الإمارات ودول الخليج والمنطقة العربية، واستدركت قائلة: «وعلى رغم ذلك فالفوارق كبيرة بين النوعين، فالفيلم الطويل يحتوي على تفاصيل متشعبة ومسؤوليات إنتاجية ومتابعات دقيقة وتكلفة عالية»، مضيفة أن الأمر يستحق العناء والجهد لأن الفيلم الطويل هو الذي يضمن بقاء اسم المخرج في الذاكرة السينمائية، وخصوصاً إذا قدّم فيلماً متميزاً ومختلفاً وقادراً على صنع التوازن المطلوب بين الشكل الفني والاستقطاب الجماهيـري.

تجليّات الذاكرة
عن مشروعها الفيلمي الطويل القادم والمبني على التعاون الإبداعي مع رائد السينما الإماراتية «مسعود أمرالله»، أوضحت الخاجة أن بداية هذا المشروع انطلقت من حدث غريب وهو عارض صحي داهمها وسبب لها إزعاجاً تمثل في طنين الأذن المستمر بتبعاته النفسية المؤلمة. وعندها بدأت بالكتابة عن هذه الحالة وصاغتها على شكل فيلم قصير، وعندما شاركت قصة الفيلم مع السينمائي والمخرج «مسعود أمرالله» تفاعل مع الفكرة، وشارك هو الآخر في الكتابة عن ذات الهاجس وصارت مساحة القصة وعدد الشخصيات أكبر من أن يستوعبها الفيلم القصير. ومع زيادة النقاشات بينهما حول التحولات السردية في الفيلم، وتفرغ «مسعود أمرالله» لكتابة السيناريو صار هناك هيكل فني واضح للفيلم، الذي وصفته الخاجة بأنه يقرن الفنتازيا بالواقع، ويجمع بين الحقيقي والمتخيّل، ويتضمن لوحات جمالية تحتفي بالفلكلور الشعبي، وتتجلى فيه الذاكرة المحلية فيما يشبه الغنائية البصرية. كما أنه يذهب بنا إلى مناطق سحرية وسريالية تتجاوز الشكل المباشر والنمطي. وتعاونت من أجل إيصال المحتوى الجمالي للفيلم مع الموسيقار العالمي «إي آر رحمان» الحائز على جائزة الأوسكار وغولدن غلوب، كي يؤلف موسيقا الفيلم استناداً للفكرة والصور الأولية التي شاهدها رحمان وتحمّس لها كثيراً. 
ونوّهت الخاجة إلى أن الفيلم يتناول قصة أختين توأم، تموت إحداهما، ولكن حضورها يظل طاغياً في حياة أختها التي تعيش «واقعيتها السحرية» بعد معاناتها من مرض «طنين الأذن المزمن»، وسط مناخات تعجّ بالأحلام والكوابيس والمخلوقات الغرائبية المرتبطة بالتراث الإماراتي القديم، وبالأساطير و«الخراريف» والمرويات الشفهية، التي تتجسد هنا في الفيلم وترتحل إلى ظلال روحانية وهيامات صوفية، من أجل اكتشاف أسرار رحيل الأخت وإماطة اللثام عن محتويات الشرائط الصوتية التي وجدتها في غرفة أختها الراحلة، والتي كانت بحاجة لمن يفك ألغازها بشكل تدريجي يتم تضمينه بصرياً في الفيلم، وصولاً للمشهد الختامي الذي تظهر فيه حقائق صادمة.

تحديات
عن التحديات التي تواجهها السينما الإماراتية، خصوصاً بعد توقف مهرجانات كبرى مثل مهرجاني دبي السينمائي الدولي، وأبوظبي السينمائي الدولي، وكذلك مهرجان الخليج في دبي، أشارت الخاجة إلى أن السينما الإماراتية تعاني من غياب البنية التحتية للسينما، والتي يمكنها أن تخلق صناعة مستدامة للأفلام في المكان، وتضمن استمرارية الحركة وتألقها مستقبلاً، للمشاركة الجادّة في المهرجانات الدولية مثل «كان» و«فينيسيا» و«برلين» و«صن دانس» وغيرها. وقالت، إن غياب هذه البنية التحتية دفعها لتصوير فيلمها الروائي الأول بعنوان: «ثلاثة» في تايلند لأن الصناعة السينمائية هناك نشطة جداً، كما أن التكلفة المادية والتبعات الإنتاجية أقل بكثير مما هو هنا في الإمارات.