ثم فرق بين أن تودع لمثواك الأخير وسط حزن في القلوب، ودموع محتبسة في المآقي، وللخطوات الثقيلة نحو السكون الأبدي، وقعها المؤثر على أديم الأرض، وأن تلف في بطانية لا تدري لمن، وما فيها من تلوث، وعفن الرمي، تلك البطانية التي ستختصر كل حياتك وتاريخك والذي انتصرت فيه لشخصك دون كلمة التاريخ، فالتاريخ هو الوحيد الذي لا يظلم أحداً، وإنْ وجد ذلك الظلم، فسرعان ما تصححه سيرورة الزمن، وصيرورة الإنسان في إعمار هذه الأرض وتحضرها، وسمو قيمها. مشاعر مختلطة ومتناقضة كلما افتقدنا فناناً من ذاك الزمن الجميل، والذي شكلّ ذاكرتنا، وعبّر عن لحظات حزننا وتجلينا، ورافقنا في مراحل العمر، وتقلبات الحياة، مثلما فعلت «شادية» التي كانت كظل من الحياة بارد، وظل في الذاكرة يشتعل، استحقت أن تشيع جنازتها بكل تلك الهيبة والوقار اللذين تستحق، وبكل تلك الدموع التي ذرفت عليها في بيوت الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، وهم ينعونها مثلما ينعون حالهم وحال الزمن الجميل، وكلما فقدنا شخصاً كان يتمنى أن يكون أبدياً في مشهده المأتمي الأخير، لينزل من عليا الدنيا التي اعتلاها إلى قاع ذاكرة التاريخ، وإذلال المشهد الأخير من حياته التي لَم يخلص فيها إلا لنفسه، كلما مر مشهد الجنازتين، واحدة بحزن دفين، والأخرى بتشفي الفرح، أتذكر تناقض جنازتين، واحدة لفنان شكّل جزءاً من ذاكرة الناس، فسارت خلفه بمئات الألوف، وبحزن الملايين، وواحدة لرجل تغطرس على التاريخ، فذهب وحيداً تلفظه المدن. وحدهم من فهموا التاريخ، أجبروا التاريخ على أن يمشي في جنازاتهم، هناك من لم يستمعوا يوماً لحكمة رجل بدوي، فهم التاريخ مبكراً، ولَم يقتدوا بأفعاله لإسعاد شعبه، ولا اهتدوا بأعماله للخير والبر والإحسان للإنسان في كل مكان، صديقاً وشقيقاً وإنساناً خالصاً، لروح زايد الرحمة والطمأنينة، والدعوات المخلصة من ملايين لم يعرفهم، ولكنهم يعرفونه، ويعرفون حكمته، وصدق عروبته، وبياض كفيه.