يصرخ المرء ملل.. ملل، ويصف له الآخرون جرعة سعادة، فيصفون له دواء من خارج محيط الدائرة النفسية، فيذهب باحثاً عن وسيلة ما تذهب عنه الملل، وتزيح عن خاطره الكآبة، وتنزف عنه الانقباض. ماذا تقول الوصفات؟ غيّر مكانك، سافر، ارحل إلى بلد ما فيها تجد نقاهتك، أو استبدل أثاث منزلك بأثاث جديد يجلب لك الراحة، أو ابحث عن سيارة جديدة بدلاً عن سيارتك القديمة التي ينقبض لها القلب جراء سماع زمجرتها المدوية التي تصم الآذان. يفعل المسكين كل ذلك، وينفذ النصائح حرفياً، وبعد زمن يجد نفسه يغوص في محيط من الرياح العاتية، التي تجرد شجرة القلب من أوراقها الخضراء، ويشعر بالإحباط، لأن كل ما قام به من أفعال وأعمال، لم يغير من الحال شيئاً، بل راكم الديون على كاهله، وتلقى الانتقادات من القريبين والبعيدين، وأصبح مقيداً مصفوداً بأغلال البنوك التي تلاحقه، كما تفعل المفترسات بالفرائس. كل ذلك يُنشئ غياب الوعي والإحساس المبهم، بأن علاج النفس يبدأ من الخارج، وأن السعادة المنشودة تكمن في غابة الأشياء المادية، ولو تأملنا الصراعات النفسية التي ترهق وجدان الناس، هي عواصف تهب من جهة الخارج، بينما السعادة ضامرة في الداخل، عندما يتخلص الإنسان من تبعات المثيرات الخارجية، ويقتنع أن سعادته هي هنا، في القلب. هذا القلب إن صفت مياهه، وتنقت من بكتيريا المباهج، أصبح الإنسان حراً، كريماً، طليقاً، مثل الصقور في السماء الزرقاء، أصبح لا يكتظ بالمطالب، وكما يقول المثل: كن الأقل، تكون الأكثر، فالإنسان لا يكبر إلا عندما يتخلص من رغباته، وعندما يتحرر من نزواته، ويعيش هو لا كما يريده الآخرون. عندما تذهب إلى الحياة بمفردك، تكون خفيفاً، ولا يثقلك لهاث الآخرين، ولا يعرقلك نعتهم لك. فكن أنت، ولا تطلب من الغير أن يحدد شخصيتك، فسوف تشعر بأن نسمات باردة تتسلل إلى صدرك، وتملأك بالانتشاء، وتجلسك في مكان خال من الغبار والرطوبة. املأ قلبك بالقناعة، فهي وحدها سوف تنقيك من الملل وتجعلك مثل الطير، تحلق مرفرفاً عازفاً لحن الخلود، تجعلك مثل الفراشة، تلون الوجود بألوان الفرح، تجعلك مثل الوردة، تعطر الكون بشذا السعادة، تجعلك مثل النهر، مهما تساقطت في أحشائه أوراق الشجر، فلا يضحل ولا يمحل، يبقى أبدياً في صفائه، ووفائه للحياة. السعادة هنا في داخلك، فابحث عنها، السعادة مثل حسناء، إن لم تعرف ترويضها فلن تحظى برضاها، وستبقى أبد الدهر تلطم الخدين ندماً على عصيان السعادة، على الرغم من أنك أنت الذي فرطت في الذهاب إليها، لأنك ضللت الطريق، وذهبت إلى مكان آخر، هو الخارج، وما الخارج إلا سراب، أنت تصنعه وتصدقه.