لذة السفر أنه يخرجك من تفاصيل يومك المعتاد، والتي تكبل يديك، وتثقل قدميك، بأشياء تعرفها، وأخرى لا تدري عنها، ويظل ذاك الرأس يسابق الوقت ليحل كل المواعيد، ويلبي كل الطلبات، لذا تشعر في السفر أنك خفيف، ولا تدري كم من الأثقال تخلصت منها، وأن أكثرها بلا داع، وبعضها يمكن الاستغناء عنه بسهولة، والبعض الآخر لو أجلته ليوم آخر، فلن تفتح عكا، ولن يخرب سورها، والبعض منا يزيد على ذلك أنه يتدخل في أشياء ليست له، ويحل هذه، ويتخلص من تلك، ويرمي الباقي على الآخرين. كانت رحلة الهند الملوكية على طريقة «المهراجات»، حيث تستقبلنا صفوف من النساء من اللاتي سبق لبعضهن العمل «كومبارس» في سينما «بوليود»، يطوقن أعناقنا بطوق من الزهور الصفراء والبرتقالية، ترحيباً بضيوف الهند، وتلك الصينية النحاسية التي فيها من الأعشاب والسكاكر الكثير، ويضعن على جباهنا تلك الحبة أو النقطة الحمراء التي تسمى بمسميات مختلفة، حسب اللون، والمكان الذي توضع فيه، والشكل الذي تتخذه، وأحياناً تدل على حالة اجتماعية، دون السؤال المتكرر عنها، مثل «بيندهي، بوتتو، تيلاكام وتيكا وسيندور وكوكوم، وآرنا»، وهي تقليد هندوسي قديم، يمنح التركيز، وتوليد الطاقة، ويجلب الحظ، ويطرد الشياطين، وهي عادة ما توضع في عقدة التقاء الحاجبين أو توضع كخط على الجبهة أو في منتصف الرأس عند النساء. في مدينة «دلهي» الوقورة كأي عاصمة ناضلت كثيراً لكي تحظى بمثل ذلك الشرف، تبقى محافظة، ولا تعطيك من أسرارها إلا ما يعينك على المعرفة بقدر الحاجة، وربما الشيء الوحيد الذي تفخر به كأي عاصمة تلك المباني الحكومية والرسمية، وتباهي سفارات العالم فيها، غير أن «دلهي» يميزها شيء آخر، وجود «قطب منار»، وهي منارة تصل ثمانين متراً، شيد أساسها «قطب الدين أيبك» عام 1193م، ثم السلطان «ألتمش» شيد ثلاث طبقات منها، ثم السلطان «فيروز شاه» أكمل الطبقة الخامسة، ويضم المجمع حولها مسجد «قوة الإسلام» وهو أول مسجد بني في الهند، وضريح السلطان «ألتمش» من المماليك الأتراك. من «دلهي» انطلق بنا قطار المبيت، والذي يضاهي القطارات التي عرفتها بعض الشعوب مثل «قطار الشرق السريع» الذي خلدته الروائية البريطانية «أغاثا كريستي» في أحد أعمالها، كذلك خلدته السينما، كان خط سيره الذي يمر بك القرى المتناثرة هنا وهناك، كانت الخدمة فيه تليق بسفراء جاؤوا في مهمة سلام وسينجزونها على أتم وجه. جلنا في مدن عدة مثل «جيبور» وغيرها، لكننا لا نطرب من الهند إلا إذا وصلنا مربط خيلنا «بومبي» والتي نصرّ ألا نسميها بمسماها الجديد «مومبي»، وفيها تحول أولئك السائحون الذين تبدو على أكثرهم الجدية، والتعاطي مع الأمور بصرامة غير ضرورية إلى «فزّيعة مِلجه»، وما خلينا «لا خلقان ولا عود ودهن عود ولا قشرات الهند إلا طرّ وقايس، وإلا بالتولة والتولتين والعشر، يوم في دكان «هريس» و«أجمل» ويوم في محلات شارع «محمد علي رود»، تقول: «يايين نتقضى لزهبة عرس، وإلا بيصبح علينا باجر.. عندنا مكسار»!