لم يكن للحرب يوماً وجه أنثى، فهي أقصى ما يمكن للبشاعة أن تكون، وهي محملة بأقسى أنواع المآسي، لا تترك مكانها فقط خرباً، ومصطبغاً بالرماد، لكنها تخلف حالات إنسانية ممزقة، وخاوية من الروح، وقابلة لأن تبايع الشيطان بأبخس الأثمان، هكذا هي الحرب في الداخل، وهي في الخارج نزيف لا ينقطع، وقصص دامية لأشباح لا يعرفون المكان، تنتقل بأعبائها المثقلة بالحزن والقهر وغلبة الرجال، تلفظها المدن الكبيرة، والمراسي تبعدها للمراسي، وكم للبحر أن يحتمل تلك الجثث المرمية والطافية، ومن يسلك من تلك المسافات كطيور مهاجرة، ويكاد يصل البر الآمن يجمده الزمهرير كتماثيل محروقة. اليوم تتنازع قصص السوريين مدن لا تعرف الشفقة، ومدن تسمح بالنهش في اللحم الآدمي، ومدن ما عساها أن تفعل إلا الفرح بتلك المهنة القديمة قدم التاريخ، ومدن تخشى من أنفسهم عليهم، هكذا في كل ركن ثمة قصة لعائلة سورية مختبئة بالستر، وما يحزن، راضية بثقل تلك الريح على الرؤوس المنحنية غصباً، لا شيء يمكن أن يعوض ذلك الغدر الذي هجم فجأة، وقلب الحال لأسوأ مآل، وليت ذلك النزيف لشاب خاطر بنفسه إلى جهة بعيدة أو رمى حقيبته على ظهر البحر وتبعها بساعدين سيقويهما الموج والريح، وليت تلك القوافل لا تجر أطفالاً ورضعاً، وعجائز ستضطر القافلة أن تبني قبوراً على عجل على قارعة الطرق المتعددة، وليتها لرجال ودعوا السلاح، نحو فضاءات الحرية والعيش بهدوء، وتساقطوا واحداً واحداً، ولكن القافلة، هي أسر وبيوت متنقلة تسحب عذاباتها، وتجر آلام صلبها، ناشدة الخلاص قبل هبوط المخلّص، عائلات سورية كان يدفئها الستر، واليوم تبغي الدفء، ولو كان تحت جدار متهالك، بلا سقف ولا ستر، فمن يسوم الوجه، يخلع جلباب الستر، ذلك ما يحدّث به الليل في مدن كثيرة عن من لفظتهم الأرض بما رحبت، وعن الوطن حين يعجز الكف، وحين يكف البصر، وحين يسمح للديار أن تتناهبها الديار. لمثل هذا يذوب القلب من كمد، إنْ كان في القلب إسلام وإيمان، من يريد الخير ويتتبع تلك القصص والحكايا الشامية، سيجد في زاوية باردة في مدن أوروبا ألف حكاية وحكاية، على أطراف هوامش الطرقات والقرى البعيدة ثمة حكايات عن جرح أريد له النزيف، ولن ينتهي، وعن حكايات عائلات لا غاية لها اليوم إلا الشرف.