في النمسا وجدت «أيقونة».. لأنه لا يمكن لأحد أن يرى تلك الفتاة التي تشبه لون الخشب بعد قشره للتو، أو تشبه تلك البتلات للزهور الوردية التي ظلت تتفتح ببطء على إيقاع القمر الكسول، أقول لا يمكن لأحد يفهم، أن يراها، ولا يطلق عليها تلك الصفة الكنائسية «أيقونة»، ثم أن تلك النعمة الطافحة قليلاً تعطي لجسدها نوعاً من الوقار المبكر رغم سنوات العمر النضر الأولى، ولولا تلك الارتجاجات الأنثوية التي لا تفتعلها إن راحت أو أتت، فتكون في عيون رواد مقهى «هافيلكا» في فيينا شيئاً من المشتهى، وشيئاً من التمني في أحلام مستعصية، وقد لا تأتي مطلقاً، لكنت لا أتخيلها إلا في لوحات جدارية زيتية، ببراويزها الذهبية المعتقة، تلك التي تتجوهر كلما أنقضت السنون، تسكن قصوراً عالية أو منازل عائلات عريقة تتوارث الأشياء. مازارين.. هكذا تمنيت أن يكون أسمها حينما لمحتها العين لأول مرة، وأصبحت لا تقوى إلا على اختلاس النظر إليها من حين وحين، ولولا الشعور بالمضايقة لها، وللنفس الأمّارة بالحب، لما رفعتها عنها، وعن تلك المشهدية الباردة التي تخلقها بين كراسي الجلوس في ذلك المقهى الكبير. أيقونة.. ما الذي أتى بها هنا؟ أشك أنه الهبل الجميل الذي فيها، ولا تدري عنه، أشك أنها تلك التربية الداخلية للجدران العالية والباردة، والزجاج المعشق الذي ينثر الضوء، وصلبان من خشب هنا، وهناك، أتت بها إلى هنا، معتقدة أن كل الرجال يشبهون أخاها، ويشبهون زملاءها المبجلين في صفوف مدارس الراهبات، حتى تلك الحُمرة التي تسفر في الوجه، أعتقد جازماً أنها نتيجة تعهد بالرعاية من قبل إحدى «أخواتنا» البتول منذ الصغر، كما لا يخفى على الجميع أنها نعمت بدفء جدة كانت تسرّب لها حكايا ما قبل المساء، وبحليب كامل الدسم أفاد عظمها، وأعطى للجسد عافيته المحببة. أيقونة.. وأي لباس يروقها! أيقونة.. وهي من تعطي للصباحات عطرها، ثمة لمعان في كل مكان، أسفل الخد، بمحاذاة الكتف، أعلى أرنبة الأنف المستدق، تجاويف الأذن، وشيء منه كثير إذا ما ضحكت عن ثغر رضابه من عنب وسكر وخمر حلال، أيمكن أنها لا تدري بكل هذا السحر الذي يسكنها؟ أيمكن أن تعيش في جنتها، لا توقظها أنوثتها، ولا حلم اشتهاء تلك الثمرة من شجر مقدس، وطلعه نضيد، أيقونة.. وتعيش براءتها، ولا تحيد. أيقونة.. تلك «مازارين» التي تمنيت اسمها، وحلمت برسمها في صباحات ظلت تتكرر في فيينا، ولعلها كانت حلم الكثيرين، عابرين كانوا أم مقيمين، وكل يوم نخطو بخطوات سراعاً نحو ذلك المقهى نتمنى أن لا نسمع أنها غادرته، فمكانها أكبر من تلك المساحة المليئة بالكراسي والطاولات، وهي من تُخدم لا تَخدم، لكنها المسكينة كانت لا تدري عن أحلام الرجال تلك، ونكمل غداً.. amood8@alIttihad.ae